الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمّي … التي تموتُ كلَّ يوم!

فاطمة ناعوت

2020 / 9 / 9
حقوق الانسان


Facebook: @NaootOfficial
ستموتُ أمّي مساءَ اليوم، في تمام الساعة الثامنة ونصف مساءً. ويقعُ الخبرُ على قلبي كصاعقة مروّعة، وتميدُ الأرضُ بي، كما يتزلزلُ جبلٌ إثر بركانٍ جائح. أنخرطُ في نوبة بكاء هيستيريّ نصفَ يوم؛ رافضةً تصديقَ أن هذا العالم صارَ من غير أمي. ثمّ أستسلمُ للدموع الصامتة أيامًا، وأسابيعَ. وفي الأخير، أغرقُ في بحر الخوف والقلق من الغد الموحش دون أمٍّ، سنواتٍ طوالا، ربما لا تنقضي.
وكعادتي الدائمة في محاولة تجميل الفواجع؛ بالبحث في لُبِّها عن أي ملمح فرح، والتفتيش عن بصيص نور في قلب الحلكة، سأقول لنفسي: (ماما ماتت خلاص! يعني مش هاتموت تاني بُكرة أو بعده! ممتاز! يعني مش هاعيش تاني لحظات الرعب من موتها وفقدانها. لأنها بالفعل ماتت خلاص، وقُضي الأمر.) وأظلُّ كلَّ يومٍ أهنئُ نفسي على "معجزة" أن أمي لن تموت غدًا أو بعد غد. (وأُغفلُ أن أُكمل بقية الجملة: لأنها ماتت بالفعل!).
ولكي أؤكد الفكرةَ، كتبتُ في "عيد الأم" التالي لوفاتها بجريدة "المصري اليوم" مقالاً عنوانه: (صوتُ أمي لا يطيرُ مرتين)، استهللتُه بقولي: أرحمُ ما في موت الأمهات؛ أنهنّ لن يَمُتن مرةً أخرى. جميلٌ أن ينتهي رعبُ المرءِ من فكرة "فقد أمّه”. أذكرُ، وأنا طفلة، أني ظللتُ أعيشُ ذاك الرعب الغاشم، منذ أدرك عقلي معنى الموت والحرمان إلى الأبد ممن نحبُّ. إذا ما سعلتْ أمي؛ أخافُ أن تموتَ، ويفرُغ العالمُ من حولي. إذا تأخرتْ في العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ مرتعد. تتلفّتُ رأسي يُمنةً ويُسرةً لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والوجلُ يفترسُ طفولتي: "ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟!” وحينما كانت تمنعني من اللعب أو الحلوى أو قراءة "ميكي" أو "أرسين لوبين" أو "المغامرون الخمسة"، لكي أستذكر دروسي؛ كان "الشريرُ" داخلي يرسم لي عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالَهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب. لكنْ سرعان ما ينتفضُ "الطفلُ" داخلي، فأتوقُ للدفء وأفرح لأن أمي هاهنا. ولما مرضتْ أمي، مرضَها الأخير، كنتُ بمجرد أن أتركها بالمستشفى، أُناصبُ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، أخفقَ قلبي هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتي مساء يوم 5 سبتمبر ، قبل عيد ميلادها بستة أيام، لأجد الأنسر ماشين يحملُ صوتَ خالو أسامة يقول: (حبيبتي فافي، البقاء الله، أبلا سهير تعيشي انتي! اجمدي واحتسبي! ) انهدم العالمُ من حولي وتبدّد. لكن رعبي من موتها تبدّد كذلك. لن أفقدَها يومًا! لأن أمي لن تموت مرتين.
محاولةٌ بائسة للتنقيب عن فرحٍ أو راحة في موت أمي "مرّةً واحدة"، بدل انتظار موتها كلَّ يومٍ! لكنني أدركُ الآن كم كنتُ أخدعُ نفسي! فالحقيقة أن أمي تموتُ كلَّ يومٍ منذ طيرانها إلى السماء مع كلِّ يوم جديد يصافحُني دونها. مع كل محنةٍ تدهمُني وحيدةً دون سند. مع كل أزمة عابرة تواجهُني خلال نهاري؛ ولا أجد من يساعدني عليها. مع كل صفعة من الحياة تصفعُني ولا أجدُ من يربتُ على ظهري ويُمسِّد شعري قائلا: (ولا يهمك، أنا معكِ، وسوف يكون الغدُ أجملَ). مع كل عيد أمٍّ بلا أمٍّ. مع كل لحظة يقع فيها بصري على رقمها على شاشة هاتفي. مع كل رنين مهاتفة أتلهَّفُ أن تكون من ماما؛ لأسمع صوتَها الذي تبخّر في الأثير ولن يعود. مع كل نظرة إلى مذياعها الأثير وساعة الحائط في بيتي؛ تلك التي كانت يومًا في بيتها. مع كل لمحة لصورة زفافها بعدسة المصوّر الأرمني "ڤان ليو". مع كل نظرة في عيني "نبيل" لأتذكّرها تقولُ لي: (مطمئنة عليكي بعد موتي؛ عشان نبيل راجل عظيم). مع كلّ نظرة في عيني ابني "مازن" لأسمعها تقول: (مازن طفل مُشرِّف). في عين ابني "عمر" لأتذكر كم داخت به في عيادات الأطباء لتنقذه من مرض "التوحد"؛ حتى أنها قبّلت يومًا يد طبيبة قائلة: (عُمَر لازم يخفّ يا دكتورة!)؛ فانهرتُ وأنا أرى ذاك الجبل الشاهق، الذي هو أمي التي لم تخضع يومًا لأحد؛ وهي تنحني لتقبّل يدَ إنسان من أجلي!
ماتت أمي قبل سنوات ولكن موتها لم ينته. بل يصفعُني كلَّ نهار حين أصحو من نومي لأتذكر أن يومًا آخر عليّ أن أعيشَه دون أمي التي تركتني وطارت، ويدي معلّقةً لم تزل في طرفِ ثوبها. "الدينُ لله، والوطنُ لمن يحترم أمهاتِ الوطن”.



***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نشرة الرابعة | متطوعة سعودية تلفت الأنظار.. ولاجئون يسمون مو


.. الترحيل إلى رواندا.. هواجس تطارد المهاجرين شمال فرنسا الراغب




.. نشرة الرابعة | النواب البحريني يؤكد على استقلال القضاء.. وجه


.. لحظة استهــ ــداف دبـ ـابة إسرائيلية لخيام النازحين في منطقة




.. عشرات المستوطنين يعتدون على مقر -الأونروا- بالقدس وسط حماية