الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الخامس/ 3

دلور ميقري

2020 / 9 / 9
الادب والفن


ملّا عشير، وكان في منتصف الحلقة الثالثة من عُمره، لاحَ لقريبته ريما على شيءٍ من الغرابة. التناقض في شخصيته بين مركزه الدينيّ ومسلكه الاجتماعيّ، كان واضحاً لها وسيتعزز بأدلة جديدة وذلك في زمنٍ آخر، حينَ آبت مع زوج جديد إلى منطقة الجزيرة. هوَ ذا يعرضُ خطته لتخليص صغيرتها من أيدي أبناء رجلها الراحل، لينتهي إلى القول رداً على سؤال آكو: " البنت تلعبُ خارج المنزل مع لدّاتها، وما على ريما سوى أخذها بهدوء ومن ثم تتجه إلى محطة سيارات الأجرة، أينَ نكون نحنُ في انتظارها "
" لو رآني عندئذٍ أحدٌ من أخوتها، أو من نسائهم، فكيفَ سأبرر تصرفي؟ "، تساءلت ريما. لم يعبأ الملّا بمخاوف قريبته، المبنية على الشعور بالخجل أو ربما العار، فردّ بينما يده تطرق على كتفها بحركة تعبّر عن نفاد الصبر: " ستزعمين لهم، مثلاً، أن امرأتي ألحت عليك في البقاء يومين آخرين في منزلنا وأنك عدتِ إليهم مرة أخرى لرؤية طفلتك ". ثم أضافَ وهوَ يلقي نظرةً على السماء، وكانت الشمس قد غابت خلف غيوم الخريف، الرمادية: " الأجدى أن نسرع في العودة إلى منزلهم، قبل أن تمطر ويصبح من المتعذر على الصغيرة أن تخرج إلى الزقاق للعب ". هزّت الأم الملولة رأسها، ثم مضت تلحق برفيقيها وكانت إذاك في غاية التشوش والاضطراب.

***
لكنها شعرت بنوعٍ من الاطمئنان والراحة النفسية، لما تساقط المطرُ في خلال الطريق إلى منزل زوجها الراحل. هنالك في المنزل، وكما كان متوقعاً، عرَضَ أحدهم مرافقتها وشقيقها إلى محطة سيارات الأجرة. الملّا، وبحَسَب خطته المعلومة، بادرَ إلى القول باقتضاب: " امرأتي، ترغبُ أيضاً في توديعها ". لكن المضيفين، الذين بلعوا الطُعْمَ فيما بدا، لم يدعوا الأقاربَ يخرجون من منزلهم قبل توقف المطر. هؤلاء الأخيرين، خرجوا إذاً إلى الطريق وكانت الشمس قد غادرت بدَورها مكان احتجازها وراء قضبان الغيوم. صاروا يتجنبون في مشيهم الحفرَ، الغارقة بالماء والطين، وكذلك منزلقاتِ الطريق الوعر. بوصولهم أخيراً إلى منزل الملّا، وكان أقربَ إلى مركز المدينة، غابت الشمسُ من جديد.
خاطبَ المضيفُ قريبته، وكان الوقتُ قد أضحى على مشارف العصر: " هيا نذهب قبل أن تمطر مرةً أخرى ". في الأثناء، كان قد عدّل قليلاً في الخطة، بأن طلبَ من امرأته مرافقة ريما إلى منزل زوجها الراحل كي تأخذ ابنتها خفيّةً. فما لبثوا جميعاً أن غادروا الدارَ، فيممت المرأتان شطرهما إلى حي الشهيدية، بينما الرجلان توجها نحو محطة سيارات الأجرة. زوجة الملّا، ولم تكن أقل منه مكراً، بمجرد الوصول إلى المنزل المطلوب ورؤيتها الطفلة تلهو بالقرب من بابه، أمسكت بيدها: " أمك هناك في انتظارك "، قالت لها في رفق. لما تحققت الطفلة من هيئة الأم، هُرعت إليها مهرولةً وهيَ تصرخُ في فرح وبهجة.

***
لم يستغرق تنفيذُ الخطة أكثر من نصف ساعة، وكان صاحبها من الثقة بنجاحها أنه عمدَ سلفاً إلى حجز سيارة أجرة. لما أخذَ الثلاثة أماكنهم في المقعد الخلفيّ للسيارة، ودّعهم ملّا عشير وامرأته كرّةً أخرى. لكن قبل أن تتحرك السيارة، حصل ما لم يكن بالحسبان: امرأة من الجيران، وكانت تعرف ريما حق المعرفة في حياة رجلها الراحل، رأتها في تلك اللحظة، وما أسرعَ أن تحققت من شخصها. هتفت وهيَ تتقدم بنبرة حارة: " أم بيروزا، أنتِ في ماردين؟ كم أنا سعيدة بلقياكِ! ". بحركة خاطفة وملهوجة، عمدت ريما إلى إخفاء ابنتها تحت ملاءتها السوداء اللون، التي تغطي ثيابها. ثم مدت بعدئذٍ يدها للمرأة لتصافحها، معربةً أيضاً عن السعادة باللقاء. في اللحظة التالية، ارتفع صوتُ سائق السيارة: " المعذرة، عليّ السير حالاً "، قالها وما لبثَ أن شغّلَ المحرك. عقبَ اختفاء تلك المرأة، وقبل ثوانٍ من تحرك السيارة، قامت ريما بحركة مفاجئة.
" أرجوك، يا أخي، سننزل من السيارة "، قالت ذلك ثم فتحت البابَ على الفور وكانت تجلسُ بإزائه. بقيَ آكو لحظةً فاغراً فاه من الدهشة، وما عتمَ أن لحقَ بشقيقته وطفلتها. ملّا عشير وامرأته، كانا واقفين بعدُ في انتظار تحرك السيارة، لما فاجأهما أيضاً المشهدَ المستجدّ. قالت ريما بسرعة، فيما خطواتها تمضي باتجاه الطريق الصاعد إلى حي الشهيدية وطفلتها أمامها: " لا يجوزُ ذلك، لا يجوز ذلك أبداً! "
" ماذا دهاكِ، يا ابنة خالتي؟ "، خاطبها الملّا بصوتٍ أقربَ إلى الصراخ. لم ترد عليه، بل مضت دونَ أن تلتفت إلى الخلف. عند ذلك أمسك آكو بيد قريبه، قائلاً: " دعها تذهب إليهم بالطفلة، ولتكن امرأتك برفقتها ".
عامٌ على الأثر، لما عادت ريما إلى ماردين لمحاولة استرداد طفلتها، كانت هذه المرة برفقة زوجها صالح. أخوة بيروزا، تنازلوا عنها عندئذٍ بكل أريحية: على الأرجح، أن تلك الجارة قد أخبرتهم بقصة لقائها مع ريما في محطة سيارة الأجرة. وربما أنه لسان صالح، الذي يسيل عذوبةً، مَن أثّرَ عليهم بحيث قبلوا أخيراً رد الطفلة إلى والدتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز