الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الثامن/ 2

دلور ميقري

2020 / 9 / 24
الادب والفن


برغم أن بيت معلّمه في الحسكة يكاد أن يكون مسكنه، فضلاً عن تمتعه بصداقات عديدة في المعسكر وخارجه على حد سواء، شعرَ جمّو بالوحدة على أثر ترك أسرة السيّد صالح للجزيرة. منذئذٍ وحتى عودته بدَوره إلى الشام، عاشَ مع ذكريات مسقط رأسه. لم يكن له ماضٍ ماجنٌ، شأنَ شقيقيه الكبيرين وكذلك العديد من أقاربه الشبان. كأنما كان معجوناً من طينة التنسّك، بجدّيته المفرطة وسلبيته إزاء اللهو والقصف والشراب. لقد أُشْبِه من هذه الناحية بوالده، الحاج حسن، الذي كان ذا تفكيرٍ ضيّق ومتزّمتاً إلى حد كبير.
لكن جمّو بقيَ مخلصاً لأفكاره الحرة، المستمدة من انفتاحه على الحركة السياسية الأكثر تقدمية في زمنه؛ وهيَ التي أرتبطت في الحارة بصعود نجم أحد أبناء آل قوطرش في سماء العاصمة. خالد أفندي هذا، رجعَ قبل نحو سبع سنين من بلاد البلاشفة، أينَ درسَ هناك الإقتصاد السياسيّ، ليتبوأ رأس هرم الحركة الشيوعية في سورية ولبنان. في حقيقة الحال، أنه لم يكن وحده في الحي مَن حقق هكذا نجاح في الصعود الحزبيّ. أحد وجهاء آل بوظو، علي بك، سيؤسس حزباً ليبرالياً في الآونة نفسها تقريباً، فتزعمه على مدى السنوات اللاحقة. هذا الأخير، التف حوله كبار الصناعيين؛ فيما ابن حارته، خالد أفندي، كان يحاربهم في دعاياته الإشتراكية بوصفهم رأسماليين يمتصون دماء العمال.

***
نادي الحي، المُكنّى باسم موطن الأسلاف، ما لبثَ أن أضحى موضعَ صراعٍ بين ذينك الخطين بشكل خاص. الأمير جلادت، مع أنه مشبعٌ بالأفكار الليبرالية، بقيَ خارج حلبة الصراع وظل محترماً من معظم الأعضاء. بينما مؤسس النادي، وكان يُدعى بصيغة إحترام، " آبو " بالباء الأعجمية، إتُهمَ مع مرور الوقت بتبنّي أفكاراً إشتراكية قومية متطرفة. كان جمّو يكن للرجلين الأخيرين تقديراً كبيراً، غاضّاً الطرفَ عن أفكارهما، الموصوفة، المتناقضة مع أفكاره. لكن علي بك، هوَ مَن أخذ على عاتقه تفنيدَ الدعاية الشيوعية، المركّزة على كون بلاد البلاشفة فردوس القوميات المتعددة من قرغيزيا إلى أستونيا. كان عضو شرف في النادي، وأظهرَ تواضعاً حين رضيَ أن يَدرس ثمة اللغةَ الأم قراءةً وكتابة. في ذلك الوقت، كان جمّو قد أصبح معلماً في النادي، فتعززت علاقته أيضاً مع البك.
كيلا يتسمم جو النادي مزيداً بالخلاف الإيديولوجي، إستغل جمّو صلته الطيبة بخالد أفندي كي يطلب منه في أحد الأيام الحضورَ لإلقاء محاضرة عما رآه في خلال دراسته بالخارج. استُقبلت المحاضرة بالحماسة من لدُن أغلب الأعضاء، وزاد المحاضرُ من ابتهاجهم حينَ أعلن نيّته الإنتساب للنادي. بيدَ أن جمّو خاب أمله لاحقاً، في هدف جلب المحاضر على أمل أن يسودَ الوفاقُ بين الأعضاء: المنتسبُ الجديد، المتّسم بالدهاء والحنكة، ما عتمَ أن بدأ بسحب الأعضاء واحداً إثر الآخر إلى حركته السياسية، بعدما نجحت دعايته بتصوير النادي كتجمّعٍ رجعيّ على رأسه شخصٌ قوميّ متطرّف.

***
عقبَ عودة جمّو إلى دمشق، التي جدّت بعد أشهر من وصول أسرة السيّد صالح إليها، قررَ ترك الخدمة العسكرية. اقتنع بما سبقَ وأكّده قائده الفرنسيّ أمامه، من أن سلطة الإنتداب ستنتهي حتماً في حال وضعت الحربُ أوزارها لتغدو سورية دولة مستقلة. على الأثر، عانى لفترة من البطالة؛ هوَ مَن لم يتعلّم سوى صنعة النول اليدويّ. ما وجد لديه رغبةً في العمل بالصنعة لدى شقيقه سلو، كون علاقتهما ليست جيدة. لكن لحُسن الحظ أن الصيفَ حلّ، لينتقل من ثم إلى قرية البيطارية، أينَ يشغل شقيقه الآخر وظيفةَ وكيل أعمال الإقطاعيّ الكبير حسين بك الإيبش. ثمة أيضاً، شأن فترة الجندية، تهيأت له ساعات فراغ كثيرة شغلها بقراءة الكتب والمجلات، العربية والكردية. مجلة " هاوار: الصرخة "، التي أصدرها الأمير جلادت في دمشق في مفتتح عقد الثلاثينات، توقفت عن الصدور في العام المنصرم، وكان جمّو مشتركاً سنوياً فيها.
هوَ ذا صاحبُ المجلة، يحل ضيفاً على صديقه البك في مركز إقطاعيته، وذلك بعد أيام من تواجد جمّو فيها. لقاء هذا الأخير مع الأمير، كان مؤثراً ولا غرو. فما لبث أن تناقشَ الرجل بحضور الآخرين حول احتمالات ما بعد الحرب بالنسبة للبلد والمنطقة بشكل عام. وجهة نظر الأمير، كانت متشائمة بخصوص التيارات القومية العربية الصاعدة، وما يمكن أن تلحقه من أذى بالحريات العامة وحقوق الأقليات الأثنية لو تسنى لها الصعود إلى السلطة عن طريق الإنتخابات؛ أو بانقلاب عسكريّ، مثلما تُبشّر به دعاياتها. جمّو، وكان أفتى الحاضرين، أكتفى بالاستماع إلى آراء مَن يعدّه بمثابة نبيّ النهضة الكردية. إلى أن وجه له هذا سؤالاً، يتعلق بوضع نادي الحي. فأجاب جمّو، بنبرة أسف: " نشاطه شبه مجمّد، ولعل الحكومة تسحب أيضاً رخصته إذا انتهت الحرب بخروج الفرنسيين من البلد ". هزّ الأميرُ رأسه، ولم يعلّق بشيء. كان معروفاً بعلاقته الوطيدة مع إدارة الإنتداب منذ لجوئه إلى سورية قبل نحو ربع قرن، وعن طريقها تمكّن من تحقيق مكاسب عديدة لبني جلدته إن كان على صعيد الثقافة أو الخدمات العامة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل




.. فيلم ولاد رزق 3 بطولة أحمد عز يقفز لـ 193 مليون جنيه منذ طرح