الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البيئَة واثُرها في شِعر السيّاب

خالد نعمة الخالدي
باحث و كاتب

(Khalid Neamah Al-khalidi)

2020 / 9 / 19
الادب والفن


اتخذ السيّاب من عناصر البيئة مادة اساسية ارتكزت عليها نصوصه الشعرية، واضحت البيئة بالنسبة للشاعر الاليف الذي يانس اليه، والانيس الذي يغذي خيال الذات الشاعرة، وصارت العلاقة بينه وبينها علاقة تكامل واندماج، فجعل من عناصرها مادة تعبير، وضمّن تلك العناصر ابعادًا رمزية موحية، غير ان هناك بعض الرموز التي حجزت لها مكانًا متميزًا في قصائده جعلت المتلقي يقف امامها متأملا محللاً باحثًا عن دلالاتها كرمز الماء، والبحر، والنهر، والنخيل.
ولان شعر السيّاب بحر عميق الاغوار، ولا تكتنفه دراسة موجزة، فسوف اقتصر على تلك الرموز التي ذكرت، محاولا اكتناه الدلالات والابعاد التي ارادها الشاعر.
وعندما اتناول رمز الماء في شعر السيّاب فمن الطبيعي ان اقف عند مفردات المطر، والبحر، والنهر، وموقع هذه المفردات ورمزيتها في نص السيّاب الشعري، والغاية التي كان يصبو اليها انطلاقًا من تلك الرموز.
وانغمس السيّاب في بيئته، واستخدم عناصرها في نصه الشعري مضيفًا ابعادًا ايحائية الى تلك الرموز ومركزًا فيها شحناته العاطفية والفكرية والشعورية، راسمًا صورةً لشخصيته الانسانية من جهة، وباثًّا الحيوية في نصه من جهة اخرى. فالرمز الشخصي "هو ذلك الرمز الذي يبتكره الشاعر ابتكارًا محضًا او يقتلعه من حائطه الاوّل، او من منبته الاساس ليفرغه جزئيًا او كليًا من شحنته الاولى، او ميراثه الاصلي من الدلالة، ثم يشحنه بشحنة شخصية، او مدلول ذاتي".
واذا كان السيَّاب قد اكثر من رمز الموت والبعث في ديوانه، الا ان رموز البيئة كان لها الحضور الكثيف، فقد استدعى تلك الرموز وبث فيها رؤاه وافكاره مثبتًا قدرة فائقة على تمثل ابعادها الدلالية والتخييلية والجمالية، فحولها الى مركز اشعاعات ايحائية اغنت القصيدة وعمقت المعنى، وجعلت المتلقي يندفع وراء التاويل والتحليل. من هنا نجد كيف حظيت لفظة (المطر) بتفسيرات وتاويلات عديدة لدى النقّاد، فبعضهم وجد فيها الثورة، والبعض الاخر اعتبرها رمزًا للانبعاث الخصب والنماء الذي هو رمز (لتموز) تارة، و (لعشتار) تارة اخرى.
اولا- رَمز الماء
الماء مصدر الحياة وعمادها، والاساس في مقومات العيش على كوكبنا الارضي لكل الكائنات الحية، وهل يمكن للحياة ان تستمر بلا وجود الماء؟ وقد ورد ذكر الماء في القران الكريم بعددٍ غير قليل من الايات، وبانواع متعدّدة، . اما الاية القرانية التي تلخص الحياة بوجود الماء، فهي الاية التي وردت في سورة الانبياء «وَجَعَلنا من الماءِ كل شيءٍ حي افلا يؤمنون» .
يُعتبر السيّاب من الشعراء الذين اكثروا من استخدام رمز الماء في شعرهم وربطه بالحياة والامل والثورة والانبعاث والخصب الذي يمحو الجدب. كان تعامل السيّاب مع الماء (المطر) تعاملا استثنائيًا كونه رمزًا سحريًا يدل على الحياة والامل والانبعاث والتمرّد والمستقبل الذي يصبو اليه.
وبالعودة الى رمز الماء في قصيدة (انشودة المطر) نجد ان الشاعر ربطه بالحزن حين قال:
اتعلمين ايَّ حُزنٍ يبعث المطرْ؟
وكيف تنشج المزاريب اذا انهمرْ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياعْ؟
بلا انتهاء –كالدَّم المراق- كالجياعْ،
كالحب، كالاطفال، كالموتى- هو المطرْ!
لقد وَضَعَنا الشاعر امام دلالتين مختلفتين، واتكأ على المستوى البياني المتمثل بالاستعارة والتشبيه. الدلالة الاولى دلالة الحزن التي انفتحت على بعدٍ دلالي اكثر عمقًا في الصورة التي تجسدت في نشيج المزاريب والتي فرضت ايحاءً بعيد الغور، عميق التاثير في ذات المتلقي حين استعار للمزاريب لازمة من لوازم الانسان وهي النشيج الذي يشير الى البكاء او التنهّد بانفاس سريعة واسندها الى المزاريب. عِلمًا ان للمزاريب ايقاعًا يجسد الخير والحياة لانه اداة تصريف للمطر. اما عند الشاعر فحوَّله الى اداة معاكسة يصدر عنها الأنين والبكاء. انه المناخ الحزين بفعل التحول والخروج الكلي عن النسق الموضوعي، فبات المزراب رمزًا للبكاء الناجم عن الحزن والاسى.
اما الدلالة الثانية فاستعان فيها بالتشبيه ليظهر بان الماء (المطر) كالحب، كالاطفال. الحبّ رمز للحياة والسعادة والامل، والاطفال رمز للتجدد والمستقبل الواعد. غير ان المقارنة تكمن في التشبيه الثالث (كالموت) . هنا يتوقف القارئ مليًا امام هذه الصورة ليسأل، ما الرابط بين الحب والاطفال، بين السعادة والمستقبل، برابطة الموت؟ ولماذا استحضر هذا التشبه؟ اعتقد بان صورة الحزن هي الماثلة في خلده، وان الفرح ومضات مؤقته تزول سريعًا وتتلاشى.
وفي العراق جوعْ
وينثر الغلال فيه موسم الحصادْ
لتشبع الغربان والجَرادْ
وتطحن الشوّان والحجرْ
رحىً تدور في الحقول... حولها بشرْ
مطرْ...
مطرْ...مطرْ ...
هذا المقطع يرسم الهمّ الذي يحمله الشاعر في داخله تجاه وطنه العراق وشعبه الذي يكدح وتنتهب ثرواته، وتسرق خيراته وهو يقف بلا حراك ايجابي يؤدّي الى الثورة والتغيير. الغلال وفيرة والطبيعة تجود على ابنائها الكادحين فياتي الاستبداد والاقطاع والنفوذ ليسيطر على ذلك كله ويبقى الفلاح جائعًا لان (الجراد) يقضي على الاخضر واليابس، ذلك الجراد الذي يجسد الطبقة المستاثرة بالسلطة والتي تفرض الاستبداد على المواطن وتنهب خيراته، لذلك ياتي تكرار المطر لحث الشعب على انتزاع حريّته وحفظ حقوقه والنضال من اجل حياة خالية من الجور والاستبداد مفعمة بالحرية.
وكما تضمن المطر رمز الثورة كذلك ضمّنه دلالة (الامل) بغدٍ جديدٍ مشرق وتمناه جسرًا للعبور من الجمود الى الحركة ومن الموت الى الحياة.
في كل قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ او صفراء من اجنَّة الزَّهَر.ْ
وكل دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكل قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
او حَلمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
لقد اختصر هذا المقطع واقع العراق، وعبّر عن رؤية الشاعر. انطلاقًا من مجموعة من الدلالات تآزرت مع بعضها البعض لترفد (لفظة) مطر في نهاية المطاف بشحنة معبّرة، وتكوّن بنية دلالية كبرى ببعدها الرمزي. إن أجنّة الزهر، ودمعة الجياع والعراة، ودم العبيد، دلالات تختصر الواقع وترسم بايحائيتها صورة حزينة وموجعة لواقع الشعب والوطن، وتعبّر عن تاريخ من المرارة والعذاب، ذلك العذاب الذي ينتظر الاجيال القادمة كي تقوم بالتغيير، ونجد في فم الوليد وعالم الغد الفتي واهب الحياة دلالة اكيدة على الامل المشرق الذي يرفع المعاناة عن كاهل الانسان المعذب في وطن السيّاب.
ان الماء او المطر، وكل ما يتصل به من عناصر تشير الى وجوده اثناء القصيدة، الرمز الذي تكرر غالبًا في بعض قصائد السيّاب، اذ قلما لا نجد الماء وما يتصل به من عناصر في شعره. ثم ان هذا الرمز كان يحمل دلالات متغيرة يحمّلها الشاعر رؤيته وكانه وجد في (الماء) وما يتصل به من عناصر المتنفس الذي يتنسم من خلاله عبق التحرّر الذي كان يعتبره ارتكازًا بنيويًا لاي شعب من الشعوب، فرأيناه يُحمّل ذلك الرمز دلالات متحولة فالماء (المطر) هو الثورة، والانبعاث، والتضحية، والغضب، والخصب والنماء، وهو رمز لتموز تارة ولعشتار اخرى، ونجده يُجسد الحزن في بعض القصائد، وهو الامل بالغد الاتي في مواضيع اخرى ففي قصيدة "صياح البط البري" نجد المطر عنوان الحياة في الطبيعة يرمز الى الامل بالغد المشرق القادم الذي يروي الشطان اليابسة، وما تلك الشطان الا تلك النفوس المتعطشة لغيث الحرية ونميرها العذب، من تلك الطبيعة استمدّ السيّاب رموزه وحوّلها الى عناصر تتفاعل معها ذات الشاعر وتنعكس بالتالي على المتلقي العادي والقارئ الذي يحلل النص فيتفاعل معه، وهذا القارئ عند منظري التلقي لم يعد مجرد مستوعب للنص مستهلك لمعناه؛ وانما اصبح يتضمن كونه طاقة او قوة موجهة بانية منتجة مشكّلة للمعنى، حتى ان كثيرًا من اعمال هؤلاء لا يمكن فهمها على ان القارئ هو "المصدر النهائي للمعنى" وهو عند (ادونيس) القارئ قد تحول الى مبدع، الى "شاعر" اخر ينتج في شراكة عميقة مع الشاعر، نصًا حول العالم واشيائه عبر القراءة ولهذا فعنده انه "اذا كانت كتابة القصيدة قراءة للعالم، فان قراءة هذه القصيدة كتابة لهذا العالم" .
في العودة الى قصيدة "صياح البط البرّي" نتلمس في رمز المطر عنوانًا للامل والتفاؤل.
وعند الضحى وانسكاب السماء
على الطين والعشبة اليابسة،
يشقّ الينا غصون الهواء
صياحٌ، بكاء، غناء، نداء
يبشر شطاننا اليابسة
بانّ المَطَر
على مَهْمهِ الريح مدّ القلوع.
الى قوله:
صياحٌ كاجراس ماءٍ... كاجراس حقل من النرجس
يدندنُ والشمس تُصغي، يقول
بان المطر
سيهطل قبل انطواء الجناح
وقبل انتهاء السفر .
هكذا بدا المطر في هذه القصيدة عنوانًا للتفاؤل بالغد القادم، حيث سيحمل بشارة التغيير. ان الماء (المطر) طغى بشكل كبير على ديوان السيّاب، وقدّم من خلاله افكاره ورؤاه، ولا شك بان من يريد التعمق اكثر بهذا الرمز الطبيعي سيكتشف المزيد من الابعاد ولكننا نقتصر على ما اوردناه من شواهد لان دراستنا القصيرة لن تكتنف هذا الرمز بكامل ابعاده، بل يحتاج الى دراسة معمقة؛ انما اتخذناه كشاهد على مجموعة من رموز البيئة التي سنتابع الحديث عنها في السياق.
ثانيا- رَمز البَحر
ان للشاعرالسيَّاب علاقة خاصة بالبحر فهو النافذة على الوطن، وعلى شواطئه ترسو سفن الامل ومنها تنطلق نحو العالم الفسيح لكن علاقة السيّاب بالبحر كانت تشير الى الخوف والقلق وكأن المغادِرَ عبره لن يعود، وستحمله الامواج الى فضاءات كئيبة ومجهولة الافاق. ان المتمعن في قصيدتي الشاعر "رحل النهار" و"غريب على الخليج" يلمس البعد السوداوي ومناخ الاحباط النفسي والحضور القوي للصور القاتمة التي جسدت واقع الشاعر. ففي قصيدة "رحل النهار" حيث يوحِّد السيّاب بين رمزي "السندباد البحري العربي" و"عوليس" الاغريقي، ثم يتوحد بهما. ففي هذه القصيدة صَوّر انتظار الحبيبة له تشبه انتظار "بنيلوب" لـ"عوليس" في الاوديسة. هو انتظار لا امل منه، ولا فائدة تُرجى لان الحكم القاطع الذي اصدره بان الحبيب لن يعود.
رحل النهار
ها انه انطفات ذبالتهُ على افقٍ توهّج دون نار
وجلستِ تنتظرين عودة سندبادَ من السفار
والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هُوَ لنْ يعود،
اوّ ما علمتِ بانّه اسرَتْه آلهةُ البحار.

انه الانتظار المؤلم لا امل يرجى منه، ولكنها تنتظر بالرغم من ذلك عَلَّ تلك الامواج تحمل اليها الخبر السار، غير ان الشاعر يحكم بعدم العودة.
امّا البحر فقد بات رمزًا للانسان الذي يصرخ ويشير الى نبأ غير سار، هو لن يعود. ان فعل الصراخ الذي اسنده للبحر انطلاقًا من عناصر طبيعية تحمل في طياتها الحركية المخيفة المتمثلة بالعواصف والرعود .
اذًا، فالبحر لم يعد فقط رمزًا للغربة والرحيل، بل هو رمزٌ من رموز الخوف والقلق وعدم الاستقرار. عندما درسنا رمز "المطر" في شعره، وجدناه دلالة الانبعاث والتجدد والامل بالمستقبل احدى دلالات ذلك الرمز، اما مع قصيدته "رحل النهار" فلم نلمس ذلك ابدًا، ثم ان تكرار لازمة الرحيل تشير الى الافول وكاننا امام اخطار باقتراب النهاية مع ذلك الرحيل، وبداية القصيدة كنهايتها فعندما اخبرنا بالرحيل لم يقل بأن شمس النهار غابت، لان غياب الشمس سيتبعه شروق، انما عبر عن ذلك بقوله "انطفات ذبالته" وكانه فتيلة السراج التي احترقت وذوت وتلاشت وهي في طور الزوال، ثم يربط ذلك بصراخ البحر وعويله وكاننا امام مشهد جنائزي حزين والبحر يحمل السفين الى النهاية.
اما قصيدة السيّاب "غريب على الخليج" كانت من القصائد التي عبّر فيها عن احساسه بالقلق والرهبة ومرارة الغربة، فاستخدمه استخدامًا رمزيًا معبرًا عن وجدانه وقلقه، فاضحى بذلك رمز الخوف والغربة. "وعندما نقول ان الشاعر قد استخدم كلمة «البحر» مثلا استخدامًا رمزيًا (او اي كلمة اخرى صار لها في سياق الشعر قوة الرمز) فلا معنى لقولنا عندئذٍ ان البحر هنا يرمز الى الخوف او الرهبة مثلا، ما لم نتدبر هذا المعنى في السياق الشعري نفسه. فالبحر ليس رمزًا ابديًا ومطلقًا للخوف او الرهبة، ولكنه يكون كذلك عندما يشحن الشاعر صورة البحر بمشاعر خاصة تستثير في نفسي مشاعر الخوف او الرهبة" .
ان البعد عن العراق، والخوف والترقب وانتظار المجهول، ودلالات تضمنها رمز البحر في هذه القصيدة "غريب على الخليج.
وعلى الرِّمال، على الخليجِ
جلس الغريبُ، يسرِّح البَصر المحَّير في الخليجِ
ويهدّ اعمدة الضياء، بما يصعّد من نشيجِ
اعلى من العباب يهدر رغوُهُ ومن الضجيجِ
صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عِراقْ،
كالمدِّ يصعَدُ، كالسحابةِ، كالدموع الى العيون.
الرّيح تصرخ بي: عراق،
والموج يعوِل بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق!
البحرُ اوسع ما يكون وانت ابعدُ ما تَكونْ
والبحر دونَك ياعِراقْ.
ان البحر الذي يرمز الى الغربة وعذابها، يمثل ايضًا ذروة حنين الشاعر للعودة الى وطنه. اننا امام صورة الاغتراب النفسي التي جسدها الشاعر ونوازع الشوق للعودة الى الوطن. واذا كان البحر يصرخ صادحًا باسم العراق، فانه على الرغم من اتساعه فهو يحول دون عودة الشاعر الى وطنه، وذلك المنع ليس من باب الحيّز الجغرافي انما لجهة المنع السياسي والقمع والاضطهاد. لقد حملت دلالات المفردات ذلك الشحن النفسي العنيف الذي يحياه السيّاب وقدم لنا صورة الخليج ببعدها السلبي لانه يحول بينه وبين بلده الحبيب، وجاء النداء يا عراق ليجسد دلالة انسانية ترسم صورة لانسانٍ منفيٍّ من وطنه يطلق صرخته من المكان لتدوي في افاق الزمان وتضع المتلقي في صورة الوضع المأزوم الذي يحياه السيّاب فيتضامن معه انسانيًا وشعوريًا ووجدانيًا.
لقد اتكأ السيّاب على البيئة فاستمد من عناصرها مادة شعره، وضمن تلك العناصر رموزًا عبرت عن ذاته، وكان البحر كما راينا، واحدًا من تلك العناصر التي جسد فيها رمز الغربة والظلمة والرهبة والرحيل في كثير من قصائده كي يشير الى آلامه وغربته، وفي بعض الاحيان تعبيرًا عن نقمته وثورته النفسية اتجاه ما يحصل في بلده.
ثالثا - رَمز النَهر
عندما يذكر السيّاب رمز النهر في شعره، نجده يحّمله وجهين متعاكسين: الوجه الاول هو وجه الحياة والانبعاث والخصب. اما الوجه الثاني فهو وجه الحزن والموت ففي قصيدة " النهر والموت " يقول:
وانت يا بويب...
اودّ لو غرقت فيك القِطُ المحارْ
اشيدُ منه دار
يضيء فيها خضرةَ المياهِ والشجر
ما تنضح النجومُ والقمر
واغتدي فيك مع الجزر الى البحر .
هنا يضعنا الشاعر امام صورة الحياة المنبعثة من خضرة الشجر، وعودة المياه الى البحر يعني الى مصدرها الاول وبعدها يتكاثف النهر في الغيوم من جديد في دورة الحياة المستمرة.
وفي قصيدة "مرحى غيلان" يمثل النهر (بويب) ذلك الرمز الذي يمثل الحياة والخصوبة، ويعيد التجدد والالق للارض فتعود الى الحياة من جديد تدب في عروق الكائنات.
بابا … بابا ..."
انا في قرار بُوَيْبَ ارقدُ في فراشٍ من رمالهْ،
من طينه المعطورِ، والدمُ من عروقي في زلالهْ
ينثال كي يَهبَ الحياةَ لكل اعراقِ النخيل
انا بَعْل: اخطرُ في الجليل…
على المياهِ، انثُّ في الورقاتِ روحي والثمارِ
والماءُ يهمس بالخريرِ، يصل حولي بالمحارِ
وانا بوَيْبُ اذوبُ في فَرَحي وارقدُ في قراري.
كتب السيّاب هذه القصيدة بعد ولادة ابنه "غيلان" ذلك الطفل الذي راى فيه الخير الذي ينساب مع الماء في بويب، ليمنح الحياة لكل اعراق النخيل. ان مفردات الخصب والحياة تتوالى في هذا المقطع الشعري مبشرة بعراق مزدهر وخصب بفعل الولادة الجديدة التي تبشر بجيل ينقذ العراق من معاناته.
في العودة الى قصيدة "النهر والموت" نجد ان النهر يمثل الحياة كما يمثل الموت والحزن.
يا نهري الحزين كالمطر.
نجد كيف عاد الشاعر ليرمز الى النهر بالحزن مستحضرًا رمز المطر ليقيم مشابهة بينهما
وفي بيت اخر من القصيدة يسأل السيّاب ذلك النهر:

اغابة من الدموع انت ام نَهَر.
هنا اعادنا الى الحزن والجوّ القاتم، فالنهر تارة رمز للحياة والخصب والتجدد، وطورًا هو رمز للحزن وباب الموت الخفي.
فالموت عالمٌ غريب يفتن الصّغار،
وبابه الخفيُّ كان فيكَ، يا بويب... .
نحن ازاء بعدين دلاليين، الاول يجسد الحياة، والثاني يمثل النهاية والحزن والموت. ان هذه الثنائية الضدية تختصر وضع الانسان والكائنات في هذه الارض موت وحياة ونهاية وبداية، وهكذا دواليك. ان مثل هذه الصورة لازمت السيّاب في كثير من نصوصه الشعرية، وكثيرًا ما كان يخاطب العالم انطلاقًا من بعدين: البعد الاوّل هو بعد وجداني ناجم عن تجربته الشعرية التي ارتبطت بقضايا الوطن العربي عمومًا والعراق خصوصًا، والبعد الثاني نابع من ذات الشاعر الخاصة والحالة النفسية التي كانت تحكم نصه في كثير من الاحيان.
ان حضور رمز الماء في شعر السيّاب وكذلك البحر، والمطر، والنهر اسهم في ابراز رؤية الشاعر، وجسد انفعاله في كثير من الاحيان، واضحى وسيلة للايحاء بالمضمون العاطفي والفكري الكامن في ذلك الرمز الذي تتولد منه المعاني وتتفتح من خلاله الدلالات العميقة، فتصبح الاشياء غير الاشياء فتزدحم التاويلات المستمدة من ايحاءات تلك الرموز، وقد نجح السيّاب في التعبير من خلالها تعبيرًا شفافًا يومئ الى المقصود من طرفٍ خفيّ. والواضح ان السيّاب قد بلغ من خلال استعماله لرمز (الماء) الغاية التي كان ينشدها من ذلك الاستخدام، ذلك الماء الذي بات رمزًا حاضرًا في كثير من قصائده يعبّر من خلاله عن رؤية ويكشف عن دلالات تتفاوت غاياتها وكل ذلك مرتبط بطبيعة النص وسياقه وحضور الرمز فيه.
رابعا - رَمز النَخيل
ان النخلة شكلت حضورًا ملفتًا للنظر في شعر بدر شاكر السيّاب، ربما لانّ بلدته "جيكور" "عامرة باشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لاسراب الغربان ان تردد نعيبها فيها، وعند اطراف هذه القرى مسارح اخرى منكشفة تسمى البيادر تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف" . لذلك وجدنا ان الشاعر حين يعبّر عن جمال الطبيعة يعمد الى استعارة صورة النخيل التي لها وقع جميل في نفسه.

عيناكِ غابتا نَخيل ساعةَ السحر.
فالنخيل في هذه الصورة يشير الى الجمال والعطاء المنبعث من المقلتين كعطاء النخلة وفي قصيدة له عنوانها "تحية القرية" يشير الى روعة النخيل وتكامله مع الماء والطبيعة.
وعن الشّط والنخيل السكارى في الليالي القمراء والمظلمات
رنحتها الانسام لمّا سقتها العطرَ في اكؤس النّدى المترعات.
غير ان هذه الصورة الرومانسية للنخيل لا تلبث ان تختفي، وتظهر الصورة الرمزية بشكل اعمق، ويحمل الشاعر هذا الرمز الطبيعي دلالات متعدّدة تتضمن معنى الحنين والغربة والنقمة وغير ذلك من المعاني التي اوحى بها هذا الرمز بالتحديد. ان النخيل الذي كان الشاعر يانس به اصبح يخشاه في قصيدة "غريب على الخليج".
وهي النخيل اخاف منه اذا ادلهمَّ مع الغروب
فاكتظ بالاشباح تخطف كل طفل لا يؤوب
من الدروب.
هنا نجد ان النخيل اصبح موطنًا للاشباح، ولم يعد ذلك المكان الرومانسي الذي يعبّر عن فرح الشاعر. ان الرمز هنا يشير الى القلق والتوتر النفسي فاكتظاظ النخيل بالاشباح كناية عن عامل من عوامل عدم الاستقرار، وقد تكون الاشباح تلك زبانية الحكم وعَسسه لذلك استحضر الشاعر تلك المخلوقات الوهمية واسكنها في غابة النخيل. اذًا، لم يعد النخيل موطن الحب والجمال؛ بل اضحى موضع الخوف والاستبداد.
وفي قصيدته "انشودة المطر" جعل النخيل يشارك في انتفاضة العناصر ويشارك البرق والرعد في استعداده للثورة.
اكاد اسمع النخيل يشرب المطر .
اما اذا اراد السيّاب ان يرمز الى الحزن فكان يتكئ على رمز النخيل لاخراج دلالة ذلك الحزن ووقعه، وقد قدّم لنا صورة تبرز صدى الأنين في سعف النخيل.
غريق في عباب الموج تنحب عند الغاقة
تئنُّ الريح في سعَف النخيل، عليه.. ترثيه.
فالأنين علامة فارقة عاد صداها لينطلق من سعف النخيل بعدما ضجّت به الريح، فالرمز هنا يشير الى الالم والحزن. فالبعد الاستعاري "تئن الريح" ينتمي الى رؤية الشاعر في هذا النص الذي اطلق الأنين من اعماق غابة النخيل ليضعنا في حجم الحزن والمعاناة.
ان جمالية الصورة هنا نابعة من دلالة الرؤية، حيث تحولت الريح الى انسان يئن ويصرخ والأنين دلالة على الالم، ذلك الالم الذي جسده انين الريح وتردد صداه في غابة النخيل.
واذا كان النخيل يرمز الى الالم والمعاناة، فان السيّاب ابرز من خلال هذا الرمز معنى الحنين الى الوطن، فكان النخيل رمزًا لذلك الشوق والحنين والحُلم بالعودة الى موطن النفس ومرتع الطفولة والصبا.
يا ليل ضمّخكَ العراق
بعبير تربته وهدأة مائه بين النخيل
انّي احسك في الكويت وانت تُثقل بالاغاني والهديل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: تكريمي من الرئيس السيسي عن


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: نفسي ألعب دور فتاة




.. كل يوم - دوري في جمال الحريم تعب أعصابي .. والمخرجة قعدتلي ع


.. كل يوم - الفنانة دينا فؤاد لخالد أبو بكر: بنتي اتعرض عليها ب




.. كل يوم-دينا فؤاد لخالد أبو بكر: أنا ست مصرية عندي بنت-ومش تح