الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجع الجنوب في صلب حلب بن غريبة

صلاح زنكنه

2020 / 9 / 20
الادب والفن


رواية (الصليب) والتي تحمل عنونة فرعية (حلب بن غريبة) التي كتبها القاص العراقي الفذ (فهد الأسدي) بين أعوام (1966 - 1971) ونشرها سنة (2008) واحدة من الروايات العراقية الرصينة المفعمة بالوجع والتي سلطت الضوء ساطعا على جور الإقطاع وظلمهم للفلاحين في الجنوب العراقي وأريافه وقراه المتناثرة في حقبة الخمسينيات من القرن العشرين, ليغور عميقا في هذه البيئة القاسية ذات الأكواخ الطينية مقابل القصر الشامخ للشيخ وزوجاته وخدمه وحاشيته, وليجسد حيوات ناسها وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية عبر عمل سردي باهر ولغة شفيفة دالة.
(يقف الأطفال في صف واحد, ويختارون أكبرهم حكما, ثم يبدأون سوية بالتبول في علب أمامهم, الفائز منهم هو من يتبول أكبر كمية من الدم) ص 9
تدور أحداث الرواية في قرية جنوبية صغيرة سماها الراوي (الحيرة) والتي يتحكم بها الاقطاعي الشرس الشيخ (مزاحم الجلبي) الذي يحلم أن يكون نائبا في مجلس الاعيان, وحين يوأد حلمه تثور ثائرته ويدعو الفلاحين الى التظاهر والعصيان والهجوم على مركز القضاء ليستشعر حكومة السراي بمدى سلطانه وجبروته وليخضعها لإرادته, لكن الفلاح (عواد أبو المحاكم) يرفض هذه الدعوة ويؤلب الفلاحين على عدم المشاركة كونهم ضحية فتنة لا ناقة لهم فيها ولا جمل في كل الأحوال, بيد أن ارادة الشيخ أمضى قوة وأكثر سطوة, فيهجم الفلاحون على مركز القضاء وينهبون كل ما يقع تحت أيديهم من ممتلكات (البنادق والأثاث والرحلات والسبورات) بعد أن حطموا الأبواب وزجاج النوافذ بالحجارة والعصي والبنادق, وحتى المدرسة والمستوصف لم يسلما من الحشود الذين باتوا يطلقون النيران في الهواء وهم يمزقون الأضابير والسجلات الرسمية, ليعلن الشيخ بيانه على أتباعه الفلاحين (اليوم أنا الحكومة والحكومة أنا) ص 60
تنطلق ذروة الحبكة الدرامية حين ينزل العبد الأسود (حلب بن غريبة) علم الحكومة, والفلاحون يصفقون له بحرارة ليقوم الآخرون بتمزيقه نتفا.
تتكون الرواية المروية بلغة الراوي العليم من (14) فصلا وكل فصل يحمل عنوانا, ففي الفصل السادس (مهاجع الذل) يدفع الفلاح عواد ثمن تمرده على الشيخ فيجلد جلدا شديدا, وفي الفصل الثامن (العريف نصر) الحكومة تسترد هيبتها وتهجم على القرية وتعتقل العشرات منهم والعريف نصر ذو الشوارب الغليظة ينتف شوارب الفلاحين (كونه يجد في شواربهم نوعا من التحدي لشاربيه) ويجلدهم بقسوة وشراسة ويذل كبار القوم (السراكيل) وأعوانهم (حتى وجد ضابط الشرطة أن سياسة العريف نصر رغم عجرفتها, قد أعادت هيبة القضاء, واستطاع أن يعيد استباب الأمن بمدة قياسية) ص 82
تكمن مهارة الروائي فهد الأسدي في تحويل الشخصية الهامشية المقصية الى شخصية محورية فاعلة من دون إرادتها أو قصدية مسبقة.
(توقفت سيارتان أمام كوخ غريبة واقتاد العريف نصر ابنها حلب مصفدا بالقيود واركبه سيارة البوكس) ص 87
ومن أكثر الفصول غرابة وتراجيدية هو الفصل العاشر (المحاكمة) حين تتوجه الاتهامات تلو الاتهامات للعبد البريء (حلب) من لدن محكمة الأحكام العرفية (وهو لا يدري الفعل الجرمي الذي ارتكبه وسط هذا الحشد المتنافر من طرابيش وسدارات وعقُل ورؤوس سافرة, عساكر وأفندية يتربصون به, ما الذي فعله لكل هؤلاء, وهو لا يعرفهم ولم يلتق بهم يوما ما) ص 100
يسأله القاضي :- متهم أم بريء ؟
فيجيب حلب :- عمي ما أدري. ص 103
يسأله ثانية :- لماذا مزقت العلم ؟
فيجيب :- وروح أبيك ما مزقت شيئا. ص 110
ويحكم عليه بالإعدام شنقا بتهمتين قتل شرطي وتمزيق علم الدولة, وفي الفصل الحادي عشر (ليل الأخير في حياة محكوم بالإعدام) يستذكر واقعة تمزيق العلم حين يأمره (سعود) ابن الشيخ مزاحم.
(سعود :- اصعد يا حلب على هذا العامود وناولني العلم.
حلب:- العلم ؟ ما هو العلم ؟
سعود :- هذا البيرق الصغير يا صخل) ص 113
ولا تخلو الرواية من الأجواء الرومانسية والاشتعالات الآيروسية الباذخة رغم تراجيدية الأحداث والوقائع والفصول, حين تدعو أرملة القرية حلبا لتصلح لها باب بيتها المخلوع.
(في تيه النشوة. أمسكت يديه وراحت تسحبهما على فخذيها, ومن ثم على بطنها, صعودا الى الأثداء التي ما فتئت ناهدة) ص 123
(أمسكته وجرته معها الى السرير, وهي ترمي جسدها بحضنه, والتصق الجسدان ساخنين مشحونين) ص 125
وفي محبسه الحزين ترن كلمات الأرملة العذبة في أذنه وهو الزنجي الأسود المنبوذ من مجتمع البيض.
(حلب, كم جميل أنت. قلبك أبيض, ليست فيه ذرة سواد. حلب ثق .. أنك أكثر بياضا منهم) ص 123
الرواية حافلة بالأحداث الصاخبة المتوالية والشخوص المأزومة المستلبة كشخصية (صبحة .. البنت البيضاء الشهية, طافت حولها رغبات حبيسة خجولة) ص17 التي تنذر أنوثتها لمن ينتقم من قاتل أبيها, وشخصية (عيد) المغني الزنجي الأسود الذي يغني ويرقص في الأعراس والهائم عشقا بـ (صبحة) التي (كشفت له عن فخذيها وبطنها لدقائق, وامتلأ وجهها بحمرتي الخجل والتحدي قائلة : اعلم يا عيد. بلغ كل شباب القرية كل الناس .. لا أمنح هذا الجسد يوما إلا لمن يقتص من قاتل أبي) ص 92
وهكذا ينتقم لها من شيخ مزاحم في فورة من غضب عارم حين يتعرض للمهانة والاذلال والضرب المبرح في الفصل الأخير (القصاص).
ثمة شخصيات ثانوية كجسار وغافل وجعاز والشيخة موضي الزوجة الأولى للشيخ مزاحم, فيما تبدو (غريبة) السوداء أم حلب الأسود الشخصية الاشكالوية الأكثر هيمنة وفاعلية في الأحداث المتلاطمة المتلاحمة, حيث خصص لها الروائي أربعة فصول منفردة بين ثنايا الفصول وهي الأكثر حضورا ووجعا وعمقا وبهاء من كل نساء الرواية لما لها من حس فجائعي مرهون بتفاصيل حياتها المنخورة فقدا وضياعا وعبودية.
رواية الصليب, حلب بن غريبة رواية عالمية بكل معنى الكلمة لا وفق المفهوم الاصطلاحي للعالمية بل لفرط محليتها ومأساويتها وبراعتها السردية التي تقودنا الى عمق الجنوب ووجعه المزمن وجرحه النازف في خضم مخاض الألم والأمل وتراكم المحن والويلات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الموسيقي طارق عبدالله ضيف مراسي - الخميس 18 نيسان/ أبريل 202


.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024




.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-


.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم




.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3