الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما بعد أرض الميعاد

صبحي حديدي

2006 / 7 / 4
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


في قصيدته «سيّاح»، يروي الشاعر الإسرائيلي (الألماني الأصل) يهودا عميحاي الحكاية التالية:
"ذات يوم جلست أستريح على الدرج المحاذي لبوّابة برج داود، ووضعت جانباً سلّتَيّ الثقيلتين. وكانت مجموعة من السيّاح تتحلق حول دليلها، فوجدت أنني أصبحت نقطة علاّم بالنسبة إلى ذلك الدليل: «أترون ذلك الرجل الذي يتوسط سلّتين؟ أعلى رأسه، وإلى اليمين قليلاً، يوجد قوس من العهد الروماني. إلى اليمين من رأسه تماماً». وهتف السيّاح بضيق: «ولكنه يتحرك كثيراً». وقلت في نفسي: لن يأتي الخلاص إلاّ حين يقول الدليل: «أترون ذلك القوس من العهد الروماني؟ ليس القوس مهماً، ولكن إلى الأسفل واليسار قليلاً يجلس رجل اشترى سلّتين من الفواكه والخضار لأسرته».
الصحافي الأمريكي غلين فرانكل اختار هذه الحكاية لتصدير كتابه «مابعد الأرض الموعودة: اليهود والعرب على الطريق الوعرة صوب إسرائيل الجديدة»، الذي صدر سنة 1995 وأثار نقاشات مشهودة، وحصد العديد من الجوائز (بينها جائزة بوليتزر الشهيرة). وفرانكل شغل منصب مدير مكتب صحيفة «واشنطن بوست» في القدس خلال طور عاصف من تاريخ الدولة العبرية، وهو الرجل الذي أثار الكثير من الحرج «العاطفي» بين الصحيفة المنحازة والدولة المتمتعة بالانحياز، وذلك في نيسان (أبريل) 1988 حين سحبت السلطات الإسرائيلية بطاقته الصحفية عقاباً على اتهامه الجيش الإسرائيلي باغتيال خليل الوزير (أبو جهاد).
المرء يستعيد هذا الكتاب في مناسبة البربرية الإسرائيلية الراهنة في قطاع غزّة، وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة في الواقع، والتي تعيد التشديد على معظم الأطروحات التي ناقشها فرانكل، وحذّر منها آنذاك، حين تناول ما سُمّي "عملية" السلام العربي ـ الإسرائيلي من زاوية خاصة، بل حبلى بالخصوصيات: الشخصية اليهودية، ومدى ما أتيح ويتاح لها من فرص ومناسبات وأوضاع لكي تتصالح مع التاريخ الذيسيّج و يسيّج تلك السيرورة، وألقى ويلقي بظلاله الكثيفة عليها، شاء اليهودي أم أبى. وأمّا رسالة الكتاب فقد كانت بسيطة بقدر ما هي ضاغطة في استحقاقاتها السياسية والسوسيولوجية والسيكولوجية: ثقافة الحصار التي ظلّت تغذّي الشخصية اليهودية داخل (وإلى حدّ ما، خارج) الدولة العبرية، ينبغي أن تنقلب أو تتراجع أو تزول. وسرعان ما ستُطرح على جدول أعمال الحياة اليومية مسائل أخرى تفرّق بعد أن كانت توحّد، وتسبب الإنشقاق والشرخ بعد أن كانت تسبب التراصّ والتلاحم.
الهرب من جداول الحياة اليومية لمواطني أيّة أمّة سليمة الوجدان، ثمّ صحيحة الجسد والروح قبلئذ، هو علامة على أنّ تلك الأمّة ناقصة موضوعياً، أو منتقصة في ذاتها وبذاتها، وبالتالي فإنّ ما يغذّي شخصيتها الوطنية ليست العناصر التي تصون وجودها وتحصّن مستقبلها، بل تلك التي تفعل العكس تماماً: تنخر البنيان، وتقوّض الدعائم، وتفضي إلى الهاوية. واليوم حين يقول رئيس الوزراء الفلسطيني اسماعيل هنية إنّ إسرائيل تمارس شرعة الغاب، وهذه مجرّد واحدة من دلائل النخر والتقويض والهاوية، فإنّ المعلّق الإسرائيلي جدعون ليفي يكاد يبصم بالأصابع العشرة على هذا التشخيص حين يكتب، يوم أمس في صحيفة "هآرتس"، أنّ ما يقوم به جيش الإحتلال الإسرائيلي ليس فاقد الشرعية تحت أيّ معيار فحسب، بل هو إرهاب في إرهاب: "ليس شرعياً أن تقطع الكهرباء عن 750 ألف آدميّ. وليس شرعياً أن تدفع 20 ألف آدميّ إلى ترك بيوتهم، وتحويل بلداتهم إلى مساكن أشباح (...) الدولة التي تمارس هذا لا يمكن، بعدئذ، تمييزها عن المنظمة الإرهابية".
فكيف إذا كان أحدث توصيف لهذه الدولة هو أنها "واحة الديمقراطية" في بيداء الشرق الأوسط، وأقدم تسمياتها أنها "أرض الميعاد"؟ ما الذي يتبقى من قِيَم أخلاقية وراء هذا الفردوس الموعود، الذي لا يتحوّل إلا إلى دولة عسكرتارية، إرهابية، بربرية؟ أين يخمد أو يتواصل الإحتقان بين مفهومها عند ساسة من أمثال تيودور هرتزل، دافيد بن غوريون، مناحيم بيغن، إسحق رابين، أرييل شارون؟ أو عند فلاسفة وكتّاب من طراز مارتن بوبر، يشعياهو ليبوفيتش، توم سيغيف، دافيد غروسمان، عاموس عوز؟ و«أفواج الحالمين»، كما وصفهم إشعياء في رؤياه، هل سيصمدون طويلاً في ربقة حلم ينتفخ وينتفخ، ولا يكاد ينذر إلا بالانفجار الشديد... جرّاء الانتفاخ الشديد؟ وأيّ تطبيع اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي مع هذا الجوار الضارب بعيداً في تاريخ كوني شامل، غير عادي وغير محلي؟ وأي كيمياء شرق ـ أوسطية عجيبة تسوّغ لرجل مثل شمعون بيريس (حامل ثلث جائزة نوبل للسلام!) أن يتحدث عن تعايش الذئب والحمل؟
أسئلة كثيرة سعى فرانكل إلى الإجابة عنها حيثما أسعفته الوقائع بالمادة الدامغة، والأرجح أنه سيضيف إليها المزيد من الأسئلة المماثلة إذا توجّب أن ينظر مجدداً في التحوّلات الراهنة للشخصية السهودية، هذه التي تواصل خواف السلام وعشق عقدة الضحية في آن معاً. الأرجح، كذلك، أنه سوف يبدأ من نموذج إسرائيلي معاصر يعيد التذكير بمغضلة عميحاي (اليهودي المواطن، واليهودي الشاعر، واليهودي القابع أسفل العلامة التاريخية): ذاك الذي ينوء بأثقال الحياة اليومية، ولا يخدم الدولة العبرية إلاّ على هيئة نقطة علاّم توشّر ـ أمام فوج سياحي ـ على قوس روماني!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #ترامب يهدي #بايدن أغنية مصورة و النتيجة صادمة! #سوشال_سكاي


.. التطورات بالسودان.. صعوبات تواجه منظمات دولية في إيصال المسا




.. بيني غانتس يهدد بالانسحاب من حكومة الحرب الإسرائيلية


.. صحفيون يوثقون استهداف طاي?رات الاحتلال لهم في رفح




.. مستوطنون ينهبون المساعدات المتجهة لغزة.. وتل أبيب تحقق