الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التناول الحر للُقى والآثار والرموز - مديات توظيفها كعناصر جمالية فاعلة في المنجز الفني

تحسين الناشئ

2020 / 9 / 12
الادب والفن


تتكامل عملية البحث الجمالي في الفنون الأبداعية الكبرى Major Arts (الفنون التشكيلية وفن العمارة) في حال تماهت وسائل الفنان العملية مع منهجه الفكري النظري (رؤيته وموضوعة بحثه) واستجابت لها، فمن شأن تلك الأستجابة ان تؤدي الى تحويل المنهج الى نص اشاري معبّر– الى لغة بَصَرية صورية Image Language (ليس بالضرورة ان تكون واضحة الدلالة والقبول) متمثلة بالمنجز الفني كنتيجة نهائية لعملية البحث. ومن الطبيعي والمحتم ان يتجه ذلك المنجز اتجاها صحيحا ومباشرا نحو المتلقي- المتذوق- اذا اقترنت المعالجات العملية لنصوصه البصرية (مفرداته الذاتية المبتكرة او تلك المنتقاة من المحيط) بالأصالة والجدة Novelty واِرتقاء التكنيك، وهنا يحقق النتاج غايته في تشذيب القيم الجمالية المرتجاة، خصوصا في حالة وجود توازن بين مايمكن ادراكه كمحتوى وما يمكن قبوله كشكل. ويقينا فالمتحقق هنا على صعيد المنجز لابد ان يوسم في جوهره بالأبداع Creativity لكونه ثمرة بحث تجريبي. وفي لحظات الأبداع تكتسب عملية الخلق الفني صيرورتها واصالتها.

ان التطورات المتحققة في الفنون المعاصرة لم تنشأ بعيدا عن حركة المجتمع وحركة الفنان الدؤوبة والمستمرة، ولم تقم بمعزل عن نشاطه البحثي التجريبي Experimentation الذي يهدف من ورائه اكتشاف افاق اكثر صلة بمنهجه الإبداعي واشد ارتباطا بمنطقة بحثه. فواحدة من وظائف الفنان الأساسية تتمثل في البحث عن المظاهر الفاعلة في حركة الحياة والمجتمع والتأريخ، تلك المظاهر المعمقة لصلة الإنسان بذاته والمحققة لتطوره على الصعيد العملي والفكري والمعززة لوجوده ككائن فاعل ضمن وجود عام شامل، بكل مايحتويه ذلك الوجود من محفزات او قيم مؤثرة، سعيا منه للتفاعل معها وكشفها والتعبير عنها بوسائله وادواته بالطريقة التي ترتئيها ذائقته ووعيه ونمط ممارساته الجمالية. وربما يكون اشتغال الفنان الحثيث وهمه الأول هو تحرير تلك المظاهر من طابعها التقليدي الملتصق بالواقعية، وتحويلها الى رموز Symbolsذات معان ودلالات اكثر عمقا وربما اكثر تأثيرا Effect واِدهاشا (بتكويناتها الجديدة) عما كانت عليه في الواقع حتى وان بدت عسيرة الفهم.

المنجز الفني المتقدم (التشكيلي على وجه الخصوص) مهما اختلفت وتنوعت صيغ انجازه هو بالنتيجة شكل متحقق في قالب ابداعي تؤلفه وحدات (عناصر Elements) مترابطة يقيمها بناء متين من العلاقات الجمالية، هذا الشكل او التكوين الجديد الذي هو حاصل حركة الفنان وبحثه وتفاعله العميق مع اسقاطات بيئته ومحيطه، يمكن ان ندركه ونتأمله ونفهمه وان نستجيب له بقدر عال من الوعي. والنتاج الفني كفعل ارادي متحقق بتواصل معرفي عملي، ينمو باتجاه التكامل اذا اقترن بوجود عناصر محركة يمكن تحسسها بصريا ووجدانيا Emotionally، أي تضمينه قيما ووحدات تشكيلية متجددة وفعالة. ان بعضا من تلك العناصر الفعالة يمكن ان نستمدها من آثار الطبيعة Nature Traces ورموز الأنسان. فالكثير من الآثار التي تشكلها حركة الأنسان او فعاليات الطبيعة تتفرد بتكوينات غاية في الروعة والإثارة سواء في اشكالها العامة او في تفصيلاتها الدقيقة - ألوانها وسطوحها- او طبيعة ملمسها Texture او ابعادها Dimensions ، او على صعيد ماتتضمنه اشكالها من دلالات لامألوفة ببعديها الزمني والحسي، الى جانب اتصاف بعضها بطابع الغرائبية Strangeness والإبهام أحيانا (تلك التي يخلفها الأنسان)، وهو مايمنحها صفة الديمومة والأثارة البصرية والذهنية.

والآثار بشتى صورها، تتبلور بتأثير حركة الحياة (فعاليات الكائنات ونتاج الطبيعة) ووجودها لاشك دليل لوجود (فعل) قصدي او تلقائي بشكل من الأشكال. اما التلقائي Spontaneous منها فله بطبيعة الحال دلالات محايدة تتصف بالشمولية لكونه غير مؤسس لسياق محدد، اما ماكان منها مبرمجا وقائما وفقا لمنهجية معينة فيمكن تحرير محتواه في ازمان لاحقة في تداول وتشكيل جديد، أي بمعنى آخر إمكانية تحوله من (الخاص) الى (العام).

اللقى والآثار على اختلاف اشكالها اصبح لها حضورا جدليا دائما في حياتنا، فنحن لانستطيع اِلغاؤها او الأستغناء عنها لكونها متحققة في كل حين ولأنها صارت جزءا متمما لوجودنا. فعالمنا المعاش يتصل ويتفاعل Interacts وفقا لآلية كونية حتمية، في كل مرحلة زمنية من مراحله مع كم هائل من الأثار المترسبة من مراحل سابقة لمسيرة الحياة، والأنسان بوعي منه او بدونه يستجيب لتلك الآثار (الصور، الرموز، الطلاسم، الكتابات...الخ) بشكل من الأشكال، تلك الأستجابة قد تنشأ غريزيا Instinctual او عقليا Mentally (في حال وجود رمز مؤدلج او مغزى مباشر)، وانه (الأنسان) يتقبلها في الغالب ويتعايش معها بطرق ووسائل مختلفة، وذلك لوجود صلة ما تربطه وتلك الرموز، تلك الصلة قد تكون روحية، اجتماعية، بيئية، نفسية، وربما صلة جمالية أيضا.

التشكيلات التلقائية الجميلة المتحققة نتيجة فعاليات الطبيعة او الكائنات المتحركة هي تكوينات عفوية بطبيعة الحال، لذلك يمكنها إعادة بناء المشهد بصورة مغايرة، صورة من شأنها تحفيز العاطفة والخيال لتأكيد جملة من القيم الحسية العميقة والفاعلة تاركة للفنان او المتذوق خيارات مرنة في مسألة ادراكه للتكوين المصور واستدراج نصوصه وعناصره لوعيه الجمالي ثم تعميق الأنطباع الإيجابي له والذي يبدو هنا (عند استدعاء صور لقى اثرية عفوية التكوين) في هيئة توليف فني استدراكي لتكوينات مجردة من المعاني.

ان خبرات الأنسان في جميع مجالاتها تكتسب من مرجعياته الحياتية ومن فعالياته الدائمة مع المحيط، وان حاجاته واحتياجاته (المادية والعملية والفكرية) انما تنبع حتما من العالمين الخاص والعام، ومن هذين العالمين اوجد الأنسان على مر تأريخه رموزا كثيرة ارتبط بعضها بلغته وعلومه وطقوسه الدينية والأجتماعية، وارتبط بعضها الآخر بالوهم والخرافة والسحر والخوف والعلاج وغير ذلك من الأغراض. فترك كما هائلا من الحروف الأبجدية والرموز الصورية وابتكر طلاسمه الخاصة واشكاله الغرائبية ليحقق بواسطتها صلته بالعالم الغيبي المتخم بالأسرار، من جهة، وبالعالم الواقعي المليء بالمفاجآت والغموض من جهة اخرى.

فأي سر لتك الرموز والإشارات، وأي مغزى لها؟

لقد امتلكت رموز الأنسان المبتكرة في عصور سابقة، لغة اشارية مركبة مشحونة بالأسرار، بقي اغلبها فاعلا في ازمان لاحقة معلنا حضوره الجدلي بقوة كمعطيات فكرية استدلالية متجددة، ثم تواصلا حتى عصرنا الحاضر. فمجتماعتنا الحية المتقدمة وحتى البدائية منها، لازالت تستعير صور ومعاني العديد من الرموز القديمة على اختلاف اوجهها وانماطها ودواعي نشأتها. فمن شأن تلك الوحدات الطلسمية Talismans تحريضنا ذهنيا وعاطفيا الى المدى الذي يدفعنا للإنكفاء الى الماضي الأفتراضي بشكل من الأشكال بقصد قراءتها من جديد وتتبع خصائصها ومزاياها واحياء تصورات متعددة حول كيفية انبثاق تلك اٌلإرادة الواعية التي حررت تلك الأشكال ذات المعاني الباطنة Secret Meaningsوالتكوينات السلسة بتلك الروحية المدهشة. ان لتلك المبتكرات القدرة على اطلاق طاقاتها الجمالية وقيمها التكوينية البنائية لتحفيز خيالنا على الدوام للبحث عن معطيات فنية اكثر اثارة ودهشة. ولا شك ان تأمل تلك الرموز والآثار ومعايشتها هو شكل من اشكال الأتصال بالماضي.

النتاج الفني بجميع اشكاله هو رابط وحلقة وصل بين الفنان والعالم، فلا فن من غير اتصال مع المحيط، مع الأنسان، مع البيئة، مع اسقاطات الحاضر. ولعل الفنان، الباحث والمفكر، بحاجة الى استدارة بسيطة لابد منها نحو الماضي لأستعارة تلك البصيرة الحية للأنسان السابق والنظر بعمق الى إرادته الخلاقة ومتابعة ارثه الحضاري لألتقاط شيء ما من بصماته ولمساته وفكره. فمن دون تلك الأستدارة لايمكن فهم عالمنا فهما دقيقا. واتصالنا بالماضي لايتم اِلا من خلال تأملنا ومعايشتنا الحسية لأثاره المتبقية. وبالنسبة للفنان المعاصر فمن شأن تلك الآثار تحفيز رغبة كبرى في عقله وروحه لدراستها والتأمل في مزاياها وربما استعارتها وإعادة تمثيلها في منجزه الفني بشكل يعزز من قيمها الجمالية ودلالاتها الرمزية لجعلها متوافقة وروح الحداثة. ان وحدات كهذه من شأنها مد النتاج الفني بطاقة ايحائية تعبيرية متنامية لإمتلاكها كم من الأشارات والمظاهر والمعاني والدلالات، وتعزيز تلك العناصر المؤثرة داخل المنجز الفني يعني مده بوسائل اتصال فعالة ومباشرة مع المتلقي.

ويُبقي الفنان عينيه في حالة بحث دائم عن كل جميل ومثير في هذا العالم، وعن كل ماهو متفرد ومميز من الظواهر والصور والأحداث، فهي كلها حَرية بالأهتمام لديه ومنها تتسع رقعة خياله واستكشافه والهامه، وانه من المناسب لاشك، البحث في خصائص ومزايا الأشكال والصور المنتخبة، بحثا جماليا خالصا. ان رموز الأنسان وكل مفردات اِرثه الفني والأدبي والروحي، جديرة بالبقاء لكونها دلائل لوجوده وتطوره ورقي ارادته. ولابد من القول ان توظيف الآثار في المنجز الفني المعاصر هو بمثابة إعادة تنظيم لها واحياؤها من جديد، وهو شكل من اشكال التمجيد Glorification والتوثيق Documentation لتلك الآثار، وهو دعوة لتأملها وكشف اسرارها وتحليل رموزها، وبالنتيجة تتمظهر تلك الرموز والأشكال كعناصر فعالةEffect Elements في المنجز الفني أيا كان نوعه، خصوصا في حال توظيفها توظيفا ذكيا مدروسا يحقق معها التوازن والبساطة والتعبير المرن. ولاشك ان اهمية البحث هنا انما تكمن في بيان الكيفية التي يتم بها توظيف تلك الآثار بالطريقة التي تعزز قيمها الجمالية والرمزية، وتزيد من حيويتها وقدرتها على الإيحاء والتناص والكشف عما وراء الشكل.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با