الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل السابع/ 2

دلور ميقري

2020 / 9 / 19
الادب والفن


المزرعة، أُشبَهَت في لاحق الأيام بخليّة نحل، شارك في أشغالها القرويون المحليون وكان على رأسهم الملّا عشير، الذي أثبتَ فعلاً مهارته بكل ما تقع يده عليه. أسرة المالك أيضاً، أسهمت في أعمال معيّنة ( باستثناء الصغيرين أوسمانو وتحيّة ). هكذا تحسّن مزاج رأس الأسرة بشكل خاص، هوَ مَنا فكّرَ أن يؤوب أدراجه إلى الشام حينَ ألقى النظرات الأولى على المكان. مع حلول الصيف، أينعت البذورُ المغروسة في أول الربيع، لتعطي الحبوبَ الشبيهة بحبّات الذهب فضلاً عن غلّة وفيرة من الخضار. وكان سيّد المزرعة قد أنشأ حديقةَ أزهار، خصص لها مكاناً وراء مسكنه تشرق عليه الشمس صباحاً وتغيب عنه بعد الظهر بقليل. مثلما هيَ شيمته في حديقة داره في الشام، لم يشأ السيّد صالح هنا أيضاً طلبَ معاونة أحد.
" حَسّي " زوجة الملّا، وكانت قد أضحت صديقة لريما، مطّت شفتيها وهيَ تتأمل الأزهار المنصاحة مع حلول الصيف: " أليسَ حراماً هدرُ المال في أشياء لا فائدة لها، وكان من الممكن أن تزرع الحديقة بالخضار؟ "، علّقت بالقول. تناهت كلماتها لسمع السيّد صالح وهوَ في مجلسه تحت ظلّةٍ مشكّلة من عدد من الأشجار، فعلّقَ ضاحكاً: " لا عليكِ، يا امرأة، سنأكل الأزهارَ أيضاً في حال تهددتنا مجاعة! ". شاركه رجلها في الضحك، مغمغماً: " إنها إنسانة ريفية، بسيطة ". لكنّ امرأته دللت على ذكائها، علاوة على همّتها الكبيرة في العمل. كانت تملك بعض الخبرة بالأعشاب، تعززت في خلال صُحبتها للسيّدة ريما. كذلك أبدت اهتماماً بأمور الصحة والنظافة إلى سرعة تعلّمها المأكولات الشامية، التي فاح مطبخ الدار بروائحها الزكية. القرويات من ناحيتهن، أبدينَ حرصاً على الاقتداء بزميلتهن، ما نجم عنه تورّد وجوه أطفالهن مع مرور الأيام وقلة إصابتهم بالأمراض.

***
حينَ حلّ الخريفُ، وجد الأولادُ فرصةً لاكمال تعليمهم الابتدائي في مدرسة مختلطة بالبلدة، يديرها قسٌ آشوريّ. إلا رودا، المناهزة الثانية عشرة من عُمرها، وكان والدها قد أوقف دراستها في عامٍ مضى. تحجج وقتئذٍ أنها أضحت في سن الزواج، وعليها تعلّم أشغال الخياطة والطبخ وسواهما مما تحتاجه مستقبلاً في بيت رجلها. لكن الحنقَ دفع بها لصمّ أذنيها عن نصائح الأب، فلم تشنّفهما إلا للأنغام المنبعثة من الحاكي ولمطربيها المفضّلين: لاحَ أنها ستكون مثل والدتها، التي امتلكت ذائقة فنية وكانت تجيدُ إلى ذلك العزفَ على العود. والدها كذلك كان سمّيعاً، بالأخص عندما يتعلق الأمر بمعبودته، كوكب الشرق. فما لبثَ أن أمّنَ خدمةَ المذياع في هذا الصقع النائي، وذلك بتغذيته من خلال البطاريات. فالكهرباء لم تمدد بعدُ إلى المزرعة، وكان على سيّدها أن يعود إليها مرة أخرى بعد نحو سبع سنين كي يرى الأضواء ساطعة في بيوتها عقبَ تحوّلها إلى ضيعةٍ حملت اسمه بالذات؛ " الصالحية "!
بيان، كانت في مستهل دراستها في البلدة ما تفتأ تستعيد بحسرةٍ أيامَ مدرسة " ست الشام "، وصديقاتها هناك اللواتي انتقلن مثلها إلى الصف الثالث. لكنها ما لبثت أن وثقت علاقتها بزميلةٍ في الفصل، تُدعى " جانيت "، تشاركها في المقعد. شأن بقية الطالبات، نظرت هذه الزميلة بعينٍ ضيّقة إلى الزميلة الجديدة، المتصفة بالجمال والغنى. الصفة الأخيرة، مردّها تنقلل بيان في كل مرةٍ بسيارة والدها. بيد أنّ بساطتها، قرّبتها بسرعة وسهولة من أولئك الزميلات. عدة مرات، أوصل السيّد صالح زميلة ابنته إلى بيتها حتى باتتا صديقتين حميمتين. عقبَ عودتها يوماً مع الوالد، سألته بيان: " من هم الآشوريون، أبتاه؟ ". معلومات السيّد صالح كانت مشوشة وغامضة عن هذا الشعب، فاكتفى بما يعرفه: " إنهم نصارى هذه المنطقة..! "، ردّ باقتضاب.

***
في مبتدأ الأمر، ظُنّ في الفصل أن بيان ابنةُ أحد ملّاكي المنطقة، وذلك لما سمعوها في الفرصة تتكلم مع شقيقتها الصغرى بالكردية. إلى أن وجّهت لها الآنسةُ المّدرّسة سؤالاً، فُهِمَ منه أنها من الشام. ثم تبيّنَ لبيان أنّ زميلةً أخرى، قادمة أيضاً من الحي الكرديّ في العاصمة، كانت تدرس في الصف السادس. لما تعرّفت على بيان في الفرصة، قدّمت نفسها بنبرة فخمة نوعاً: " أنا من آل جميل باشا ". شأن زميلتها، كانت الفتاة تستعمل أيضاً سيارة والدها في الذهاب والإياب. لكن فارق العُمر بينهما، وفي التالي مستوى الدراسة، حال دونَ أن ترتبطا بصداقة.
آل جميل باشا، كانوا يملكون أرضاً كبيرة في الدرباسبة. إنهم بالأساس قد استقروا هنا في الجزيرة، وذلك على أثر هروبهم من بطش أتاتورك. ثم ما عتمت سلطات الإنتداب الفرنسيّ أن رحلتهم مع غيرهم من اللاجئين إلى دمشق، استجابةً لضغوط من الجانب التركيّ. والد بيان، مثلما ذكرنا في مكان آخر، سبقَ وعلمَ بعودة هذه الأسرة إلى الجزيرة لاستثمار أرضٍ تخصّها. ثم سنحت الفرصة للتعرّف بكبيرها، أكرم بك، عن طريق طبيب ارتبط بصداقته السيّد صالح. " الدكتور نافذ " هذا، مرّ مع شقيقٍ يصغره بنفس درب الرحيل عن الوطن، فمكثا لدى نقلهما إلى الشام في ضيافة الوجيه علي زلفو آغا، الذي عمل موسي لديه فترةً من الزمن كوكيل أعمال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم زهايمر يعود لدور العرض بعد 14 سنة.. ما القصة؟


.. سكرين شوت | خلاف على استخدام الكمبيوتر في صناعة الموسيقى.. ت




.. سكرين شوت | نزاع الأغاني التراثية والـAI.. من المصنفات الفني


.. تعمير - هل يمكن تحويل المنزل العادي إلى منزل ذكي؟ .. المعمار




.. تعمير - المعماري محمد كامل: يجب انتشار ثقافة البيوت المستدام