الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل السادس/ 5

دلور ميقري

2020 / 9 / 17
الادب والفن


شيئاً فشيئاً، ومع تغلغل الشراب الناريّ في دهاليز داخله، شرعَ رجلُ ربيبة السيد صالح في التباهي بتنكيله بالقرويين وكما لو أنه مأثرة. إذاك، كان يجالسُ حميَهُ المُفترضَ مع بعض المدعوين إلى السهرة. لم يكن في الوسع إحياء السهرة بصحبة أقداح الراح، إلا بعدما غادرَ الدارَ، الضيفُ القادم من إمارة الأردن. توجه الرجلُ عند الأصيل مع أسرته إلى بيته الأول في الحارة، الذي ما زال يقيم فيه كل من والدته وشقيقه. قبيل ذهاب الضيوف، همست السيدة ريما في أذن صهرها: " لو شئتَ دعوةَ ابن عم امرأتك إلى وليمةٍ غداً، فلا تأكل همَّ اللحم؛ لأن العجل بقيَ منه الكثير "
" لا في الغد ولا في أيّ يوم! "، رد الصهرُ بنبرته المستهترة. ثم استدركَ تحت نظرات حماته، المشتعلة حنقاً: " أنا نفسي ضيفٌ على أخوتي، هنا في الحارة ". في وقتٍ آخر من النهار، لما قصّت ريما على زوجها ما جرى، فإنه علّقَ متأسفاً: " هذا إنسانٌ بريّ، فكيفَ سيعرف الأصول. لكننا قمنا بواجب الضيافة عن ابنة عمهم، فخرجوا من منزلنا راضين والشكر لله ". مع ذلك، ومراعاة لكونه زوج ربيبته، دُعيَ ديبو إلى السهرة من قبل السيد صالح. صحون المازة، ما لبثت أن أخذت تترى من مطبخ المنزل فيما الضيوف يقارعون أقداح العرَقَ على وقع الأنغام، المتصاعدة من جهاز الحاكي، والمشكّلة مقدمة الأغنية الكلثومية الأكثر جدّة. كمألوف عادته، اتجه المضيفُ برأسه إلى جهة جاره، جروس، ليداعبه بلسانه اللاذع: " أنتَ تدّعي أنّ الخمرَ حرامٌ، ومع ذلك تكاد أن تُفرغ صحونَ المازة! ". تضاحك الحضورُ، وكان بينهم عددٌ من أقارب الرجل. وهوَ ذا ديبو، يمسح على شاربيه بكثير من الرضا عن النفس، فينتهز الفرصة ليحيي بدَوره السهرةَ بإحدى طرف خدمته في سلاح الدرك.

***
استهلّ الدركيّ العتيد كلامه، بالقول: " في مكان خدمتي الأخير، سرعان ما أضحيتُ مشهوراً بين الأهالي. كوني أخرجَ في نوبات الليل ثملاً غالباً، فإنهم صاروا يتداولون الأقاويل عنّي بين الحقيقة والخيال. مثلاً، ادّعوا أنني جعلتُ حصانَ الخدمة مدمناً على العرَق، فيطرق بابي بقائمته ليلاً كي أسقيه حينما يَخْمَر! ".
أطلقَ ضحكة مقتضبة، ثم تابع القص: " حتى صادفَ يوماً وقوعُ حريقٍ بأحد كروم العنب، وكان الوقتُ نهاراً. توجهتُ مع عنصرين من المخفر إلى طرف القرية، أين وقع الحريقُ، وإذا بالمختار قد سبقني في الحضور. فسمعتُ آخر جملةٍ، تفوّه الرجلُ بها: " محالٌ أن يكون الحريقُ متعمّداً، لأنه حصل في الضحى لا في الليل ". فأوقفتُ كلامه على الفور، قائلاً أن ذلك لا يعنيه ونحنُ مَن يحق لنا إصدار هكذا افتراض بعد تحقيقٍ موسّع. ارتبك الرجلُ وأخذ يتنحنح، ثم خاطبَ العنصرين المرافقين: " لم تعرفوننا بعدُ بحضرة السرجنت، لكي نتشرف بدعوته على سفرتنا؟ ". حصل إذاً التعارفُ مع الرجل، وقلت له بلهجة جدية أنني ساكون مدعواً على العشاء في نفس اليوم ما لو طال التحقيق إلى العصر. ربما بالغتُ في التبسُّط، لكنني أردتُ أن ألقنَ المختارَ درساً كيلا يحشر نفسه في مسائل لا تخصه. عندما حل المساء، ذهبت مع ذينك العنصرين إلى بيت المختار وكنا بعدُ بملابس الخدمة. أدخلنا مضيفنا إلى قاعةٍ فسيحة، مؤثثة بشكل جيد على عادة أغنياء الريف. قدّم لنا أولاً القهوة المرّة، ثم عاد إلى النحنحات مخاطباً إياي: " ما رأيكم بعشاء خفيف؟ ". أكتفيتُ بهز رأسي موافقاً، فنهض مستأذناً ليأمر بتحضير المائدة. بعد فترة من الوقت، عاد وهوَ يحمل بين يديه قدرٌ كبير. لما رَفَعَ الغطاء، إذا بتل من البرغل المخلوط مع العدس يُطالع أبصارنا وقد نُثر عليه شرائح من البصل المحمّر. هتفتُ منزعجاً بالرجل: " ما هذا؟ ". فرد بالقول مع ابتسامة متآكلة: " المُجَدّرة، يا حضرة السرجنت. ألم توافقني على العشاء الخفيف؟ ". عند ذلك، نقرتُ على رأسه بعصا الخدمة، قائلاً: " المجدرة هيَ الخفيفة أم الدجاجة، التي تخفق بجناحيها وتطير من سطح إلى آخر؟ قم واذبح لنا عدة دجاجات، واسحب من هنا هذه الفظاعة! ".

***
اختتمَ حضرةُ السرجنت حكايته مقهقهاً بسرور، فشاركه حضورُ السهرة الضحكَ مع تعليقاتٍ طريفة. سلو، كان بين الحضور؛ وهوَ معروفٌ عنه أنه يستثقلُ ظلَّ ابن أخيه الكبير هذا. لقد جرّبَ العمّ حظه أيضاً في الجندية، مثل كثيرين من أبناء الحي، لكنه ترك الخدمة مع اشتعال الحرب خوفاً من إرساله إلى جبهات أوروبا. فعاد إلى مزاولة مهنته، التي اتقنها منذ الصغر وصار فيها معلّماً؛ حياكة النسيج. وقد امتلك نولاً يدوياً، عمل فيه عددٌ من شبّان الحارة كان منهم شقيقه الأصغر، جمّو. في خلال السهرة، جاء ذكرُ هذا الأخير على لسان السيّد صالح، وذلك على خلفيّة قراره الانتقال إلى الجزيرة.
" هل بقيَ شقيقك جمّو في خدمته، هناك في الحسكة؟ "، سأل المضيفُ قريبَهُ سلو. لما أومأ هذا برأسه إيجاباً، إذا بالحضور يُباغَتون بتأكيد المتسائل على رغبته السفر إلى تلك المنطقة مع عائلته بغيَة استثمار أرضٍ زراعية. عندئذٍ تطايرت في جو السهرة تعليقاتُ البعض، وكانت تجمعُ على جنون الفكرة، طالما أن السيّد صالح لا يملك خبرةً بشئون الزراعة. ولقد رد هوَ عليهم باقتضاب، عابساً بعض الشيء: " كلّ خبرةٍ في هذا العالم لها بداية ".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز