الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلسلة فنارات -ج4- الرائد والمقدم-الحلقة الأولى

حامد تركي هيكل

2020 / 9 / 21
الادب والفن


لشاب من ريف شمال البصرة، تعتبر بداية كل مراحل حياته بمثابة مغامرة واكتشاف، قد ترقى بأهميتها وإثارتها الى مستوى اكتشاف قارة جديدة!
لن أتحدث اليوم عن تجربة ذهابي الى مدرسة في المعقل لخوض امتحان البكالوريا للصف الثالث المتوسط، وقد كانت من أولى تجاربي الشخصية مع المدينة الحديثة الكبيرة. كانت تلك المدرسة أو القاعة الامتحانية على مقربة من ملعب الميناء. حين شاهدت لأول مرة ذلك البناء المهيب عن قرب، والذي عجزت مداركي حينها عن استيعاب كنه وجوده المتجاوز لكل الأبعاد المألوفة و المتخيلة. كان بناءً مهولاً عجيباً وصامتاً ونبيلا يجثم بوقار على تلك البقعة من الأرض. لست متأكدا ما الذي هالني على وجه الدقة. أهو البناء أم الفراغ، أم كلاهما. أغلب ظني أنه الفراغ الهائل الحجم، الفراغ الممتد. ذلك الوجود الخارج عن مقاييس البشر. وثمة أربعة أبراج فضيّة عملاقة تحمل مصابيح كبيرة الحجم تحرسه من جهاته الأربع. كانت تلك الأبراج أطول من أطول نخلة في بستاننا، وتحمل من المهابة والغموض ما لم تره عيني من قبل.
ولن أتحدث اليوم عن التحاقي بكلية الهندسة في باب المعظم. كان دليلي اليها أول يوم خزان ماء كروي الشكل فضيّ اللون لامع يستند على عمود اسطواني فيشكلان معا تكوينا غريبا وكأنه فطر أسطوري انبثق من الأرض، أو كائن خرافي من المستقبل انتصب هناك بانتظار حدث ما لينفلق عن أعاجيب لم يسمع بها أحد. أو كأنه مركبة فضائية حطّت هناك على غفلة من سكان بغداد المشغولين بالحركة والانتقال الدائب من منطقة الى أخرى. اعتبرته شاخصا يقود خطاي نحو ذلك المجمع الفسيح، كلية الهندسة في باب المعظم.
سأتحدث اليوم عن فنارين عاليين، شخصين رائعين كان لهما أثر في حياتي لن أنساه. سوف أستذكر اليوم تجربة أخرى من تجارب اكتشافاتي لعالم جديد وغريب وقاسي. تلك هي تجربة التحاقي بالخدمة العسكرية بعد تخرجي عام ١٩٨٢.

الالتحاق بخان بني سعد

كنت من الملتحقين الأوائل في معسكر خان بني سعد، فمثلي لا يتأخر عن تنفيذ القانون بكل حذافيره. وأهلي لايسمحون لي حتى بالتفكير بمثل هذا التأخر. فوالدي طيلة سنيّ خدمتي العسكرية التي قاربت السنوات الأربع كان لا يفرح باجازتي قدر القلق الذي ينتابه طيلة الايام السبعة التي أقضيها في البيت مجازا. فهو كل يوم يطلب ورقة الأجازة (ورقة عدم التعرض) ويتأكد من التاريخ ليطمئن أنني لم أتجاوز المدة. وهو في كل مرة يتفحص أختام الاجازة وأرقامها وجودة ورقها والبيانات المثبّتة فيها خوفا من أن تكون غير أصولية! وهو محقّ في ذلك كل الحق. فهي ورقة تقيني شر التعرض، وذلك واضح من اسمها ( عدم التعرض). وإن كانت غير فعالة أو مغشوشة فويلي من التعرضات التي سأواجهها. وأي تعرضات قاسية لا ترحم، وليس لها حدود. هذه الورقة الملونة الصغيرة اذن هي وقائي ودرعي وحصني الذي يقيبني الشرور والأهوال. ووالدي كان يريد أن يبقينا في مأمن من التعرضات التي لا تبقي ولا تذر. فمنذ سنوات طويلة، ووالدي يسعى للابتعاد قدر الامكان عن طريق الحكومة التي ما انفكت تتحول منذ أمد طويل الى عدائية وظالمة لا ترى ولا تسمع ، كما كان يقول.
التحقت بمركز التدريب المهني للهندسة العسكرية، وهو عالم جديد ومجهول آخر عليَّ اكتشافه، ومغامرة جديدة ليس لي بها معرفة سابقة. هذا العالم ليس عالمي مرةً أخرى، فهو، مثل غيره من العوالم التي اقتحمها سواء بمحض اختياري أو رغما عني، عالم ليس لي ولست منه. أشعر أنني غريب يتطفل على عوالم الآخرين. ومع احساس بالخوف والتوجس من المجهول مختلط برغبة في التحدي عادة ما أبدأ مشواري.
مصادر ذلك التوجس كثيرة لا مجال للحديث عنها الآن. ولكنني أستطيع القول أنها حصيلة الاحباطات المتراكمة. فمن امتنع عن الاندماج كليا مع سياسة الحكم السائد لسبب أو لآخر ظل يشعر بالاغتراب والقلق، وظل يشعر بأنه عرضة للتعرض في أي لحظة من لحظات حياته، سواء حمل ورقة عدم التعرض أم لم يحمل! هذا هو الوضع دائما.

الطريق الى المعسكر

ومن أجل الالتحاق بمعسكر خان بني سعد عليك ان تسافر من البصرة حيث مسكنك الى بغداد بالقطار الذي صار الحصول على تذكرته امراً بعيد المنال، وإن تعذر عليك ركوب القطار، وهو ما كان يحصل غالباً، عليك ان تركب باصاً من تلك الباصات التي تنقل الجنود والركاب بين البصرة وبغداد من نوع ريم حمراء إن حالفك الحظ، أو حتى بيضاء غير مريحة المقاعد. وان تعذر ذلك، فليس أمامك إلا باص فولفو (دگ النجف). وعليك أن تجد لك فندقاً شعبياً رخيصا يكون قريباً من ساحات النقل العام كساحة باب المعظم، لتتمكن من الوصول اليها مشيا قبل ان تبزغ شمس الفجر. ومن هناك عليك أن تنتقل الى المشتل حيث يقع كراج بعقوبة، ومن هناك عليك أن تركب سيارات خان بني سعد لتنزل مقابل باب النظام لمعسكر خان بني سعد.
عندما تجتاز البوابة المهيبة المليئة بحرس شداد غلاظ لا تعرف ما هي القوانين التي يطبقون، والذين كنت تخشاهم، فهم يمثلون الدولة بكل تشكيلاتها العسكرية الغامضة بالنسبة لك. عليك بعد اجتيازك لباب النظام أن تسير بضع كيلومترات على حافة طريق ترابي كي تصل لباب نظام مركز التدريب المهني للهندسة العسكرية.
الجيش عالم جديد عليك، فلم يلتحق من عائلتك أحد قبلك في الجيش لا ضابطا ولا جنديا. ولم يكن لديك متسع من الوقت لتجمع معلومات عنه.
بموجب خطة أو ربما تقاليد، لست متأكدا، يساق خريجو كلية الهندسة من أقسام الهندسة المدنية والمعمارية والمساحة الى هذا المركز. ليتدربوا على أمرين، إما قيادة الجرّافات والحفّارات أو التدريب على زرع الألغام ونزعها. وكلا العملين ستكون الأرض الحرام أو السواتر الأمامية ميدانهما!
قيل لنا إننا سنكون محظوظين، ذلك لأننا سنغلط غلطةً واحدة فقط لا غير. غلطة جسيمة لا نحاكم عليها، ولا نحاسب بسببها، ولا نلوم أنفسنا عليها. غلطة يتيمة ونكون في عداد الشهداء. فمهنة زرع الألغام ونزعها لا تقبل خطأين.
للمركز مقر إداري يقع شرقا، وقاعات لمبيت الجنود حسنة البناء والتنظيم والتأثيث الى الجنوب مع مجموعة مرافق صحية وحمامات عمومية. والى الغرب يقع المطبخ حيث توزع القصعة صباحا وظهرا. والى الشمال تقع بعد صف أشجار الأثل العالية المعمّرة ساحة العرضات الواسعة والتي يحدّها سياح المركز.وفي القلب من كل ذلك قاعات الدراسة.

الحياة في المركز

بعد أن تنهض من نومك في القاعة الطويلة التي تضم ربما 30 جنديا، وترتّب سريرك وتغتسل وتلبس بدلة العرضات خاصتك، تذهب الى ساحة العرضات حيث التعداد وتقديم الموجود للآمر شخصيا في مراسم مهيبة أقرب الى طقوس كهنوتية منها لعمل يخص البشر العاديين. نقف بكراديس بصمت وكأن على رؤوسنا الطير، يستدير رئيس عرفاء المركز ليقدم للآمر (الموجود)، وهي ورقة، أو قصاصة ورق. أو يقرأها أمامه. والآمر يقف منتصبا صامتا طويلا رشيقا مهيبا هناك، والجميع يقف بحضرته بخشوع وصمت. كما لو كان قطباً تدور حوله وبأمره وبرضاه هذه الرحى العظيمة.
له وحده وليس للآمر كانت عيوننا في تلك اللحظات تغرورق بالدموع، وقلوبنا تُغمر بالخشوع، وجلودنا تكتنفها قشعريرة. كلا ليس للآمر، بل له وحده الذي تنبض من أجله قلوبنا ونحن نراه عاليا خفاقا في تلك اللحظات، تشخص اليه أبصارنا، وتهفو اليه أفئدتنا. أنه علم العراق. وطننا، الذي نشأنا على حبه، والذي يشعرنا بالوجود وجودُه، وبالخير سلامتُه. رغم أننا لم نشعر بالأمان يوما فيه! ليس بسببه، بل بسبب الذين حولوا حياتنا الى عذاب دائم. لست أدري كيف تمتزج مشاعرنا في تلك اللحظات بتعدد وتناقض غريبين. أنذرف الدموع خشوعا للعلم حبيبنا؟ أم لمستقبلنا الشخصي الذي تبدى من بين أيدينا، وغاب عنا؟ أم للشباب الذين يموتون؟ أم لمستقبل بلادنا المجهول؟ يتبع ذلك حصة تدريب ثم ننصرف لتناول الفطور، وهو حساء العدس وبيض مسلوق وشاي وصمون جيش.
نعاود بعدها نحن المستجدون التمرينَ في ساحة العرضات حتى موعد الغداء. حيث تقدم وجبة الغداء الدسمة وهي رز ومرق عادة ما يكون فاصوليا ونصف دجاجة ، أو نصف كيلو من اللحم مع صمونة. وكل تلك المكونات مسكوبة في قصعة ابعادها 30* 40 سم تكفي لأربعة جنود.
أما الآخرون فيذهبون بعد التعداد والرياضة الصباحية التي تستمر حتى العاشرة صباحا، وبعد تناول الفطور الى أعمالهم المختلفة. فمنهم معلمون يدرّسون شتى أنواع المهن من سباكة وخراطة وحدادة ونجارة وتصليح وادامة السيارات والمركبات المتخصصة الاخرى. ومنهم طلبة يدرسون وهم الجنود الذين انهوا التدريب الاساسي ولما يتم توزيعهم بعد على فيالق الجيش وفرقه.
ولما كان التحاقنا في شهر آب، فقد كان الجو حاراً وأثناء الليل يهجم علينا البعوض من الحقول والمزارع القريبة فيحرمنا النوم، لولا أنهم نصحونا بشراء (الكِك) وهو علبة زرقاء تحتوي على سائل رائحته نفّاذة، تدهن به جلدك فلا يقترب منك البعوض! وله مضار مستقبلية، كما قالوا، إن كنت ممن يفكر في أن يكون له أبناء! وقد جرّبتُه، ولكنه لم يمنع البعوض الشرس من مهاجمتي ليلة بعد أخرى.
كنا نحن المستجدون فصيلين لاغير، فصيل المهندسين، وفصيل المواليد، وهم ممن بلغ سن الثامنة عشرة ولم يكونوا طلبة بل هم أميون في الغالب أو تركوا الدراسة مبكرا. وقد بان الفرق الشاسع بيننا في وقت مبكر. فتشجّع الملازم الأول، فراح يتفنّن في تدريبنا على الحركات الفنية في المسير، كتلك التي تتحول فيها تشكيلتنا من مستطيل الى معين، من النسق الى الرتل، ثم ينقسم الرتل ويتداخل ويدور حول نفسه ثم ينشطر بزوايا متناظرة يمينا ويسارا، ثم يعود ليظهر بشكله الأول المستطيل. صرنا فرجة للضباط، اذ كنا نلاحظهم يصطفون تحت ظلال الأثل المعمّر ليتفرجوا علينا ونحن نرقص رقصة الباليه تلك.
أما فصيل المواليد فقد تعثروا بال(يس، يم)، ولم يضبطوها، وفقد الملازم المكلف بتدريبهم أعصابه، وجرّب معهم شتى أنواع العقوبات التي لم نعرفها نحن والحمد لله، من الزحف الى القرفصاء الى الإلقاء بالمستنقع الى الركض الى السياج والعودة دون توقف. ولم يجدِ كل ذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05