الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الويل لثقافةٍ تقودها شخصياتٌ بوفارية

نوفل شاكر

2020 / 9 / 16
الادب والفن


يقول كاتب عراقي: " الشخصية البوفارية بحسب جول دوغوتيه هي نتاج خلل في الشخصية يدفع صاحبها الى تصور نفسه شخص اخر لا يمت بصله لذاته الحقيقية.. وسبب هذا التصور هو حماسة واعجاب بتلك الشخصية المتخيلة مما يدفع الشخص الى تقليدها تقليد سطحي في الملبس والخطاب والحركات.. مما ينتج شخص قرقوزي.. سطحي.. شخص يمتلك تصورا خاطئا عن ملكاته الحسية وامكانياته الفكرية.. وسبب شيوع الشخصية البوفارية هو انتشار التعليم على نطاق واسع.. وسيادة نظام تعليمي يقدم الكمي على النوعي.. مما ادى الى ان الافكار الفلسفية والادبية والعلمية تصبح مبذولة امام اشخاص لايمتلكون الادوات الذهنية الكافية لهضمها واستيعابها.. والنتيجة هو وهم الفهم.. مما يخلق ظاهرة انصاف المتعلمين.. ما هو تراكم اجيال من النخب الفكرية يصبح مبذولا امام اشخاص يمتلكون ذهنيات محدودة.. وهذه الفجوة بين تعقيد الفكر وسطحية التلقي تخلق شخصيات منتفخة بوهم الفهم.. شخصيات تستهلك فكرة الواقع قبل تجربة الواقع.. تستهلك فكرة الحب قبل تجربة الحب (مدام بوفاري انموذجا).. وعدم قدرتها على تمييز الفكرة عن الواقع يدفعها الى علاقة مَرَضيّة وصِدامية مع الواقع.. وبالتالي علاقة عنيفة مع المجتمع."

لو أسقطنا التعريف أعلاه على الواقع الثقافي العراقي السائد الآن، لانطبق على أسماء كثيرة تملأ الساحة الثقافية بالضجيج والصخب... شخصيات مُصابة بوهم المعرفة.
"شعراء" يرصفون كلمات متقاطعة متخيلينها قصائد نثر.
"روائيون" يسطّرون حكايات تفتقر إلى المبنى الحكائي، فضلاً عن افتقارها للبناء الفكري.
"مفكرون" يرددون مقولات جاهزة تنفجر بوجهك كقنابل دخانية مجهولة المصدر...
محللون سياسيون تعلموا الجيوبولتيك من برنامج " حصاد الشرقية".

مثقفو جملة صنعتهم منصات التواصل الاجتماعي، وأباحت لهم الهجوم على رموز ثقافية كبيرة كعلي الوردي، و الجواهري، والسياب، والتكرلي، و غائب طعمة فرمان، ومظفر النواب... والذريعة هي دوماً " حرية التعبير"!
ليس هناك مقدس في الثقافة العراقية!
فلتسقط الثوابت والمجد للتحولات.

خطابٌ خطير يخفي تحته إشارات تدل على مشروع منظم وموّجه ومؤطر لهدم بنية الثقافة العراقية، ومسخ هويتها، عبر احتقار رموزها، وتسقيطهم معنوياً... الاغتيال الرمزي هو السلاح الأفتك في هذه المعركة، و منصات التواصل الاجتماعي هي الميدان.

يوماً ما اشتكى الأديب الإيطالي الشهير إمبرتو إيكو من هذه الظاهرة قائلاً بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».

غزو الحمقى والبلهاء هذا هو المهيمن الآن في الساحة الثقافية. شخصيات معروفة بابتذالها الأدبي، وخوائها المعرفي هي من تصنع الخطاب في عراق اليوم. صفحات " الخوة النظيفة" و " شبكة شكو ماكو" هي من ترسم الهوية الثقافية وتؤطرها، وتنظّر للوطنية وتصنع الرأي العام في العراق. والويل لمن يقول خلاف ذلك!

الكوميديا السوداء في الساحة العراقية مهزلة فكرية:

مثقف عراقي يدعو لإسقاط مقولة " العراق مهد الحضارات" لأنَّ العراق اليوم يستورد الطماطة من إيران!

عواطف الأفلام الهندية لمثقفي الوطن، الداعية إلى إفراغ العراق من رموزه الثقافية، وتجريده من هويته، بحجة الدفاع عن الوطن تذكرني بمقولة اندريه جيد:
" العواطف الجميلة تنتج أدب سيء".

هذه العواطف أنتجت لنا نمطاً من الحكواتيين والردّاحة ، تضخمّت لديهم الذات؛ بفضل جمهور الحمقى الذي صنعته منصات التواصل، فأصبحوا يطلقون على أنفسهم صفات كبيرة. " أدباء" و " شعراء" تجد حتى في صمتهم أخطاء إملائية ولغوية!
كتّاب كلايش جاهزة أشبه بكتّاب عرايض يجلسون في باب دوائر تسويق الثقافة، ومعاهد تصنيع الأنتلجنسيا الجديدة.

من حق هؤلاء جميعاً أن يشخبطوا كما يشاؤون، ولكن ليس من حقهم أن يستهتروا بهويتنا الثقافية.
آه لو كانت للكلمات محاكم!

عندما كانت الصين القديمة مسرحاً للفوضى . سأل أحد التلاميذ الحكيم الصيني كونفوشيوس :" لو طُلب منك ان تتولى ادارة شؤون البلاد فما هو اول شيء ستقوم به؟". فرد عليه كونفوشيوس: "ساقوم بتصحيح المُسَمَّيات". وهي اجابة اثارت استغراب تلميذه الذي سأله باستخفاف: "وماذا سيفيدنا تصحيح المُسَمَّيات".. فرد عليه كونفوشيوس" اذا لم يتم تصحيح المُسَمَّيات فان الكلمات لن تتطابق مع الواقع واذا لم تتطابق الكلمات مع الواقع فان كل جهودنا ومشاريعنا تصبح عبث ....". بتعبير اخر، كونفوشيوس يرى بأن الفوضى السياسية هي بالاصل فوضى فكرية حيث المُسَمَّيات تخون الواقع. من هنا فالعلاج يبدأ باصلاح المُسَمَّيات.انه المبدأ الاول لعلم الطب الحديث: التشخيص الدقيق. وهو بالضبط ما نحتاجه في قضية أزمة الثقافة العراقية اليوم. الثقافة العراقية بحاجة إلى تصحيح مسمياتها، ليس كل من يمتلك رصيداً من المتابعين الذين يعلقون له بعبارة " أحسنت النشر" يستحق أن يُطلق عليه شاعر، وليس كل من يكتب خواطر وحوارات تسجيلية وحكايات أطفال يُطلق عليه روائي، وليس كل من يقرأ كتاب " من الذي حرك قطعة الجبن الخاصة بي" يصبح مثقفاً.

الشخصية البوفارية المهيمنة على الثقافة العراقية اليوم، جعلت المثقفين يفتحون مظلاتهم كلما أمطرت في واشنطن. وجعلت مدوناً تافهاً يكتب في التأريخ الآشوري، ويصنع العقل الجمعي لآلاف المراهقين. وجعلت اللغة التي يكتب بها المثقفون لغةً " كوزميتيكية" _ بحسب رولان بارت_ لغة تزويقية، مفردات فارغة من المعنى. تخريج صوتي صرف. ضجة لغوية تحاول تعمية وإخفاء واقع قبيح. جمناستك لغوي غير متقن، يؤدي بصاحبه إلى بضع چقلمبات ليسقط في النهاية على المؤخرة.

إقرأ هذا النص وحاول أن تجد فكرة خلف الكلمات:

" (....)
*
سقطت جمرةُ السيجارةِ
بين الفِراش وبين الغطاء.
قلتُ: ستُحدِثُ
ثقباً صغيراً
مثل عين الميّت الفارغة
أو ناراً بسيطةً
أخمدُها بصفعةٍ سريعةٍ..
ما عرفتُ أين الجمرةُ
وما لسعتْ اصبعي
وأنا أبحثُ بين القماشِ والنعاس..
ما شممتُ رائحةَ احتراق
وحتى حين تعبتُ وعدتُ كما كنتُ
بنومةِ وضعِ الجنين
ما لسعت جنبي..
وما نمتُ
ولا ينامُ مَن ضاعت جمرةُ سيجارتِهِ
وظلّتْ تتوهّجُ في ذهنه."

كلمات مرصوفة خالية من الفكرة، اللهم إلا إذا حسبت بأن الجمرة التي سقطت من السيجارة، وبحث عنها الشاعر ولم يجدها لكونها " ظلت تتوهج في ذهنه"فكرة ثورية!

أين هذا الهذر من قول السياب:

" ورأيت من خلل الدخان, مشاهد الغد كالظلال
تلك المناديل الحيارى.. وهي تومئ بالوداع
أو تشرب الدمع الثقيل.. وما تزال
تطفو وترسب في خيالي
هوم العطر المضاع فيها
وخضبها الدم الجاري
لون الدجى وتوقد النار".

قوانين الفيزياء الثقافية تقول بأن لكل فعل سياسي، أو اجتماعي، هناك رد فعل ثقافي، فالنص المقتبس من قصيدة السياب " في السوق القديم" يتحدث عن فكرة معينة، فكرة الثورة التي عبر عنها ب " توقد النار" والظلم المتمثل بالليل ( الدجى) الثورة التي توقدها دماء الشهداء" الدم الجاري". وعند دراسة حياة السياب وظروف كتابة القصيدة، نجد بأنها كتبت في العهد الملكي، عندما كان السياب شيوعياً مبعداً إلى مدينة الرمادي، وهكذا هو الحال مع الجواهري، والنواب وغيرهم. إرجع إلى نص صاحبنا الشاعر الذي يبحث عن جمرته " بين الفراش" ماذا تجد؟ سيجارة سقطت منها جمرتها بحث عنها صاحبها ولم يجدها. خواء في خواء... نص مكتوب ليغلف به الشاعر شخصيته ويقدمها للجمهور على أنها شيءٌ غامض وكبير، متوارياً خلف قفصٍ من اللغة، منطق الختيلة هذا هو ما يميز الشخصيات البوفارية التي تتزعم المشهد الثقافي والإعلامي اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: تكريمي من الرئيس السيسي عن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: نفسي ألعب دور فتاة




.. كل يوم - دوري في جمال الحريم تعب أعصابي .. والمخرجة قعدتلي ع


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بنتي اتعرض عليها ب




.. كل يوم-دينا فؤاد لخالد أبو بكر: أنا ست مصرية عندي بنت-ومش تح