الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوطنية المتعذره وتتفيه العراق؟(2/2)

عبدالامير الركابي

2020 / 9 / 11
مواضيع وابحاث سياسية


عبدالاميرالركابي
يستوجب الانتقال الى المنظور التاريخي الازدواجي التحولي، استعدادا ماكانت أسبابه قد توفرت وقتها، لاذاتيا، ولا على صعيد النموذج الأوربي المنقول او المرجو، كمثل الاستعداد الأساسي والمنطلقي التاسيسي لاي منهجية بحث مطابقة للحالة من حيث اليات التشكل وقوانينه، ومنها وفي مقدمتها "قانون النمو والتشكل من اسفل"، الذي يفصح عن مدى وعمق المغالطة والتهافت النظري والمنهجي الذي جرى استعماله في العشرينات والثلاثينات لاجل تكريس مايعرف ب "العراق الحديث" الكيان والدولة، كما أسس له وثبته الضابط الإنكليزي الملحق بالحملة البريطانيه / فليب ويرلند/ والذي يرى بان العراق الحديث هو "حصيلة العملية التدريجيه للتوحيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للولايات التركية الثلاث: بغداد ، والبصرة والموصل، توحيدا نجم عنه وطن واحد وسوق وطنيه واحدة، وقد بدات هذه العملية منذ الاحتلال التركي الثالث لبغداد في عام 1831، واشتد زخمها منذ ستينات القرن الماضي، حتى افضت الى تشكيل الحكومه العراقية المؤقته تحت الاحتلال البريطاني في عام 1920" وهذا التقدير هو ماياخذ به كل المنتمين للحداثة العراقية يسارا ويمينا، وبالذات اقتصادييهم الأبرز(1)، مع ما يلحق بالموضوعه الانفة من "ارتباط العراق بالسوق الراسماليه العالمية"،الامر الذي تؤكده الإشارة الى الستينات من القرن التاسع عشر(2) ومايركز عليه الماركسي زكي خيري من انتقال بناء علىه، من "الإنتاج للكفاف الى الإنتاج للتصدير ودخول عالم تسليع المنتج الزراعي".
وهنا تتمثل اهم نقاط ونواحي ومرتكزات عملية الفبركة والاختلاق الكياني لموضع، خارج تكوينا وبنية تماما عن مثل هذا النموذج من الوطنيات والتشكلات الكيانيه، بما هو موضع وكيانيه ازدواجيه، غير خاضعه لقوانين النمو الأحادية، وطابعها المتماثل بناء للاشتراطات الأحادية، فالعراق منذ وجد، حكمه قانون اخر مختلف، هو "النمو من اسفل"، من سومر في الدورة الأولى، ومن نفس ارضها في الكوفة والبصرة في الثانية، ومن سومر الحديثة "المنتفك" اليوم في الدورة الثالثة المبتدئه منذ القرن السادس عشر، مع فارق جوهري، مظهره الأساس ان النمو الازدواجي، كان ومايزال، مجهول الاليات، ونوع القانون الناظم لتشكله، من قبل اهله وأبناء ارضه اولا، بينما الآخر الوافد الأوربي نموذج حاضر وواثق من ذاتيته، ومن صلاحيتها و"نموذجيتها" الفروض الاتباعها، مع الرغبة القاطعة في تعميمها، جهلا بما سواها من ناحية، وتكريسا لها، ولسيادتها المفهوميه، والواقعية التطبيقية.
تنشا مجتمعية الازدواج ابتداء جنوبا، تحت وطاة وغمار المنتجية شبه المستحيله، وعيش على حافة الفناء مقدرة، بمواجهه نهرين عاتيين من اشد ماعرف من الأنهار تدميرية ومخالفة للدورة الزراعيه، ووطاة المناخ المتطرف صيفا وشتاء وعواصفا، إضافة للتهديد الدائم الذي لاتوقف له من الشرق والشمال والغرب، حيث مصب السلالات النازلة، والاتية من الصحارى والجبال الجرداء نحو بقعة ودلتا الخصب الأقصى موقعا.
لايعدم البحث الحديث مقاربة النموذجية الرافدينيه وصفا ظاهريا من دون عمق يصل الجوهر والمكنون، فمن المعتاد القول: "وتتضح هذه الحقيقة مع كثرة تكرار الفيضانات والعواصف والجفاف والحرائق التي كانت الالهة تهدم بها اعمال الانسان. ولم تكن الاحوال الطبيعية في بلاد مابين النهرين، على عكس ماهي عليه في مصر، لتهيء الظروف الملائمه لتطور المدنية. فالتغيرات الفجائية تستطيع ان تخلق احوالا تفوق قدرة الانسان على ضبطها والسيطرة عليها. ان المد الربيعي في خليج فارس ( هكذا في النص الأصلي، والمقصود خليج سومر، بدل التسميتين المتنازع عليهما، العربي، والفارسي) قد يرتفع الى ثمانية اقدام او تسعة اقدام، كما ان العواصف الجنوبية التي تستمر مدة طويلة قد ترفع شاطئء النهر قدمين او اكثر، بما تذروه من تراب وغبار. ثم ان سقوط الثلوج في ارمينيه وسقوط الامطار في الجنوب بصورة غير عادية قد يؤديان الى ارتفاع مستوى النهرين بصورة مفاجئة، وقد يسد زحل الارض مجرى الزابين الضيقين او مجرى الخابور، ثم لايلبث المجرى طويلا حتى يدفع بكمية ضخمة من الماء. واية واحدة من هذه الاحداث، او وقوع اثنين منها في وقت واحد قد يسبب فيضانا لاقبل لسدود السهل الجنوبي ان تصدها او تمنع اخطارها. وفي الازمنه السابقة للتاريخ حين كان الفلاحون البدائيون يزرعون المواسم بعد الفيضان، كان بالامكان تكييف الاستيطان بحسب التغير الدائم لتوزيع المياه والارض حتى ولو تكرر تدمير القرى مرات كثيرة، لكن المدن الكبيرة الثابته التي تعتمد على التجفيف والري تحتاج الى مجار مائية ثابته، وهذا لايتحقق الا بالمراقبة والكدح الشاقين، لان مياه دجلة الجارية بسرعة تجرف معها غرينا خشنا بحيث تنسد الاقنية بسهولة. حتى ولو نظفت سنويا فانها ترتفع عن السهل نتيجة للترسب، ومن هنا فان خطر انفجارها او انفجار النهرين لايستبعد ابدا. وفي عام 1831 ارتفع دجلة فجاة وحطم حواجزه وهدم 7000 منزل في بغداد في ليلة واحدة" .(3)
ويتكرر العزف على نفس الإيقاع فيقال:"اما حضارة ارض الرافدين فقد نمت في بيئة مختلفة كل الاختلاف. ولئن نجد فيها الايقاع الكوني نفسه، بالطبع ـ تعاقب الفصول، سير الشمس والقمر والنجوم ـ فاننا نجد فيها ايضا عنصرا من القسر والعنف لم تعرفه مصر. فدجلة والفرات يختلفان عن النيل، اذ قد يفيضان على غير انتظام او انتظام، فيحطمان سدود الانسان ويغرقان مزارعه، وهناك رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها، وامطار عاتية تحول الصلب من الارض الى بحر من الطين وتسلب الانسان حرية الحركة، وتعوق كل سفر. فهنا في العراق لاتضبط الطبيعىة نفسها، انها ببطشها تتحكم بمشيئة الانسان، وتدفعه الى الشعور بتفاهته ازاءها" (4)
السلاح، وثنائية جنون الحدود وجنون ضفاف الأنهار،والحرية الشرط الذي يساوي استمرار الانتاجيه والوجود، والتشاركية اللاتمايزيه، أي كل مايجعل جهد الانسان مضادا للارضوية الطاردة، بحثا عن مستقرخارجها، لاتقع مجتمعة في باب النوافل، فالسيف، ومن ثم البندقية، واستحالة السماح بغلبة قوة من خارج الكيانيه، مع الاستعداد دون ذلك للوصول حتى الى الفناء والخراب الكلي، هي عناصر بنيوية/ إنتاجية مثل المحراث والمنجل، والأرض نفسها، وصولا لنزعة استبدالها بالسكن السماوي، فلا منتجيه هنا بلا سيف ولابندقية، او مع وجود مالكين مميزين للأرض، او قادة وراثيين وبالبداهة، عكس حالة مصر التي اعلى مايملكه فلاحها، "الشوم" أي العصا الغليظة والندماج بالدولة.
يبقى امر واحد أساسي، ان العقل المتاح لايريد، ولم يسبق له ان راى بان مايتحدث عنه هو
"نمطين" لانمط واحد، هو المتفق قسرا مع اليات "بناء المدنيه"، فارض الرافدين يجري تعداد خاصياتها من دون ان يعتبر ماهي عليه موجبا، او دافعا للتحري عن "نمطها" الخاص بها وبكينونتها، بينما تظل القراءات تصر ضمنا على اعتماد وتسييد نمط واحد وحيد، والعناوين الدالة تقول عادة "فجر الحضارة في الشرق الاوسط"، في حين لم يسبق ان بحث ابدا في "نمطي الحضارة، والحضارة اللاحضارية في الشرق الأوسط"، ليظل المعتمد هو "بناء الحضارة" والمدنية اكراها، حتى لو ان "المدينه" نفسها وجدت أولا في ، ودرست لتنام تحت التراب، في العراق، والكتابه التي لاتاريخ للحضارة بدونها وقبلها، وجدت فيه. فالعقل البشري لايستطيع، ولم يكن قد بلغ يوما من قبل، والى الان، حدودا تؤهله للتركيز والنظر في مجتمعية تبديد المنجز بعد بنائه والوصول به اعلى الذرى المتاحة، ولا التناوب التاريخي بين الصعود والانقطاع. بدل المنجز الأحادي الاجتراري السكوني التكراري.
لم يقرا العراق يوما بذاته ولذاته، ففات البشروالعقل المجتمعي بناء عليه عنصر جوهر، حال دون تعرف الكائن الحي على ذاته، وعلى حقيقتة المجتمعية التاريخيه، واليات عملها، وتصيّرها ومستهدفاتها المضمرة. وليست الظاهرة المنوه عنها خاصة بالعراق وارضه، فالعقل يظل عموما ادنى قدرة من ان يعي الظاهرة المجتمعية التي يتشكل صعدا داخلها، كما الحال على سبيل المثال في اوربا، التي ظلت هي الأخرى عاجزة عن التعرف على انشطاريتها المجتمعية الطبقية حتى القرن التاسع عشر، وقت انبثاق العبقرية المجتمعية الطبقية الأحادية، الناقصة اذا ماقورنت بتلك الازدواجية المجتمعية الرافدينيه التي ماتزال تنتظر انبثاق "عبقريتها".
ـ يتبع ـ
ملحق رقم (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) اقتصادي يساري بارز مثل "محمد سلمان الحسن" يضع النص المذكور في مفتتح كتابه الضخم عن الاقتصار العراقي / التطور الاقتصادي في العراق: التجارة الخارجيه والتطور الاقتصادي 1864/ 1958/ ص 27/ المكتبه العصرية للطباعه والنشر/ صيدا بيروت/وهو كما واضع يجعل من التاريخ الوارد لدى ويرلند تاريخا لعلاقة العراق الاقتصادية بالغرب والسوق الراسماليه العالمية:
يراجع:p.w. Ireland. Iraq: Astudy in poletecal development(London1937)p.377
(2) دراسة زكي خيري: تقرير عن مسائل في الإصلاح الزراعي / بغداد 1960.
(3) هنري فرانكفورت/ فجر الحضارة في الشرق الأوسط/ ترجمة ميخائيل خوري/ منشورات دار مكتبه الحياة ـ بيروت/ صص 66 ـ 67
(4) ص 147. ثوكيلد جاكبسون/ ماقبل الفلسفة:الانسان في مغامرته الفكرية الأولى/ هـ .فرانكفورت ـ جون.أ. ولسون ـ هـ.أ. فرانكفورت ـ ثوركيلد جاكبسون/ المؤسسه العربيه للدراسات والنشر ـ بيروت/ ترجمة جبرا إبراهيم جبرا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات الطلبة في فرنسا ضد حرب غزة: هل تتسع رقعتها؟| المسائ


.. الرصيف البحري الأميركي المؤقت في غزة.. هل يغير من الواقع الإ




.. هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتحكم في مستقبل الفورمولا؟ | #سك


.. خلافات صينية أميركية في ملفات عديدة وشائكة.. واتفاق على استم




.. جهود مكثفة لتجنب معركة رفح والتوصل لاتفاق هدنة وتبادل.. فهل