الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الرابع/ 5

دلور ميقري

2020 / 9 / 4
الادب والفن


كان علي يتقلب على جمر القلق، مترقباً طوال الوقت الطريقَ الوعر، المار من أمام الدكان والمفضي إلى دار أسرته. معلّمه، آكو، لحظَ ما اعترى أجيره من علامات الهم منذ حضوره إلى العمل صباحاً. ولأن فتيات الحارة العليا، الدرزيات، كن يخطرن من أمام الدكان في طريقهن إلى السوق أو المدرسة، افترضَ المعلّمُ أنّ الفتى متعلقُ القلب بإحداهن. لكن طبيعة الرجل، المتسمة بالتحفّظ والصرامة، منعته من وضع ذلك الافتراض على محك الواقع. عصراً، عندما انعدمَ تقريباً وجودُ زبائن، أرسل أجيره إلى المنزل. هذا الأخير، حمل كعادته كل يوم صندوقاً صغيراً، يحتوي على القليل من الخضار والفواكه، يمنحها المعلّم كنوع من الأجرة. بوصوله إلى المنزل، اتجه إلى حجرة النوم كي يستلقي وقد هدّه الارهاق، الناتج عن التفكير طوال الوقت بشقيقه الكبير. تأخره في الحضور من الخدمة إلى هذه الساعة، عدّها علي دليلاً على أن خطة الهرب دخلت حيّز التنفيذ إن كانت نتيجتها النجاح أو الفشل. بينما كان يهوّم بمثل هذه الأفكار، داهمه النعاس.
العتمة، كانت مطبقة في الحجرة حينَ خيّل للفتى أنه سمعَ دقاً عنيفاً على باب البيت. لما فتحَ عينيه، ظنّ للوهلة الأولى أنه كان يحلم. ولكن هيَ ذي الأم، وقد ظهرَ شبحها عند باب الحجرة، تبادر لإخباره بأن رجال الحكومة يسألون عن ابنها الكبير. هُرع إلى ناحية باب البيت، وهوَ لا يشك أنّ شقيقه قد أفلتَ مع السجين، المحكوم بالموت. قابله ضابطٌ بيده عصا صقيلة، ما أسرع أن همز بها صدره، هادراً بصوتٍ آمر: " سنفتش المكان، أيها الفتى، وما عليك إلا أن تسير أمامنا لفتح الطريق ". لكن والدته كانت قد لحقت وجمعت أفراد الأسرة، فقالت له أنهم ذاهبون إلى منزل آكو لحين أن ينتهي رجال الحكومة من مهمتهم. هاجسٌ، همسَ له عندئذٍ أن الأم على علمٍ مسبقاً بخفايا الأمور، وربما عن طريق امرأة ابنها. ذلك أن حسني أكّد في آخر لقاء جمعهما صباح اليوم، أنه لم يخبر والدتهما بما عزم عليه في شأن انقاذ الشيخ البدويّ من حبل المشنقة. عقبَ الفراغ من التفتيش، عادَ الآمرُ للدق على صدر علي: " أما أنتَ، فإنك موقوفٌ بغيَة التحقيق معك في مقر قيادة الدرك "، قالها ثم أومأ لعناصره بتنفيذ الأمر.

***
كون الوقت متأخراً، عهدوا به هناك في المقر إلى خفيرٍ، ما عتمَ أن قاده إلى مهجع يعج بالموقوفين في قضايا مختلفة. وإذا الخفيرُ يخاطبه بالكردية عند باب المهجع، وكان يتثاءب: " الليلة باردة، وسأوصي لك بعدة بطانيات كي تتمكن من النوم ". لقد عرف أنه من أبناء جلدته، وعلى الأرجح من ملابسه التقليدية. ثم خاطبَ على الأثر أحدهم، داعياً إياه بصفة الزعيم: " أوصيك بهذا الفتى، فتدبّر لمنامته البطانيات اللازمة ". هبّت على الفور رائحة كريهة من المكان، المضاء بمصباح كهربائيّ شاحب الضوء، وسرعان ما صارَ القادمُ الجديد يُميّز أشكال المتواجدين. " الزعيم "، وكان رجلاً متوسط العُمر، أعور وذا ملامح شرسة، أخذ يسحبُ عدداً من البطانيات من تحت أصحابها دونَ اكتراثٍ حتى بمن كان قد استسلم للنوم. شكره علي، قائلاً بنبرة المعتذر أنه لن يبقى سوى ليلة واحدة.
" أحدهم ظنّ أنهم سيطلبونه للتحقيق بعد بضع ساعات، وهوَ هنا منذ عدة أشهر "، ارتفع صوتُ أحدهم من ركن عتم. ثم أضاف الرجلُ مع قهقهة مستهترة: " وهوَ أنا، أيها الشاب المتفائل! ". شارك آخرون في الضحك والتعليق، لحين أن زمجرَ " الزعيمُ " طالباً من الجميع العودة إلى الاخلاد للنوم. وجد علي لنفسه مكاناً بالقرب من الباب، ففرش بطانيتين تحته وتغطّى بمثلهما، جاعلاً وجهه على جانب كمألوف عادته في النوم. فكّر بشيء من القلق قبل الاستسلام للنعاس: " أمن الممكن أن أنسى هنا لعدة أشهر، مثلما ذكرَ ذلك الرجل الأخرق؟ ".

***
ولكن في نهار اليوم التالي، حضرَ حارسٌ لمرافقته إلى حجرة التحقيق، وكانت تقع في الدور العلويّ من المبنى. كانت حجرة ضيقة، بالكاد تتسع لمكتب وبضعة كراسي، نافذتها الوحيدة، العريضة، أسدل عليها ستارة سميكة. الأشخاص الثلاثة، الذين اتفتوا إليه حينَ دخل، كانوا يرتدون السترة الأفرنجية لا هندام الدرك. من خلال وجودهم هناك، وكان أحدهم يجلس خلف طاولة مكتب، أدرك علي أنهم يعوّلون على إفادته في معرفة المكان، الممكن أن يكون شقيقه قد توجه إليه مع الشيخ البدويّ. خاطبه ذلك الجالس خلف طاولة المكتب، ومَن لاحَ أنه المحقق، بلهجة جافة: " خيرٌ لك أن تتكلم بصدق، لأنك ما زلتَ بنظر القانون مواطناً أجنبياً وفي وسعنا إعادتك لتركيا ". أراد علي أن يقول شيئاً، وقد دهمه الرعب من التهديد، غير أنّ مخاطبه تابع كلامه: " أنتَ تعرف أينَ مضى شقيقك مع الشيخ السجين، أليسَ كذلك؟ "
" لا أعرف سوى أن أخي يخدم لديكم في الدرك، وليلة أمس جئتم تبحثون عنه في منزلنا "، رد علي وهوَ يزدرد ريقه. تدخل رجلٌ آخر في التحقيق، وكانت لهجته أجنبية توحي بأنه من أصل شركسيّ؛ وهذه الملة، تذخر وزارة الداخلية بأبنائها. قال الرجل للشاب الموقوف: " واضحٌ أنك تكذب، ولعلك لم تأخذ على محمل الجد قدرتنا على تسليمك إلى تركيا في حال لم تتعاون معنا "
" أقسم لك، يا سيدي، أنني أتكلم الصدق "، قالها علي دونَ أن ينظر إلى مخاطبه. لكنهم لم يقتنعوا ببراءته، واستمروا في طرح السؤال تلوَ السؤال. بعد نحو ساعة، أعيد هذه المرة إلى زنزانة تقع في نفس الممر، أينَ يوجد مهجع الليلة البارحة. سيدعونه هنا ليلتين، عانى فيها بشكل خاص من البرد. ثم ما لبثوا أن أطلقوا سراحه، بعدما أخذوا منه تعهّداً بإعلامهم لو اتصل شقيقه معه بطريقة ما.
في العام التالي، وبمناسبة عقد معاهدة بين الدولة السورية ودولة الانتداب، صدرَ عفو عام شملَ فيما شمله أولئك الهاربين من وجه القانون لأسباب سياسية. وقد تأكّدت حظوةُ حسني بالعفو، لكنه استغله في جلب عائلته إلى عمّان. بينما شقيقه ووالدتهما، بقيا في دمشق. أربعة أعوام على الأثر، وقرر الدركيّ السابق أن الوقتَ قد حانَ لزيارة أسرته وأقاربه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث