الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجريد الإنسان الأمريكي من آدميته

جوزيف بشارة

2006 / 7 / 6
حقوق الانسان


تثير عقوبة الإعدام سخط منظمات حقوق الإنسان حول العالم، إذ أصبحت العقوبة تتعارض بشدة مع مباديء احترام الإنسان وكرامته ومشاعره، تلك المباديء التي عرفت طريقها إلى ضمير المجتمع الدولي منذ منتصف القرن التاسع عشر وترسخت في وجدانه في العقود التي تلت الحربين العالميتين. يشهد تاريخ عقوبة الإعدام على وحشية وقسوة الإنسان عبر العصور، حيث كان تنفيذ العقوبة ولا يزال يجرد الإنسان (أقصد هنا الجنس الإنساني وليس فقط الصادرة بحقهم أحكام إعدام) من أغلى ما يملك وهو آدميته حين كان التنفيذ ولا يزال يتم عبر وسائل بشعة تصل إلى التمثيل بالمنفذة بهم عمليات الإعدام في الميادين العامة. وفي ظل الاتجاه الدولي نحو الاهتمام بحقوق الإنسان قامت عشرات الدول بإلغاء عقوبة الإعدام على أراضيها، كما امتنعت عشرات أخرى عن تنفيذ العقوبة. ولكن وعلى الرغم من كل الضغوط التي تمارسها المنظمات الحقوقية فقد تمسكت دول كثيرة بتنفيذ العقوبة. الولايات المتحدة الأمريكية كانت على رأس تلك الدول، حيث تم تنفيذ حكم الإعدام بحق 1026 حالة منذ في الثلاثين عاماً الماضية. لا شك في أن قبول معظم الولايات الامريكية بتنفيذ أحكام الإعدام يعكس ازدواجية في المعايير التي تتعامل بها واشنطن مع مبادىء حقوق الإنسان، إذ لا يمكن أن تحمل دولة راية حقوق الإنسان على المستوى الدولي في الوقت الذي تقوم فيه سلطاتها بانتهاك مبدأ مهم من هذه الحقوق وهو الإعدام على المستوى الداخلي.

رغم المحاولات التي بذلتها الولايات المتحدة لاستحداث وسائل إعدام تقلل من انتهاك آدمية الأشخاص المنفذة بحقهم أحكام الإعدام ومن أهمها الإعدام بالكرسي الكهربائي أو بالحقن الكيماوية، إلا أن الولايات المتحدة تعرضت على الدوام لانتقادات عنيفة من قبل منظمات حقوق الإنسان المعنية لعدم الغائها عقوبة الإعدام كغيرها من الدول الاوروبية واللاتينية والأسيوية. وقد انقسم المجتمع الأمريكي ذاته حول الإبقاء على أو إلغاء عقوبة الإعدام بعدما نجحت المنظمات الحقوقية في التركيز على تعارض عقوبة الإعدام مع مباديء حقوق الإنسان. وفي إطار السجال الدائر بشأن قسوة عقوبة الإعدام، فقد حققت المنظمات الانسانية نجاحاً كبيراً الشهر الماضي حين فتحت المحكمة العليا الأمريكية الباب أمام الاعتراض الدستوري على عمليات الإعدام التي تتم عن طريق الحقن القاتلة التي تستخدم في معظم الولايات الامريكية والتي تم استخدامها بحق 858 محكوماً عليه بالإعدام منذ عام 1976. فقد سمحت المحكمة في قرار صدر بإجماع محلفيها لهؤلاء الصادرة بحقهم أحكام بالإعدام بادعاء أن الكيماويات المستخدمة مؤلمة وقاسية بما يتعارض مع التعديل الثامن من الدستور الأمريكي الذي ينص على وجوب عدم استخدام عقوبات قاسية أو غير معتادة. يتوقع المدافعون عن حقوق الإنسان أن يشكل حكم المحكمة العليا الأمريكية الأساس الذي تنطلق منه معركة قانونية طويلة حول ضرورة التوقف عن استخدام الحقن الكيماوية في عمليات الإعدام في الولايات المتحدة.

جاء حكم المحكمة ثمرة لسلسلة من الجهود ونتيجة مباشرة لسيل من الانتقادات العنيفة التي تعرضت لها الولايات المتحدة بسبب استمرارها في تطبيق أحكام الإعدام الوحشية التي تخالف المبادىء الإنسانية والأعراف الدولية التي تضع حقوق الإنسان في الصدارة. كان من أهم هذه الانتقادات ما جاء في التقرير الذي صدر في أبريل الماضي عن منظمة "هيومان رايتس ووتش" وانتقد الولايات المتحدة بسبب عدم كفاءة أسلوب الإعدام بالحقن القاتلة. ورغم أن الحقن عرف بأنه أكثر طرق الإعدام أدمية ورحمة، إلا ان التقرير أشار إلى أن الإعدام بهذه الوسيلة غالباً ما يتسبب في آلام مبرحة للسجناء المنفذه بحقهم أحكام إعدام بالحقن. اتهمت المنظمة المعروفة بمعارضتها لأحكام الإعدام مسئولي السجون الذين ينفذون أحكام الإعدام بالحقن القاتلة بعدم الكفاءة، واتباع أساليب علمية ولى عليها الزمن في الحقن، وعدم الحرص على مشاعر المعدومين. أعرب التقرير عن قلقه البالغ من الألم الشديد الذي قد يتعرض له المعدمون جراء الإهمال والإستخدام الخاطئ للحقن. يذكر أن الإعدام بالحقن يستخدم في 37 من أصل 38 ولاية تطبق الإعدام في الولايات المتحدة، حيث استخدمت الحقن القاتلة في جميع عمليات الإعدام التي تمت عام 2005.

وكشف التقرير الذي يقع في 65 صفحة بعنوان "طالما أنهم يموتون: الحقن القاتلة في الولايات المتحدة" عن تاريخ طويل من الإهمال في عمليات الإعدام بالحقن موضحاً أنه في الوقت الذي يستلقي السجين مقيداً على نقالةٍ ذات عجلات، يقوم منفذو الإعدام بحقنه بثلاث حقن وريدية وهم مستترون خلف جدار إذ يتم أولاً حقن السجين بجرعةٍ ضخمة من مادة صوديوم ثيوبينتال المخدرة، ثم يحقن بمادة بانكورونيوم برومايد التي تشل حركة العضلات الإرادية لكنها تترك السجين واعياً تماماً وقادراً على الإحساس بالألم بشكل كامل، وذلك قبل أن يتم حقنه بكلورايد البوتاسيوم التي سرعان ما تسبب له نوبة قلبية. غير أن التقرير وصف العقار بأنه مؤلم جداً لدرجة أن الإرشادات الخاصة بالأطباء البيطريين تحظر استخدامه ما لم يتأكد البيطري أولاً من أن الحيوان الذي يحقن به قد فقد الوعي تماماً.

ونقل موقع المنظمة على الإنترنت عن جيمي فيلنر، المشارِكة في وضع التقرير، اتهامها للولايات المتحدة باتخاذ مزيد من الحيطة عند قتل الكلاب أكثر من اتخاذها عند قتل البشر. وقالت فيلنر:"إن مسؤولي السجون أكثر حرصاً على مشاعر منفذي الإعدام وشهوده من حرصهم على حماية السجين المحكوم من الألم. فهم أكثر اهتماماً بالمظاهر من الحقيقة." ودعا التقرير السلطات الأمريكية للإلتزام بالمعايير الدولية المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان، والمعاهدة الدولية للحقوق المدنية والسياسية، والمعاهدة الدولية ضد التعذيب، الذين ينصون على عدم تعذيب المساجين، حيث تفرض قوانين حقوق الإنسان استخدام وسائل تقلل من درجات الألم والمعاناة للمساجين حال تنفيذ أحكام الإعدام. واقترح التقرير مراجعة علمية وطبية للمواد الكيماوية المستخدمة في الحقن، والتوقف عن استخدام المواد التي تتسبب في آلام ومعاناة ، واستخدام وسائل تخدير كاملة وفاعلة تحت إشراف طبي، مع السماح للعامة ولجان حقوق الإنسان بالإطلاع على تقارير الإعدام، وأخيراً مراجعة دورية لوسائل الإعدام بالحقن لضمان استخدام أحدث المواد الكيماوية التي تخفف الألم عن أولئك المنفذة بحقهم أحكام الإعدام.

لا شك في أن حكم المحكمة العليا الأمريكية سيشكل عامل ضغط جديد على السلطات الأمريكية للتوقف نهائياً عن استخدام الحقن الكيماوية في عمليات الإعدام، إذ يأمل الحقوقيون في أن تفضي النقاشات الدائرة بشأن قسوة الإعدام بالحقن إلى تعديل الدستور الأمريكي بما يسمح بإلغاء عقوبة الإعدام في الولايات المتحدة. ولا شك في أن الحملات التي تشنها منطمات حقوق الإنسان ومنها منظمة الهيومان رايتس وواتش قد نجحت في جذب الانتباه نحو قسوة عقوبة الإعدام وعدم تماشيها مع المباديء الإنسانية التي تقول الولايات المتحدة أنها تحمل شعلتها عالم اليوم. من المؤكد أن الإعدام يطعن الإنسانية في كرامتها على الرغم من المحاولات المبذولة للاعدام بدون آلام، ومن المؤكد أن إبقاء معظم الولايات الأمريكية على عقوبة الإعدام يتعارض كلياً مع مباديء حقوق الإنسان، ويفرغ دفاعها عن هذه المباديء من مضمونه. لا شك في أن الولايات المتحدة مطالبة بالتوقف تماماً عن إصدار وتنفيذ أحكام الإعدام بكافة صوره وأشكاله كما فعلت أوروبا، وكما تفعل دول أخرى ولعل أخرها الفلبين، حتى تكون قدوة يحتذى بها في العالم المتخلف، الذي تنتمي إليه بلداننا العربية والإسلامية، والذي يطبق أفظع طرق الإعدام. وإذا كنا ننتقد الولايات المتحدة لتطبيقها الإعدام، فإننا ندين بشدة بلداننا وشعوبنا التي لا تزال تستخدم الإعدام اللاإنساني وبخاصة تلك التي تنكر تماماً على الإنسان كرامته وآدميته عبر إتباع وسائل بشعة في تنفيذ الإعدام كالرجم والنحر والشنق والسحل. أنه لمن العار على الحكومات والشعوب ان تقبل بتنفيذ أحكام الإعدام في القرن الحادي والعشرين. فهل من يسمع؟ وهل من مجيب؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات البحث والإغاثة ما زالت مستمرة في منطقة وقوع الحادثة ل


.. وزير الخارجية الأردني: نطالب بتحقيق دولي في جرائم الحرب في غ




.. نتنياهو: شروط غانتس تعني هزيمة إسرائيل والتخلي عن الأسرى


.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - الأونروا: 160 موقعًا أمميًا دمرته




.. الصفدي: الأونروا ما زالت بحاجة إلى دعم في ضوء حجم الكارثة في