الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طائرة - من ذكريات الحرب في العراق

مهند سرحان
مستشار تطوير قيادي وكاتب

(Muhannad Sarhan)

2020 / 9 / 5
الادب والفن


كنت صغيرا لم اتجاوز العاشرة من عمري .. اركب مزلاجي .. اتجول في شوارع حينا وفي خيالاتي .. ارفع يدي احيي جيراننا “هلو عمو .. هلو خالة” وانا منطلق بلا هدف … ابحث عن صديقي في الشارع الخلفي : حسن،اين انت يا صديقي.. ذهب الاصدقاء واختفى الجيران .. ذهب عمو وذهبت خالة .. اختفوا خلف ابواب البيوت .. ابواب حديدية يعلو بعضها الصدأ .. يذكرك بقدم واصالة هذه البيوت .. بقيت وحدي مع شوارع حينا .. اجول فيها وفي خيالي … اسمع صيحات الخالات من خلف الجدران .. يخبرن اطفالهم بان يدخلوا البيوت فوراً .. بان يختبئوا من الكاسر … بان يحذروا الشر المتربص في الخارج

يا اصدقائي ويا جيراني اين تذهبون؟ 

وظهر الشر المتربص من خلف الغيوم … يجلب معه الموت والصدى والرعب .. يجلب معه ضياءاً لم لم تشاهدوه من قبل .. يحمل تحت اطرافه ناراً لم تعرفوها، اعدت لتذيقكم طعم هذا الشر … يجلب معه رعداً هادراً مفزعاً … يجلب معه عوزاً وتشريداً وتيتيماً

نظرت الى السماء … اشاهد الشر الحديدي اللامع … كانت طائرة امريكية من طراز اف ١٦ او اف ٢٢ او قد تكون اف ١٥ .. وما ادراني انا، لم اهتم قبل ذاك اليوم لا بعده لأنواع الطائرات الامريكية او العراقية … نظرت اليها تعلو من خلف غيمة .. كانت بعيدة خلف الأفق، وصوتها قريب جداً وكأنها تطير عند اذنيّ.

وقفت اشاهدها .. احاول التوازن على مزلاجي .. لا زلت وحيداً في الشارع، لا زالت تعلو فوق الغيم .. تخترق السماء وتمر عبرها .. لا شيء يقف بوجهها .. كانت صافرة الانذار قد انطلقت قبل قليل ولم انتبه لها .. لم تكن صافرة الانذار تعني لي الكثير .. لم يخفني سماعها حين كنت صغيرا، كما اصبح يخيفني بعد عدة سنوات .. لأنني اصبحت اعي اكثر ما كانت تعني تلك الصافرة وتلك الطائرات.

كم هي جميلة هذه الرشيقة .. ترتفع من خلف الغيمة لتعود الى الانقضاض .. كحوت سريع يصعد الى الاعلى ليغوص مرة اخرى .. ها هي تنقض الى الاسفل … شاهدتها تطلق صاروخاً او اثنين .. ذهبا الى مستقرهما الاخير .. يحملان موتاً ودماراً وتشريداً للبؤساء في الاسفل … لبؤساء لم تحمهم امهاتهم وتدخلهم داخل البيوت المحصنة .. وان ادخلتهم فلن يغير ذلك شيئاً .. ستنهار هذه البيوت على رؤوس قاطنيها تحتضنهم .. تختطفهم لمستقرهم الأخير.

أعلنت الصافرة المستمرة انتهاء الغارة … واختفت تلك الرشيقة من السماء .. ودفعت زلاجتي لأعود الى المنزل .. امي قلقة كالعادة تقف بالباب، تسالني لماذا لم اعد الى المنزل قبل الآن؟ ماما كنت العب، كنت اشاهد المقاتلة، لا تخافي علي لن يحدث شئ لي .. ان الطائرة بعيد ولن تؤذينا .. انها تقصف اناساً اخرين .. بشراً اخرين غيرنا .. لن يعودوا اليوم لمنازلهم او لمدارسهم او لاعمالهم .. لن يستيقظوا في الصباح ليشموا صمونهم الحار للإفطار .. لن يقبلوا احبائهم قبلة وداع .. لن ينظروا بعد الآن في عيون اصدقائهم وجيرانهم.

ولكن الطيار سيعود اليوم الى مقره، سيعود ليأكل وجبة ساخنة دسمة .. ليست لذيذة كالتي سيأكلها في منزله .. ولكنها ستفي بالغرض في الوقت الحالي … سيعود لينام في فراشه هذه الليلة .. اتراه سيفكر باولئك الذين ارسلهم الى جنة الفردوس .. وكيف سترفرف اجنحتهم لترفعهم الى السماء .. سيعود غداً ليرى ابنه ويحتضن امرأته .. يحكي لها واصدقائه عن بطولاته .. ويعطي ابنه لعبته .. طائرة اف ١٦ او احداهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل