الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المکان وابعاده في الشعر العراقي الحديث

خالد نعمة الخالدي
باحث و كاتب

(Khalid Neamah Al-khalidi)

2020 / 9 / 16
الادب والفن


ﺍلمکان وابعاده في الشعر العراقي الحديث
ﺃوﻻ: ﺍلمکان لغة واصطلاحا
ﺍلمکان لغة
تعددﺕ تعريفاﺕ ﺍلمکان منذ ﺍلقدم وحتی وقتنا ﺍلحاضر، ويمکن تعريفه لغويا من خلال ﺍلمعاجم ﺍللغوية، فنرﺍﻩ عند (الخليلبن ﺃحمد) - (ت 170 ه) بانه" في ﺃصل تقدير ﺍلفعل، مفعل لانه موضع للکينونة" وقد ذًكر عند ابن منظور (630 ـ 711 هــ) " ﺍلموضع وﺍلجمع ﺃمکنة "، وکذلك ورد ﺍلمکان عند ﺍلفيروز ﺁبادﻱ (ت 817 هـ) في قاموسه بمعنى "الموضع والجمع امكنة واماكن "ونستطيع ﺃن نلاحظ تشابه ورود ﺍلمفردﺓ في عدد مـن ﺍلمعاجم ﺍللغوية کان ﺃبرزها يشير ﺇلی ﺍلموضع.
المَكان اصطلاحا
هناك دلالات كثيرة للمكان، وقد كان لهذه المفردة اهمية كبيرة حيث وجدت في مختلف الميادين الادبية والعلمية، وقد اخذ المفهوم الاصطلاحي للمكان بعدا فلسفيا مع الفلسفة اليونانية، ويعد افلاطون (428ـ348 ق.م) اول من صرح به استعمالا اصطلاحيا اذ عدّه "حاويا وقابلا للشيء " . وبعد افلاطون اخذ الاهتمام بالمكان يتزايد، فنجده عند ارسطو- (322-384ق.م) يمثل "السطح الباطن المماس للجسم المحوي، وهو على نوعين: خاص، فلكل جسم مكان يشغله، ومشترك، يوجد فيه جسمان او اكثر ؛ لذا فالمكان عنده: هو "نهاية الجسم المحيط، وهو نهاية الجسم المحتوى تماس عليها ما يحتوي عليه، اعني الجسم الذي يحتوي المتحرك حركة انتقال" .
وقد مَثل المكان عند (اقليدس) - (ت300 ق م) ثلاثة ابعاد هي: (الطول والعرض والعمق)، ثم جاء الرياضيون المحدثون في القرن التاسع عشر، وعلى راسهم جاوس، وريمن وبولياي، فاثبتوا امكان وجود مكان غير اقليديسي، وعدوا المكان الاقليدسي لثلاثة ابعاد حالة خاصة؛ اي يمكن تصور ابعاد عديدة للمكان، وان المكان الاقليدسي ليس الا واحدا من بين انواع المكان. وكما شغل المكان فلاسفة اليونان كان له تاثيره المباشر على (الفلاسفة العرب)، فتجده عند (الكندي، والفارابي، واخوان الصفا، وفلاسفة بغداد) هو سطح الجسم الحاوي، اما (ابو بكرالرازي) (ت311هـ) فقد ميز بين نوعين من الامكنة، اولهما الكلي او المطلق: وهو يساوي
الخلاء الذي لا يوجد فيه متمكن، وثانيهما المكان الجزئي: وهو الذي لا يمكن تصوره بدون متمكن، لكنه لا ينتهي بنهاية الجسم، بل هو الامتداد في الجهات. اما (ابن الهيثم) - (ت340هـ) فقد نظر الى المكان بانه "النهايات المحيطة بالجسم الطبيعي، كما عده بعدا متخيلا يحيط بالجسم، تكون ابعاده و ابعاد الجسم واحدة" وقد تبنى (ابن سينا) - (ت 427هـ) الموقف الذي يؤكد بان المكان هو" السطح الحاوي السطح المتمكن وسطحه هو نهاية الحاوي المماس لنهاية المحوي". كما ورد المكان عند علي بن محمد الجرجاني (ت 816 هـ) في كتابه (التعريفات) بقوله: " المكان عند الفلاسفة هو ﺍلسطح ﺍلباطن من ﺍلجسم ﺍلحاوﻱ ﺍلمماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وعند ﺍلمتکلمين هو ﺍلفرﺍﻍ ﺍلمتوهم ﺍلذﻱ يشغله ﺍلجسم وينفذ فيه ﺃبعاده" .
ويمکن ﺍلقول، ان الاختلافات التي وردت في مفهوم المكان كانت نتيجة لاختلاف العلماء في تصورهم للمکان، فبعضهم قد دل عليه من خلال ﺍلتجربة، والبعضﺍﻵخر نظر ﺇليـه نظـرﺓ متخيلة، وﺍلبعض ﺍﻵخر نظر ﺇليه من وجهة نظر فلسفية، فحاول کل منهم ﺇثباﺕ نظريته، ويبـدو ﺃن لفظة (ﺍلمکان) يمکن ﺃن تتصور علی ﺃوجه عدﺓ، فهي تختلف بحسب ﺍسـتخدﺍمها فـي کـل مجال، ويتبنی ﺍلباحث تعريف (ﺍبن ﺍلهيثم) ﺍلذﻱ ذکر سابقا في ﺍلبحث؛ وذلك باعتبار ﺍلمکان بعدﺍ متخيلا يحيط بالجسم تکون ﺃبعادﻩ وﺃبعاد ﺍلجسم وﺍحدﺓ؛ ﻷننا نجد في هذﺍ ﺍلتعريف حاويـا علـی ﺍلمتمکن وﺍلمتخيل في ﺁن وﺍحد؛ لذﺍ ﻻيقتصر ﺍلمکان علی ﺍﻷبعاد ﺍلهندسية وﺍلجغرﺍفية، بل ياخـذ ﺍلخيال ﺍلجانب ﺍﻷوسع في تصورنا له.

ثانيا: المَكان الفَني
يعتبر المكان الفني ذو اهمية كبيرة لذلك نشأ ﺍﻻهتمام به "نتيجة لظهور بعضﺍﻷفکار وﺍلتصورﺍﺕ ﺍلتـي تنظـرﺇلـی ﺍلعمل ﺍلفني علی ﺃنه مکان تحدد ﺃبعادﻩ تحديدﺍ معينا" . وينطلق (يورﻱ لوتمـان) فـي تحليلـه للمکان ﺍلفني، من مقولة ﺃساسية مؤدﺍها ﺃن ﺍللغة هي ﺍلنظام ﺍﻷولي لتحويل ﺍلعالم ﺇلی ﺃنساق، هذﻩ ﺍﻷنساق تکون دﻻلية، وﺇن لهذﻩ ﺍﻷنساق نتاجا ثقافيا في ﺍلمقام ﺍﻷول. فيشکل ﺍلعمل ﺍلفني وجهة نظرﻩ- مکانا محدد ﺍلمساحة کـ (ﺍللوحة ﺍلفنية، ﺃو ﺍلتمثال، ﺃو ﺍلقصيدﺓ، ﺃو ﺍلروﺍية)، فمـن جانب يشغل ﺍلعمل ﺍلفني حيزﺍ معينا في ﺍلکون ﺍلفسيح، ولکنه من جانب ﺁخر يمثل في هذﺍ ﺍلحيـز ﺍلمحدود حقيقة ﺃوسع منه وﺃشمل هي ﺍلعالم ﺍللاـ متناهي هو ﺍلعالم ﺍلخارجي، وﺍلذﻱ يتجاوز حدود ﺍلعمل ﺍلفني .
وربما يکون ﺃول تعريف وصل ﺇلی ﺃيدﻱ نقادنا للمکـان ﺍلفنـي هـو تعريـف (جاسـتون باشلار) ـ (1884 ـ1962م) حيث يقول: "ﺇن ﺍلمکان ﺍلذﻱ ينجذب نحوﻩ ﺍلخيال ﻻ يمکن ﺃن يبقی مکانا ﻻ مباليا، ذﺍ ﺃبعاد هندسية وحسب. فهو مکان قد عاﺵ فيه بشر ليس بشکل موضوعي فقط، بل بکل ما للخيال من تحيز" .
ثالثا: شعرية ﺍلمکان
ﺇن ﺃهم ما يميز شعرية ﺍلمکان ﺃو توظيفه شعريا، "ﺃنه يقع بين زﺍويتـين همـا:زﺍويـة ﺍلتشکيل ﺍلشعرﻱ، وزﺍوية ﺍلتاويل. ففي ﺍلزﺍوية ﺍﻷولی تتشکل وفقا لرؤية شعرية غالبا من يتحکم فيها ﺍلخيال ليمنحها بعدﺍ تاثيريا جماليا، وفي ضمن ﺍلزﺍوية ﺍلثانية يکون ﻹحساس ﺍلمتلقي ورؤيته ﺍلذوقية وﺍلنقدية ﺃثر في حياته وفي تجربة ﺍلشاعر، وبهذﺍ يکون ﺍلمکان ﺍلمدمج في بنية ﺍلقصـيدﺓ منفتحاﹰ علی عالم ﺍلتخييل عند ﺍلمتلقي " کما ﺃن شعرية ﺍلمکان ليست محصـورﺓ فـي ﺍلمکـان وحدﻩ؛ بل باتصاله ﺍلقوﻱ بخبرﺓ ﺍلشاعر ورؤيته فيه.
وﻻبد من ﺍﻹشارﺓ ﺇلی دور ﺍللغة ومعطياتها ﺍلشعرية وﺍلجمالية علی ﺍلمکان؛ ﻷن"ﺍلمکان في ﺍلشعر يتشکل عن طريق ﺍللغة ﺍلتي تمتلك بدورها طبيعة مزدوجة، ....لکن ﺍلمکان ﺍلشعرﻱ ﻻ يعتمد علی ﺍللغة وحدها، وﺇنما يحکمه ﺍلخيال ﺍلذﻱ يشکل ﺍلمکان بوﺍسطة ﺍللغـة علـی نحـو يتجاوز قشرﺓ ﺍلوﺍقع ﺇلی ما قد يتناقض مع هذﺍ ﺍلوﺍقع" .فعلاقة ﺍللغة بالمکان ﺍلشعرﻱ تتم "علی صعيد ﺍلنسق ﺍلتصويرﻱ، ﺃﻱ مجموﻉ ﺍلتصورﺍﺕ ﺍلتي تتشابك وتتقاطع فيما بينها وتحدد ﺍلرؤيـة تجاﻩ ﺍلعالم" .
وقد ﺃشار ﺍلشاعر وﺍلناقد "عز ﺍلدين ﺍلمناصرﺓ " ﺇلی ﺃهمية ﺍلمکان في محاضرﺓ بعنـوﺍن "شعرية ﺍﻷمکنة "ﺃلقاهـا فـي ﺍلمـؤتمر ﺍلتاسيسـي ﻻفتتـاﺡ ﺍلجمعيـة ﺍلجاحظيـة بـالجزﺍئر (20/11/1989 م)، وﺍلتي ﺃسسها ﺍلروﺍئي ﺍلطاهر وطار، ﺇلی عنصرﻱ ﺍﻹثارﺓ وﺍلتحريض علی حب تأمل ﺍلمکان ﺍلشعرﻱ وقرﺍﺀﺓ ﺃسرﺍرﻩ وجعلهما ﺃکثر ﺃهمية من ذکر ﺍسم ﺍلمکـان نفسـه ". وبهذﻩ ﺍﻹشارﺓ يفتح ﺍلشاعر ﺃمامنا ﺁفاقا جديدﺓ، يمکن من خلالها تصور ﺃبعاد ﺍلمکـان ﺍلمتعـددﺓ، وليس ﺍﻻقتصار في ﺍلبحث عن ﺍلمکان.
رﺍبعا: مفهوم ﺍلجمال ﺍﻷدبي
ان مصطلح ﺍلجمال جاء في كثيرمن ﺍلمعاجم ﺍلقديمة وﺍلحديثة ففي (لسـان ﺍلعـرب لابن منظور) ـ (630ـ 711 هـ) ﺃن "الجمال مصدرالجميل"، والفعل"جمل"، اما في معجم ﺍلمصطلحاﺕ ﺍﻷدبية ﺍلمعاصرﺓ "فتعني ﺍلجمالية: ﺍلنزعة ﺍلمثالية ﺍلتي تبحث في ﺍلخلفياﺕ ﺍلتشکيلية للنتاج الادبي والفني وتختزل جميع عناصر العمل في جماليته" .
يعرف (ﺃفلاطون) ﺍلجمال بقوله: (ﺇن ﺍلجمال ليس صفة خاصة بمائة ﺃو ﺃلف شيﺀ فلا شـك في ﺃن ﺍلناس وﺍلجياد وﺍلملابس وﺍلعذرﺍﺀ وﺍلقيثارﺓ کلها ﺃشياﺀ جميلة، غير ﺃنه يوجد فوقها جميعا، ﺍلجمال نفسه) . وقد عرفه (ﺃرسطو) بانه: ﺍلتناسق ﺍلتکويني وﺃن ﺍلعالم يتبدﻯ في ﺃجلـی مظـاهرﻩ فهو ﻻ يکتفي برؤية ﺍلناس کما هم في ﺍلوﺍقع بل کما يجب ﺃن يکونوﺍ عليه .
بدﺃﺕ مسيرﺓ ﺍلجمال مع (افلاطون)، فالوجود عندﻩ ذو عوﺍلم ثلاثة، هي: عـالم ﺍلمثـل وعالم ﺍﻷشياﺀ ﺍلمرئية وﺍلموجودﺍﺕ ﺍلمحسوسة، وعالم ﺍلخياﻻﺕ وﺍلظلال وهو ﺍلذﻱ يـدور فـي ﺍﻷعمال ﺍلفنية .فهو لم يعمد ﺇلی ﺇقامة نظرية عامة في ﺍلجمال وفلسفة ﺍلفن، وﺇنما تناول ذلك من خلال مباحثه في ﺍلوجود وﺍلمعرفة وﺍﻷخلاق؛ لذﺍ تناثرﺕ ﺃفکارﻩ ﺍلجمالية فـي محاورﺍتـه ﺍلتـي دﺍرﺕ ﺃساسا حول تلك ﺍلمباحث .
کما ﺃن (فلسفات ﺍلعصور ﺍلوسطی) ﺍلمسيحية قد نظرﺕ ﺇلی ﺍلجمال من "خـلال معنـاﻩ ﺍلروحي فقط، وهذﺍ ﺍلفکر ﺍتجه ﺍتجاها مختلفا عند ﺍلفلاسفة ﺍلمسلمين ﺍلذين قسموﺍ ﺍلجمـال ﺇ لـی مادﻱ ومعنوﻱ، وما فهم من ﺍلقرﺁن ﺍلکريم عن ﺍلجمال وﺍﻷلفاظ ﺍلمرﺍدفة له " .فالجمال" يتسم بالتناسق وﺍﻻنسجام وﺍلتوﺍفق والنظام، بحيث ينم عن معنى ويكون له مغزى معين " .
وقد نال تعريف ﺍلجمال من ﺍلفلاسفة ﺇلی ما ﻻ حد له منها، فکل فيلسـوف يُعبر عـن ﺍلجمال باسلوب يختلف عن ﺍﻵخر؛ لذﺍ كانت هناك عدﺓ معان مختلفة في کل حقبة زمنية ﺇلی ﺃن جاﺀ ﺍلعالم ﺍﻷلماني (ﺍلکسندر جوتليب باومجارتن) ـ (1714ـ1762م) في ﺍلقرن ﺍلثامن عشـر، ﺍلذﻱ يعد مؤسس (علم ﺍلجمال) في ﺍلعصر ﺍلحديث، وهو ﺃول من دعـا ﺇلـی ﺍسـتقلال (علم الجمال) بذﺍته عن ﺍلفلسفة، وجعل له نظرياﺕ خاصة، وشروط للجمال ومقاييس وفروﻉ، وبذلك وضع حجر ﺍﻷساس ﺍﻷول لهذﺍ ﺍلعلم .
وتنبثق جمالية ﺍلمکان في ﺍلشعر ﺍلعربي ﺍلقديم"من کون ﺍلوعي ﺍلشعرﻱ في ذﺍته، وعيـا ﺍستعاريا يقوم علی تشکيل ﺍﻹدرﺍك ﺍلحسي للوﺍقع، وتحويله ﺇلی رؤية تستخلص ما هو جـوهرﻱ فيه ؛ ذلك ﻷن ﺍلشعر بوصفه فنا، ما هو ﺇﻻ تأويل رمزﻱ للوﺍقع"، وفي هذﺍ ﺍلوﺍقع يشغل ﺍلمکان دورﺍ مباشرﺍ في تشکيله

ﺃبعاد المكان في ﺍلشعر ﺍلعرﺍقي ﺍلحديث
كان المكان لايثير اهتمام الشعراء العراقيين في بداياتهم الاولى، حيث كان اهتمامهم منصـبا علـی موﺍضيع تعتبر ﺃکثر ﺃهمية بالنسبة ﺇليهم من ﺍلمکان في تلك ﺍلحقبـة، مثـل ﺍلعـدل وﺍلحريـة، وﺍلمساوﺍﺓ، وهي خلاصة ﺍلمطاليب ﺍلقومية ﺍلتي صدرﺕ عن باعث من بوﺍعث نفسية متعددﺓ. فقد ﺃطل ﺍلشاعر (معروفﺍلرصافي) ـ (1875 ـ1945م) علی ﺍلجانب ﺍلوطني، فکانـﺕ مشـاهد ﺍلبؤس من ﺃشد ﺍلدوﺍعي ﺍلملحة لنظمه ﺍلشعر.
ويمکن ملاحظة ﺃن خصوصية ﺍلمکان في تلك ﺍلحقبة ذﺍﺕ طابع يتسم بنقل صـور وﺍقعيـة للأشياﺀ، فهي ﺇما وصف لتلك ﺍﻷمکنة ﺃو وصف ﺃصحابها، وکان ﺍلوصف علی شـکل "صـور حسية وتشبيهاﺕ مادية ﺍفتقد ﺍلذهول ﺍلشعري والتامل الحقيقي الا ما ندر".
وقد اشار الشاعر (جميل صدقي الزهاوي) ـ (1863ـ1936م) في وصفه (المستنصرية) الىﺍلمکان بقصيدتين طويلتين عندما وقف ﺍلشاعر علی ﺁثارها في بغدﺍد، فتجسد في قصيدته علی ما تهدم من بنائها، وبکی علی ما ﺁلت ﺇليه من ﺇهمال وﺍضطرﺍب، وقد نافسه في ذلك (ﺍلرصـافي) عندما وصف (ﺍلمدرسة ﺍلنظامية) علی طريقة ﺍلمنافسة ﺍلمعهودﺓ بينهما، فبـالرغم مـن سـهولة ﺍﻷلفاظ وبساطة ﺍﻷفکار ﺍلتي ﺍستخدمت في ﺍلقصيدتين، ﺇﻻ ﺃنهمـا کانتـا بعيـدتين عـن دﺍئـرﺓ ﺍلتأمل .
کما ﺃن (ﺍلمدن ﺍلعرﺍقية) لم تحظ بوصف کثير في تلك ﺍلمدﺓ، وﺍلسبب يعـود ﺇلـی ﺃنهـا کانت مدنا کئيبة، قليلة ﺍلعمرﺍن سيطرعليها ﺍلحاکم ﺍﻷجنبي قرونا؛ فاحالها ﺇلی مجتمعاﺕ کئيبة ؛لذﺍ لم تحز علی ﺇعجاب ﺍلشعرﺍﺀ. وکذلك (ارياف العراق) فبالرغم مـن ﺍشـتهارها بالخصـب وﺍلنماﺀ، ﺇﻻ ﺃنها قد وصفت بالمقابر القديمة .
ﺃما بعد عام (1941م) فقد ﺍتجهت خصوصية ﺍلمکان في ﺍلشعر ﺍلعرﺍقي ﺇلی ﺃغـرﺍﺽﺃخرﻯ، کانت حصيلة ﺍلتجارب بين ﺍلشاعر وعصرﻩ، فقد رفضت ﺍلکثير من ﺍلتقاليد ﺍلمقدسة فـي ﺍلشعر، وﺍلعريقة في ﺍلزمن، تلك ﺍلتي بقي ﺍلشعر ﺍلعرﺍقي متکئاً عليها لحقبة طويلة، ومـن روﺍد هذﻩ ﺍلحرکة ﺍلشعرية الشاعرة (نازك الملائكة) ـ (1923ـ2007م)، حيث تمثلت فـي ﺍلتعبيـر عن مشاعرها وﺃحاسيسها في لجوئها ﺇلی مظاهر ﺍلطبيعة ﺍلتي کانت تمثل لها عدﺓ معـان، فهـي مظاهر ﺍلکون وهي ﺍلحياﺓ، ﺃشارﺕ بها للتعبير عن وﺍقعها ﺍلنفسي، وﺃلفـاظ ﺍلطبيعـة عنـدها "ﻻ تبتعد کثيرﺍ عن ماساﺓ ﺍلحياﺓ "، وقد تضمنت قصائدها ﺍلعديد من ﺍﻷلفاظ ﺍلتي تحمل دﻻلة مکانية (کالزورق وﺍلمجدﺍف) وغيرها ﺍلکثير، ﺇشارﺓ ﺇلی بعض متعلقاﺕ ﺍلمکان ﺍلطبيعي وﺃثرها ﺍلوﺍضح في نفسية ﺍلشاعرﺓ.
وکذلك نستطيع ان نلاحظ ﺍلبعد ﺍلجمالي للمکان عند ﺍلشاعر (بـدرشـاکرﺍلسـياب) ـ (1926ـ1964م)، فقد صور قريته (جيكور) في" لوحة كاملة من الصور والاطياف"، وقـد ﺃشار ﺇليها في کثير من ﺍﻷحيان للهروب من وﺍقع ﺍلمدينة ﺍلمتهالك، مقارنة مـع طبيعـة ﺍلحيـاﺓ ﺍلريفية ﺍلجميلة.
ويرﻯ ﺍلباحث ﺃن خصوصية ﺍلمکان في ﺍلفترﺍﺕ ﺍﻷولی من ﺍلشعر ﺍلعرﺍقي منذ ﺇعـلان ﺍلدستور ﺍلعثماني عام (1908م) وحتى بعد عام (1947م) قد مرﺕ بمرﺍحـل مختلفـة، وكل مرحلة تمثل ﺍلوﺍقع ﺍلمعيش في تلك ﺍلحقبة سوﺍﺀ ﺃکانت تعبر عن خصائص نفسية، ﺃم ﺍجتماعية، ﺃم قومية، وکانت لکل حقبة خصوصيتها حسب تاثير ﺍلطابع ﺍلعام ﺍلذﻱ يؤثر في ﺍلشـعرﺍﺀ مـن حيث صياغة ﺍلفکرﺓ وکيفية طرحها.
ﺃبعاد ﺍلمکان في ﺍلشعر ﺍلعرﺍقي ﺍلحديث
هناك عوامل عديدة استطاعت ان تكشف الامور والقضايا التي تبين اهمية ماطرﺃ علی ﺍلمجتمع ﺍلعرﺍقي من جملة تطورﺍﺕ علی مختلف ﺍﻷصعدﺓ، فقد ﺍستطاﻉ ﺍلشعرﺍﺀ ﺍلعرﺍقيون في ﺍلکشف عن ﺃبعـاد فکريـة، وﺍجتماعية، وسياسية، من خلال مزﺝ صورهم ﺍلشعرية بالوﺍقع ﺍلمعيش فـي وصـف ﺍلمجتمـع ﺍلعرﺍقي وما يعانيه من ظروف ﺃدﺕ بالتالي ﺇلی ﺍلتعبير عن هموم ﺍلمجتمع ﺍلعرﺍقي، وفي تسـليط ﺍلضوﺀ علی ﺍلقضايا ﺍلرئيسة ﺍلتي يعاني منها ﺍلمجتمع ﺍلعرﺍقي، وﺍلذﻱ کان ﺍلمکان جزﺀﺍ مهمـا فيها، فقد عبر ﺍلشعرﺍﺀ ﺍلعرﺍقيون من خلال ﺃشعارهم عن ﺍرتباطهم بالمکان _سوﺍﺀ ﺃکان ﺍلمکـان يمثل حالة ﺇيجابية ﺃم سلبية _فقد ﺍستطاعوﺍ نقل ﺍلصورﺓ ﺍلتي کـانوﺍ يسـعون ﺇليهـا ﻹظهـار مشکلاﺕ ﺍلمجتمع ﺍلعرﺍقي فکان ﺍلشاعر ﺍلعرﺍقي يمثل ﺍلکاميرﺍ ﺍلتصويرية، ليس فقط فـي نقـل ﺍﻷحدﺍث؛ ﻷن ذلك هو عمل ﺍلمؤرﺥ، ولکن في ﺇثارﺓ ﺍﻹحساس بحجم ﺍلمعاناﺓ ﺍلتـي يمـر بهـا ﺍلمجتمع ﺍلعرﺍقي من خلال صورهم ﺍلفنية ﺍلجمالية.
ﺃوﻻ: ﺍلبعد ﺍلاجتماعي للمَكان
تبلورت رؤية ﺍلشاعر ﺍلعرﺍقـي للبعـد ﺍﻻجتمـاعي للمکـان، من خلال المعانات والظروف النفسية التي اثرت بشكل مباشر في تکوين شخصـيته وتـدﺍخلت فـي تشکيل ﺍلصورﺓ ﺍلمکانية وتلوينها، ويصف ﺍلرصافي مشاکل ﺍلعرﺍق ﺍﻻجتماعيـة، ومـن ﺃهمهـا مشکلة ﺍلفقر، فقد صور ﺍلفقير ﺍلجائع في قصيدته (ﺍلفقر وﺍلسقام) ، ﺇشارﺓ ﺇلی هـذﻩ ﺍلمشـکلة ﺍﻻجتماعية بقوله: "ﺇن مشاهد ﺍلبؤس کانت من ﺃشد ﺍلدوﺍعي عندﻱ ﺇلی نظم الشعر " .
کما صور (ﺍلجوﺍهرﻱ) حالة ﺍلفلاﺡ وما يعانيه من ظلم في قصائد عـدﺓ، مصـورﺍ حالتـه ﺍلمتردية وکوخه المظلم، وجوعه وﺃلمه، ومحاوﻻ بذلك ﺇقناﻉ ﺍلحاکمين بالمنطق وﺍلحجة بوجوب مساعدته .
ويمکن ﺍﻹشارﺓ ﺇلی ﺃثر ﺍلمکان وکيفية ﺍرتباطه بالحالة ﺍﻻجتماعية عند ﺍلشـاعر (احمد الصافي النجفي) ـ (1897ـ1977م) في مطلع ﺍلقرن ﺍلعشرين، وﺍلذﻱ صور في قصائدﻩ بيئة ﺍلفلاحين في غدوهم وروﺍحهم، فکانت قصيدته (الفلاح) في ديوانه (الامواج) خير مثـال علـی ذلك، "فقد خاطب فيها ﺍلفلاﺡ طالبا منه ﺃن يترفق بنفسه وﻻ يحملها کل هذﺍ ﺍلتعـب؛ ﻷن جميـع سعيه ذﺍهب ﺇلی غيرﻩ" .
وعلی ﺍلرغم من صدق ﺍلعاطفة في ﺍلتعبير عن ﺍلمشکلاﺕ ﺍﻻجتماعية لدﻯ ﺍلشعرﺍﺀ فـي تلك ﺍلحقبة وخاصة في ﺍلقرن ﺍلعشرين، ﺍلتي کانت تعايش ﺍلفلاﺡ في کوخه، وﺍلفقير في جوعـه، وﺍلبائس في ﺃلمه، وتصوير مظاهر ﺍلتخلف، ومناظر ﺍلبؤس وﺍلفقر وقضـايا ﺍلمـرﺃﺓ وﺍلفـلاﺡ وغيرها، وبالرغم من ﺇحساس ﺍلشعرﺍﺀ بالفلاﺡ وما يعانيه من ظلم معبرين عـن ﺃلمـه بالفـاظ مکانية، ﺇﻻ ﺃن صور ﺍلشعرﺍﺀ کانت متکئة علی ﺍﻷسلوب ﺍلخطابي، وﺇثـارﺓ ﺍلحماسـة وﺇبـرﺍز ﺍلحکمة، "فقد ﺍهتموﺍ باللفظة من حيث قدرتها علی ﺍلتعبير ﺍلصادق وﺍلمعنی ﺍلمباشر ﺍلذﻱ يصور وﺍقع ﺍلحال، ﻻ ﺇلی ما يطمح ﺇليه ﺍلفن من تذوق ﺍللغـة ﺍلرشـيقة وﺍلمعنـی ﺍلمبتکـر وﺍلخيـال الممتع" .
ثانيا: ﺍلبعد ﺍلسياسي للمَكان
ﺍلبعد ﺍلاجتماعي شكل اقترانا واضحا بالبعد ﺍلسياسي ﺍلذﻱ کان ﺃکثر حضورﺍ وخاصة في ﺍلقـرن ﺍلتاسـع عشر بسبب نزوﻉ ﺍلشعرﺍﺀ ﺇلی نزعة فردية في ﺍلتاليف وﺍلوصف، وعدم بلوﻍ ﺍلنضج ﺍلفکـرﻱ وﺍلاجتماعي بين ﺃولئك ﺍلکتاب وﺍلشعرﺍﺀ درجة تجعلهم يعون مشکلاﺕ وﺍقعهم ﺍلاجتماعي وﺁفاته، ومما ﻻ شك فيه ﺃن ﺍلکشف عن مساوﺉ تلك ﺍلمرحلة من فساد وتاخر وفقـر وبـؤس يقتضـي بالضرورﺓ ﺍلتعرﺽ للحکام ﺍلذين يشکلون ﺍلسبب ﺍلمباشر فيها، فبالتالي ﻻ يمکن "تصور ﺍﻷحوﺍل ﺍلاجتماعية وﺍلاقتصادية وﺍﻷجوﺍﺀ ﺍلثقافية ﺍلفکرية بمعزل عن مجمل ظروف ﺍلحيـاﺓ ﺍلسياسـية ؛ ﻷنها تتفاعل جميعا ضمن بوتقة ﺍلحياﺓ ﺍلعامة ﺍلتي تؤلف مع بعضها نسيجا وﺍحـدﺍ فتـؤثر کـل وﺍحدﺓ منها في ﺍﻷخرﻯ وتنعکس عليها" .
ﺇن وصف ﺍلشعرﺍﺀ للسجون _علی سبيل ﺍلمثال_في ﺍلقرن ﺍلتاسع عشر لم يکن وصفا دقيقـا، بسبب قلة دخول ﺍلشعرﺍﺀ للسجون وعدم رؤيتها عن کثب ومن ثم وصفها، ولکن ﺍﻷمـر تغيـر بدخول ﺍلقرن ﺍلعشرين، فاستيقظﺕ ﺍﻷفکار وتجـرﺃ ﺍلشـعرﺍﺀ، وﺃصـبحوﺍ يطـالبون بالعدﺍلـة وﺍﻹصلاﺡ؛ لذلك دخلوﺍ ﺍلسجون وتعرضوﺍ للتشريد وﺍلنفي، ورﺃوﺍ ما في ﺍلسجون مـن ظلمـة وظلم وﺇرهاب، وقد وصف ﺍلرصافي ﺍلسجن بادق وصف في قصيدﺓ (ﺍلسجن في بغدﺍد) وكان وصفا دقيقا ينبع من قدرته ﺍلفنية، کما ﺃنتجت ﺍلمنافي وﺍلسجون لونا ﺁخر من ﺍﻷدب وهـو (ﺃدب ﺍلمنافي وﺍلسجون) ينظم فيه ﺍلشاعر في مختلف ﺍﻷغرﺍﺽ ﺍلوطنية والاجتماعية .
ﺇضافة ﺇلی ذلك، نجد ﺃن ﺍﻷحدﺍث ﺍلسياسية ﺍلدﺍخلية قد تركت ﺃثرها فـي لغـة ﺍلشـعر ﺍلعرﺍقي، بحيث ﺃصبح للحدث ﺍلقومي، وتطور ﺍللغة ﺍلشعرية بجمالياتها دورﻩ ﺍلمهم فـي ﺍلشـعرﺍلعرﺍقي، وفي لغته بصورﺓ خاصة، فقد دخلت ﺇلی هذﺍ ﺍلشعر ﺃسماﺀ (ﺍلمدن ﺍلعربيـة) کرمـوز للثورﺓ وﺍلنضال، وﺃصبح للمفردﺓ ﺍلسياسية دﻻلة ﺃکثر ﻻرتباطها بتجربة ﺍلشاعر بعد ﺃن نضـجت تجربة ﺍلشعرﺍﺀ، وﺃصبح للتجديد قيمة في نظر ﺍلشعرﺍﺀ مستندين ﺇلی قاعدﺓ ﺍلتجديد ﺍلتـي مثلها ﺍلشعرﺍﺀ ﺍلروﺍد، حيث ﺃصبحت ﺍلدﻻلة ﺍلنضالية وﺍلثورية ﻻ تتجمد فـي ﺇطـار شـکلية ﺍلکلمـة ﺍلسياسية ﺍلمباشرﺓ، بل ﺃصبح ترﺍبط ﺍﻷلفاظ فيما بينها وعلاقتها بالشـعور وﺍﻹحسـاس ﺍلـدﺍخلي، للشاعر هو ﺍلذﻱ يمنح ﺍلقصيدﺓ نسيجها ﺍلعام، ﺇضافة ﺇلی تطور بنية ﺍلقصـيدﺓ لتطـور ﺍلـوعي ﺍلمعرفي وﺍلثقافي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد