الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة الفقر والموت – قراءة في شعر صلاح شلوان

أحمد السعد

2020 / 9 / 11
الادب والفن


حين يختصم الشاعر مع موجودات عالمه ومع ظروف حياته القاسية فيحتكم للشعر فيجيبه الشعر فيطلق زفرات المه ووجعه ويبث لواعج روحه المثقلة بهموم الحياة على الورق ويطلق عصافير احلامه لتحلق في فضاءت الحلم والرغبات والأمنيات بأن يكسر كل ما يكسر روحه وأرادته من قوانين ونواميس . القلم وحده من يستجيب والشعر وحده من يقف مع الشاعر في مواجهة عسف الزمان والعالم والمجتمع والآنظمه فيعلو صوته بالشعر بعد ان خنقته الحياة والظروف .
"قال لي عبد الله وكان مجنونا
مالك ياابن شلوان تروح وتجيء
وعيناك في الأفق
هل اضعت طائرك مثلي ؟
قلت لاياعبد الله
انما امرن نفسي على الرحيل
وما انا متجاوز هذه النخله "
الأنشداد الى المكان – الى النخلة – الى الأرض سواء اكان هذا الأنشداد اراديا ام قسريا ، لم يضع الشاعر طائره كما فعل المجنون لكنه اراد ان يفرد جناحيه فلم يتمكن وظل ملتصقا بمكانه وكأنه مسمر به او انه اعد ليكون قبره الأبدي . كان حلم الشاعر بالسفر والتجوال كبيرا وكان يتمنى لوغادره شبح الموت الذي كان يشعر به يلاحقه منذ زمان فقد كان قلبه متعبا وكانت مراجعاته لأطباء القلب تنبئ بشيء سيحدث ، لكن كيف السبيل ؟
* تخطي الثيمات التقليدية وعبور ماهو مطروق الى ماهو نادر ولايثير الأنتباه ميزة تميز بها صلاح شلوان : فهو منقب مدهش عن ظواهر يومية قد نمر بها ولا نلحظها لكنه ببوصلته اهتدى اليها وسلط عليها ضوءه فأمتلكت الأشياء العادية صفات اخرى اكثر حيوية مما يترآى لنا ، هو شاعر معني بوجوده وبوعيه وبوحشية الظروف وقسوة العالم من حوله ، هو (ديوجين ) يحمل مصباحه في عز الظهيرة ليبحث عن انسان ! في معترك التناقضات : السكون والضجيج ، النظارة والقفر ، الفقر والغنى ، الجمال والقبح ، الأمل والياس ينفرد صلاح ليحاور موجودات عالمه الصغير البسيط ليستنطقها علها تكشف له سر هذا الحزن الذي يغلف العالم من حوله وسر هذه السوداوية التي تلقي بظلالها القاتمة على حياته وعن سر ذلك الشعور بالهبوط ، بالنزول الى العالم السفلي ، عالم الموت والنسيان والفناء . فالشاعر (يمرن) نفسه على الرحيل وهذا الرحيل له مدلولات كثيره اولها الموت وهو الخيار الوحيد المتاح !وسط عالم فقدت اشياؤه بهاءها ورونفها ويريقها وغدا عالما رماديا مضجرا كئيبا
" في الوقت الذي اقفز في الهواء
وأنت تمسكين لي الأرض ،
في اللحظة ارثي لحالي
خوفا ان تجري الرياح بعيدا ،
ولن نطأ عمر الزمان معا "
وبالطبع لن يطال عمر الزمان انسان لكن صلاح يشير الى ان يبلغ في حياته منتهاها ليحقق لها ومنها شيئا ولكنه الخوف ما كان يسكنه : الخوف من المجهول ومن الموت تحديدا :
" أقدر محنتك ايتها الحفرة !
لن احنق بعد
الرحلة شائكة
فخذي بهذا الخيط الغزير "
في المقدمة التي كتبها الناقد المعروف الدكتور حاتم الصكر لـ(كتاب الجنوب ) الصادر عن دار شهريار 2017 وتضمن مختارات لشعرية لشعراء من البصرة وضم قصائد قصيره لصلاح شلوان . يقول الصكر ان قصائد صلاح تشوبها " ثمة سكونية ونمو بطيء وشحة في انفتاح الدلاله . ليس المقصود هنا المطالبه بالأنكشاف والمباشره ، ولكن في تقريب الصور والأيحاءات من موضوع النص أو بؤرته المولدة التي ما ان نمسك خيطا يدلنا عليها الا وتقطعه أستدارة مفاجئة " وربما يصدق ذلك على القصائد التي ضمها الكتاب ولكن القارئ لمجموعات صلاح شلوان الأخرى يجد ان الدلالات منفتحه امام القارئ خذ مثلا هذه النصوص :
1).
اكتئابٌ خفي
ينتهكهُ بين الحين
والحين
جزءٌ من لوحةٍ قديمة
2).
أغطسُ
للقاعِ
ثمّ اطفو فوق وحشتي
عارياً متر دّ ماً
كسمكةٍ من خشب.
3).
يكبرُ الفراغ
ثم يرحلُ في قنّينةٍ صغيرةٍ
مُخلّفا وراءَهُ
دخانا كثيفا
4).
اُكابرُفي المدى
وخطوتي بطيئة ٌ
يتربّصها النمل
وحملي لايسدُّ رمقً هذا الليل
5).
هل ثمّة انا؟
اين نحنُ؟
واين يمضي النملُ بعد هذا؟
المْ يصب السماء ضجر؟
6).
رَغائبُ الريح عسلٌ ملبّد
يُعزّي زجاجَ اللوحِ بازهارٍ ذبيحة
ويتشمّمُ بابَ الخصب
من خلف سرب ٍتوارى
فأنت تستطيع ان تتلمس طريقك عبر هذه القصائد لو انك عرفت كيف عاش صلاح شلوان وكيف تكونت تجربته الشعرية وكيف انضجته ظروف حياته وأنضجت رؤيته للعالم
* صلاح شلوان شاعر فطري.. لم يقرأ الشعر والأدب ولم يدرس النحو والصرف والبلاغة ولم يلم بفنون البديع ولم يكن لديه تحصيل دراسي يذكر لكنه تعلم بنفسه كيف يعبر عن مايجول في خاطره دون معلم ، لقد علمت الظروف القاسية صلاحا ان يكتب الشعر وكان عمق المعاناة والفقر والمرض رفيقا حياته منذ الصغر ، عرف اليتم والفقر وذاق مرارة الحرمان حتى مماته ، عانى سنوات الأسر التي ناهزت الثمان أبان الحرب مع ايران والتي عاد منه شيخا محني الظهر بقلب عليل ليواجه عالما اكثر قسوة ومرارة من الأسر : كيف يعيل عائلته المنتظرة عودته وهو الذي لم يكن يتحصل الا على راتب يسير ولم يكن بمقدوره ان يستمر في العمل فأحيل على التقاعد وظل يتنقل من مهنة الى اخرى وكان آخرها كاتب عرائض امام احدى الدوائر الحكومية ثم مالبث ان تركها بعد ان اشتد عليه المرض وكان عليه ان يخضع لعملية جراحية دقيقة في شرايين القلب ولم يكن يمتلك المال ولم يمهله قلبه العليل ان يتدبر شيئا ففاجأه الموت فقيرا معوزا متعبا حزينا . هكذا عاش صلاح شلوان لذلك لن نتمكن ان نفهم شعره اذا فصلناه عن نصوصه ،فتشعر احيانا وأنت تقرأ شعر صلاح شلوان بالحيرة وتتقافز امامك علامات استفهام وتعجب وتقترب من نصوصه اكثر لتشعر بأنك ابتعدت ثم تعيد الكرة لتستأنف المحاولة ولكنك حين تضع الشاعر داخل نصه ستقترب اكثر فأكثر من روح قصائده وجوهرها وتلمس بيديك جزيئات عالمه الشعري وتدرك تفاصيل ودقائق صوره الشعريه . في شعر صلاح شلوان لاتجد حزنا عارما أو اسىً دافقا او بكاءا مرا بل ستجد فضاءات مفتوحة وتساؤلات مريره فتنبلج من ظلمة الغموض المتصور فسحة ضوء ينير ويضيء مساحات القصيدة وينفتح امامك متسع من الضوء ينداح على كل ركن وزاوية فيضيء المعنى ويلون الفكرة و (يموسق) مكونات الصورة حتى تتكامل في وعيك فلكي تفهم شعر صلاح لابد ان تضعه داخل الصورة التي يرسمها امامك والتي تبدو للوهلة الآولى مغلقة لانهايات واضحة لها ، فنفس الشاعر موجود في كل التفاصيل ، سترى العالم كما رآه هو وترصد حركة الأشياء والكائنات كما رصدتها عينه وتتفاعل مع المخلوقات والجمادات والموجودات كما تفاعل هو معها وكما رآها وصورها فتكتشف ان قصائده كانت لمحات شعورية سريعه سجلها سريعا لأنه كان يدرك ان زمنه قصير وبأن الموت آت سريعا والحفرة التي تنتظره بعد رحلة شائكه مازالت فاغرة فاها لتستقبله بترحاب . تساؤلات صلاح شلوا ن التي قد تبدو للبعض ساذجة وسطحية هي تساؤلات رجل بسيط ، متوسط الثقافة ، بتعليم متواضع ، رجل غير متكلف ، لايزوق الكلام ولاينمق العبارات ، يبصر الأشياء والمخلوقات حوله تدور وتتحرك ويترك لها حرية العبث والصخب فترحل عميقا في وجدانه وروحه فيسجل ما اختلج في نفسه من مشاعر وأقتنص اللحظة العابرة ليدونها سريعا قبل ان تختفي .
قد يصنع النبوغ شاعرا فذا وقد يصنع الكد والبحث والدراسة والمران شاعرا فحلا ولكن ان يصنع الفقر واليتم والالم والمعاناة شاعرا ملهما ورقيقا وشفيفا مثل صلاح شلوان هذه هي القضية التي نحن بصددها. فصلاح شلوان رجل بلا تحصيل علمي وأكاديمي عال ، علم نفسه بنفسه ، هو شاعر بالفطرة ، تحول فيه الشعور الى شعر وتجسد الألم والمرارة والأسر والفقر والمعاناة واليتم الى موهبة ،فصنعته فطرته وصيرته معناته شاعرا رقيق العبارة عميق الرؤية تسيل كلماته على الورق كما تسيل الدموع ، انه ينزف شعرا مثلما نزف دما والما وعذابا وأنتظارا وحزنا وأنينا لكنه لم يبك بصخب ولم يثر الغبار والضجيج ، بكى بصمت وسالت دموعه مدادا وشعرا واحاسيسا ومشاعرا . اذن نحن بصدد شاعر صنع نفسه بنفسه وتمرس في الكتابة معتمدا على ما يطلع عليه من نتاجات الشعراء الآخرين وأسرته موجات الحداثة ومال الى تكثيف الصورة الشعرية وأعتماد القصيدة القصيره ذات الثيمة البسيطة المستقاة من المشاهدات اليومية والمعايشات الحياتية لما حوله . فعندما يكون الشاعر وسط وجود كثيف للأشياء والمخلوقات والكائنات والظواهر والقضايا اليومية وتتحرك امامه بتلقائيتها المعهودة ، يشعر بها وهي تتحرك وتتجول متوغلة الى عالمه مخترقة سكونه ، يتصدى لها بشعوره العالي وأحساسه بها فيستنطقها فتتكشف امامه مكنوناتها وبواطنها وصيرورتها فيقتنص اللحظة ليشكل من هارمونية وجودها وحركتها وتفاعلها مع مونولوجه الداخلي فيخرج لنا بصورة شعرية مليئة بالتفاعل العميق بين كل تلك الأشياء والموجودات وهي اثاث عالمه الخاص المتناغم والمتناقض ، المنسجم والغريب ، العادي والخارق ، الواقعي والمتصور فيلقي عليها الضوء ويكثف وجودها وحركتها .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??