الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العراق بين بكائيتين

جعفر المظفر

2020 / 9 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


إذا طلب مني أن أضع عنوانا لمراجعة تستهدف العودة لقراءة تاريخ العراق الحديث والقديم بما يتلاءم مع روح التشاؤم والحزن والألم التي ظلت تلازم الكثير من العراقيين فسوف أختار لهذه المراجعة عنوان (العراق بين بكائيتين)..
البكائية الأولى هي بكائية تاريخية, وهي بكائية تتعلق بمقتل الإمام الحسين وما تركته من حزن عميق في التراث الإجتماعي العراقي وخاصة ضمن صفوف الكثير من الشيعة, حيث تولته منابرهم ومدارسهم العاشورائية وأحزابهم الطائفية ونظامها الكارثي بطريقة حولت تلك المأثرة من موقف للإستشهاد والتضحية والتمسك بالحق إلى كابحة لكل محاولة تستهدف النهوض بالمجتمع أو وبناء وطن موحد.
وإن من بعض ما تستهدفه بكائية عاشوراء, أو ما تؤدي إليه بناء حالة من الندم التي تُكَفِّر عن نفسها من خلال جلد الذات, لكن أهم ما ينتهي إليه هذا الجلد هو بناء حالة دونية أمام الغير الذين لم يشاركوا (أشقاءهم العراقيين من نفس المذهب) عار التخلي عن الحسين وأهله حينما جابهوا سيوف جيش يزيد.
إن العراقيين الذين عاشوا في إيران يؤكدون أن الشخصية الإيرانية هي شخصية مركبة بطلها القومي غالبا ما يطل براسه من خلال عمامة رجل الدين ليخلق فيه شعورا بالتعالي والتفوق والحقد على جاره العربي البدوي المطبوع على الغدر. وإن المشترك الديني والمذهبي لم يؤدِ دوره كما هو مفترض ليقوم بمسح أو حتى تنحية ما هو قومي لما هو إسلامي.
وبينما يمكن القول أن الشخصية الشيعية العراقية فيها وحدة رموز مفترضة حيث لا وجود لـ (أمة) خارج التاريخ الإسلامي (وحدة القومي مع الديني) كذلك يمكن القول أيضا أن قرينتها الإيرانية تعيش حالة صراع الأضداد (البطل القومي التاريخي في مواجهة الديني).
لكن أمرا نقيضا سيحصل حينما نقارن بين ناتجي الشخصيتين, فإذ يفترض التماسك في الحالة الأولى إنتاج حالة أفضل على صعيد التكون الشخصي للأفراد والمجتمع فإننا نرى العكس, إذ أن تطويعا قد جرى لجعل الشخصية الشيعية العراقية أدنى درجة من قرينتها الفارسية وجعل الفارسية متقدمة على العراقية في حالتي التمظهر السياسي والتشكل الحضاري.
وهنا فإن علينا أن نعير إهتماما كبيرا للمشهد الذي جرى بناءه وتطويعه كثيرا للنيل من الشخصية الشيعية العراقية في حين أبقى على قرينتها الإيرانية بريئة الذمة ونقية التاريخ. إنه المشهد الحسيني الذي يشكل مركز الثقل في التاريخ السياسي لـ (الشيعة). لقد جرت صياغة هذا المشهد بشكل يجعل العرب قتلة للحسين ويجعل (الشيعة العراقيين) على وجه التخصيص يتحملون عقدة الذنب التاريخي بسبب تخليهم عن الحسين في أثناء محنته ثم وتركه وعائلته وحيدا أمام جيش يزيد وقائده عبيدالله بن زياد لكي ينفذوا بهم تلك الجريمة الكبرى.
وما الذي يمكن أن تؤدي إليه هذه البكائية حينما تمتد لتغطي الكثير من أيام السنة, ولتطل براسها في كل مناسبة دينية أخرى ؟ إنها ببساطة يمكن أن تشفط الشيعي العراقي من حاضره الوطني لتحط به في معركة كربلاء ولتبقه هناك لا يعرف طريق العودة إلى حاضره ومستقبله.
أليس هذا هو ما ستفعله بالضبط ثقافة (كل أرض هي كربلاء وكل يوم هو عاشوراء).

البكائية الثانية هي البكائية المعاصرة, وهي التي تجمعت سحبها خاصة خلال الثلث الأخير من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين والتي تشمل :
1- نظام صدام حسين بكل ما رافقه من حروب وحصار وقمع وخوف والذي إمتد منذ عام 1979 إلى عام 2003. وأجزم هنا أن العشرة سنوات التي سبقت إطلالة صدام هي من أفضل أعوام العراق في تاريخه المعاصر.
2- نظام ما بعد الإحتلال الأمريكي وهو نظام تقاسم رعبه ومآسيه مجموعة الإسلام الشيعي الطائفي المليشياوي ومجموعة الإسلام السني التكفيري الذي مثلته بكل جدارة القاعدة وداعش.
3- الأنظمة الجمهورية التي توالت على حكم العراق بعد سقوط نظامه الملكي وبداية من نظام عبدالكريم قاسم الذي لم يتردد كثيرا عن حز رقاب الكثير من خصومه القوميين, وكان ذلك العهد قد بدأ بواحدة من آثامه الكبرى وهي مقتل الملك الجميل فيصل الثاني وعائلته وسحل الوصي على العرش عبدالإله ورئيس وزراء العراق المزمن نوري السعيد, والقتال بين الشيوعيين والبعثيين في شوارع ومدارس وكليات العراق.
ويمكن إعتبار فترة حكم الرئيس عبدالرحمن عارف هي فترة هدنة بين فئات العراق المتحاربة (طبعا حروب الشمال العراقي الكردي لها مأسيها الكبرى).
لذا فلا عجب أن نرى كيف أن القراءة الإسقاطية التي تعود إلى التاريخ محملة بأثقال وأعباء المراحل التي تلت سقوط النظام الملكي من شأنها أن تؤدي إلى إعادة الإعتبار للحكم الملكي بشكل سريع, حتى كأن العقل العراقي المعاصر بات يبحث عن محطة إستراحة من تعب ما يقارب الستين عاما من عمره (1958 – 2020) وهذا الأمر غالبا ما يتم من خلال الوقوف أمام سيئات العهود التي تلت العهد الملكي وليس من خلال المكاسب الفعلية التي حققها ذلك الحكم.
هنا يصبح كل شيء في حقبة العصر الملكي جميلا ( من باص مصلحة نقل الركاب أبو الطابقين/ إلى نظافة شارع الرشيد/ إلى مطار المثنى ومشروع الثرثار والحبانية/ إلى دار الأوبرا التي تحولت بعد ذلك إلى سينما ومن ثم إلى خرابة/ إلى مسابقة أو مسابقتين لملكات الجمال/ إلى نكات نوري السعيد وحكمته ونزاهته/ وقبلها إلى حكمة الملك فيصل الأول ودهاءه السياسي/ إلى مجلس الإعمار ومشاريعه الإعجازية/ وحتى إلى محل حجي زبالة وشربت الزبيب الذي كان يبيعه مع ماعون القيمر والدبس .. إلخ.)
إن كثيرا من العراقيين باتوا بكل صراحة يفضلون الحكم الملكي على كل العهود التي سبقته وحتى يتمنون لو أن قطار الزمن عاد بهم إلى الوراء لكي يستعيدوا ذلك العصر ويعيدوا له إعتباره.
إنهم كما قلت باتوا يرسمون له صورة ندية نقية ليس من خلال عودة موضوعية وحرفية متوازنة لدراسته بشكل عام ولكن من خلال كَمْ المآسي التي شهدوها في العهود التي تلته.
إن بإمكان حرب الأعوام الثمانية مع إيران أن ترسم له صورة جميلة فكيف إذا أضيف عليها الحصار ومن بعده حكم الميليشات والطوائف / هنا يصبح كثير من الطغاة ملائكة وتصبح كثير من المآسي ملاهي/ وسينبري لك من يذكرك بحكمة الباشا نوري السعيد الذي إستطاع من خلال الإنضمام إلى حلف بغداد أن يأمن شر تركيا وإيران في نفس الوقت.
إنهم لا يتحدثون عن الصرائف التي كانت تغطي (على الأقل أكثر من ثمانين بالمائة من مدن جنوب العراق والفرات الأوسط) وكيف أن سكان الصرائف كانوا يأكلون ربما وجبة واحدة في اليوم وباقي الوجبات يقضونها شاي وخبز/ لا يتحدثون عن الإقطاع الذي كان يستعبد مدنا بكاملها مثل الناصرية والديوانية والعمارة والسليمانية.
لا يتحدثون عن نقرة السلمان التي كان يلقى فيها كثير من السجناء المعارضين دون عودة/ لا يتحدثون عن (المصاليخ) من عمال المؤانئ وحمالي الشورجة الذين لم يكن ملكوا ثمن القميص.
لا يتحدثون عن المعاهدات التي وضعت إستقلال العراق تحت جزمة الإنكليز ولم يبخل عليه نوري السعيد أيضا حينما وضعه في فم المدفع (حلف بغداد) وجعله في مجابهة المعسكر الشيوعي, وعن التظاهرات اليومية التي كانت تغطي شوارعه وعن إنحيازه ضد مصر إلى جانب العدوان الثلاثي.
بل لعلي أنا شخصيا حينما أسأل عن أي العهود هي الأفضل فسوف أختار العهد الملكي ومن ثم عهد عبدالرحمن عارف ومن ثم سنوات السبعين قبل أحداث قاعة الغدر عام 79
وأجزم أننا لن نكون مخطئين حين نقارن بين عهد وآخر أو مرحلة وأخرى لنختار من كان بينهما الأفضل. لكثير من العراقيين الذين عاصروا العهود المختلفة الحكم الملكي هو الذي سيخرج منتصرا, لكن القراءة الصحيحة هي تلك التي تولي إهتماما كبيرا لمعطيات كل مرحلة على حدة, لظروفها الضاغطة, لتحدياتها وقواها, ثم يحكم عليها وضعيا لكي يحكم عليها تاريخيا وبعد ذلك فقط يمكن أن تخضع للجدولة.
وهنا تدخل (النظرية اللوئية) لتضيف على التقييم المطلوب ضبابية كثيفة, وهي نظرية تفسر كيف أن العودة إلى تقييم النظام الملكي, ولدلالة التأكيد على أفضليته, باتت تستند على قصة الـ (لو) هذه ومسطرتها وفرجالها : وهذا يعني أن (حدث, إنقلاب, ثورة, جريمة) 14 تموز : سمها ما شئت, هي التي حالت دون أن تبيض لنا الدجاجة الملكية ذهبا, وأنه (لو) كان تُرِك لذلك العهد أن يستمر دون أن يقضي عليه الضباط الأحرار لكان أعطانا تلك البيضة وزاد عليها فراخا تتحدث الفرنسية.
نظرية ال (لو) هذه تحقق لنا قراءة مغرقة في سطحيتها للتاريخ ومراحله وقواه وأحداثه. وسأسأل : إذا كان مقدرا لذلك العهد أن يبيض ذهبا فلماذا خرج معظم الشعب العراقي يهتفون للثورة ضده. بإمكانكم العودة إلى صور وأفلام تلك الأيام التي تلت السقوط لتقدروا حجم التأييد الجماهيري الذي حظيت به ثورة ما سمي وقتها بـ (الضباط الأحرار-14 تموز),
وسنكون حينها مجبرين على أن نختار أحد جوابين : أما أن يكون العهد الملكي قد إستهلك نفسه وأثار الناس ضده وأما أن يكون الشعب قد إنتابته أيام جنون وهلوسة أخذته خارج السياق العقلي والإنساني فإرتضى وفرح ورقص لمن قتل الدجاجة التي كانت على أبواب أن تبيض ذهبا (لو) لم تذبحها سكاكين العسكر.
فإذا وضعنا القراءة الإسقاطية أو القراءة المرتدة وأضفنا عليها ثقافة (جلد الذات) فسيصبح الأمر مريعا, لأن ما حدث يوم الرابع من تموز وما تلاه بداية من مقتل الملك الجميل فيصل الثاني وإنتهاء بسحل الوصي ونوري السعيد في الشوارع وقطع جثثهما إلى أجزاء, يجعلنا بالحق أمام مأساة كبرى. والنتيجة التزويج بين البكائيتين, التاريخية والمعاصرة.
إن الذين يدخلون من تلك البوابة ويقفون أمام حادثة استشهاد الملك فيصل الثاني كجزء من محاولة استعداء أو انحياز عاطفي لا يوفرون أسسا صالحة لإنصاف تاريخ أو رسم مستقبل, محاولة لا تكمن في التطلع لإنصاف فيصل الثاني لوحده وإنما لإنصاف نظام برمته من خلال حادثة استشهاده.
وسيكتب لتلك المحاولة إنتشارا واسعا ما دامت تعتمد على الخزين الكبير من البكائيات العراقية التي يمكن أن تنفجر في أية لحظة حزن على برئ, فكيف إذا كان الشهيد ملكا بحلاوة فيصل وبراءته. وهنا لا شك تكمن الخطورة وموقع التجاوز على التاريخ بعد اختزاله في موقعة واحدة حتى ولو كانت بحجم استشهاد فيصل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح


.. هيئة البث الإسرائيلية: نقل 300 طن من المساعدات إلى قطاع غزة




.. حزب الله اللبناني.. أسلحة جديدة على خط التصعيد | #الظهيرة


.. هيئة بحرية بريطانية: إصابة ناقلة نفط بصاروخ قبالة سواحل اليم




.. حزب الله يعلن استهداف تجمع لجنود إسرائيليين في محيط ثكنة برا