الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السؤال عن الشعر في مدونة الشاعر قاسم والي ... قراءة انطباعية

عامر موسى الشيخ
شاعر وكاتب

(Amer Mousa Alsheik)

2020 / 9 / 26
الادب والفن


لطالما احتفى الأدب بالأسئلة الكبرى المواجهة للحياة ، أسئلة شغلت عقل البشرية منذ الخليقة - إن لم نقل بأن النتاج الأدبي هو عبارة عن اسئلة مستمرة متناسلة - تزيد من سعة الاستفهامات الكبيرة أمام الوجود برمته ، وهكذا نجد: أن أغلب الآثار العظيمة ؛ كانت تضمر أسئلة وتحاول الإجابة عنها باللغة عبر توظيف الافكار ضمن أطر الخطاب ، ليحتفي النقد الأدبي بتعدد زوايا النظر إلى تلك الخطابات التي بقت قيد التلقي والتناول ، لاسيما في عصرنا الحالي ، والموسوم بعصر التلقي ، أو هو : عصر هيمنة المتلقي الباحث عن تلبية رغباته عبر القراءة ، فهو اليوم مشارك فعلي في انتاج المعنى وتعدده ، بحسب قابلية المتلقي على التأويل .
في الشعر نجد أن السؤال قد تعددت صوره ، فمرة هو سؤال وجودي ، وسؤال عن فقد ، وآخر عن الدين أو المكان ... إلخ ، فمادامت الحياة باقية ، فإن السؤال باق لا محال ، وكلما اتسعت المعارف ، واتسعت رقع العلم ، كبر السؤال ، أمام استعصاء تمثل الاجابات الشافية التي تسد عطش البحث .
في تجربة الشاعر العراقي قاسم والي -المولود في السماوة ( 1960)- نجد أن السؤال قد أخذ مساحة كبيرة ، ومثّل معمارا شاخصا في ركائز هذه التجربة ، لكن أسئلة قاسم والي ، كانت تبحث في آليات الإجابة وتشكلها ، فاذا قلنا أن النصوص المكتوبة باختلاف أجناسها وأنوعها وانماطها ، كانت تحمل الاسئلة ، فأن شعر والي كان يسأل عن النص في النص ، إذ أتت تجربته الشعرية تحمل أسئلة عن الشعر نفسه ، ويكاد هذا السؤال يشكل ثيمة مهيمنة في هذه التجربة، ففيها يضيف الشاعر أسئلة أخرى إلى الانسانية ، أسئلة مستفهمة عن الشعر نفسه ، بوصفه نتاجا انسانيا ، اتصف أيضا بعدم الاستقرار وكثرة الأسئلة من حوله ... ونسأل : هل استقر الشعر على تعريف نهائي ؟؟ وهذا ما لا يمكننا الاجابة عنه ..
وكما يبدو ، فإن السؤال عند والي ، مثلَ بذرة مغروسة في مساحات ذاته المعتقة بالأسئلة ، لتكبر هذه البذرة وتتحول إلى شجرة ، حطابها الشاعر نفسه ، يغرس الفأس فيها بحثا عن لب جديد ومعنى مغاير ، لكن هذه الشجرة لا تموت ، والفأس لا ينكسر !! لأنها بمعان ولادة ومستمرة ، وهذا ما تمثل في احد ابياته :
قصيدة " أحوال الباء " من مجموعة "يجري إلى الا أين"
" جمٌّ التأويلِ آياتي ملَّغَّزةٌ معناي ، يبحثُ عن معنىً وعن سَبَبِ "
ونجد إن الاشتغال المشحون بالأسئلة الكبرى والبحث المستمر عن الاجابات في مجمل مجاميعه الشعرية الثلاث ( تراتيل أوروك ، دمشق ، 2010 ، قراطيس بألوان راية دمشق ، 2013 ، يجري إلى اللا أين دمشق ، 2018) كان واضحا وجليا ، فهي أسئلة تبحث عن تحرر اللغة من القوامع والممنوعات ، وهذا ما يُمكننا القول : بأن الشعر نفسه ، وقبل أن يجيب عن اسئلته ، يبحث عن تحرر فعلي .. ولعل مفتتح مجموعة " قراطيس بألوان راية " يمثل هذا السؤال المنبعث من التناسل الاستفهامي المهيمن على هذه التجربة ، إذ يقول :
ليت اللغة وليت الأنساق المتاحة لبناء النصوص يتسعان بما يكفي للتحرر " إلى أن يقول عن النصوص كُتبت في محاولة للهروب من القوامع المهيمنة على الجسد والروح معاً". "
وهنا تضاف اشكالية أخرى إلى السؤال الأول ، وهو كيف سيكون شكل النص ولغته إن كانت الكتابة هي محض امنية للتحرر ؟ إن افترضنا ان التحرر هو محاولة للانعتاق من حبس الاسئلة التي في اجابتها اضمار للقمع أصلا .
لذلك لفّ والي بساط الحيرة ، وعاد إلى السؤال عن الشعر ، في أول نص من نفس المجموعة " قراطيس " حين افتتح اول القصائد بنص عنونه بـ " الشعر آخر التعاريف " ليبقى منشغلا بالسؤال عن الشعر بالشعر ، في محاولة لصياغة تعريف خاص للشعر ، ومن خلاله يحيل الشعر إلى كشاف كبير ، وبينما يضمر هذا العنوان اجابة عن سؤال كبير ( ما الشعر ؟ ) فأنه في الوجه الآخر من العنوان ، يقول : أن الشعر هو تعريف لكل شيء ، وهو الذي يعرف الاشياء خارج قوانين العلوم الصرفة المستقرة، وهذه إجابة عن سؤال الشعر لكن هذه الاجابة تضمر سؤالا آخرَ ، لأن عقل قاسم الشعري أراد أن يؤطر الحياة كلها بالشعر والسؤال الذي هو هاجسه الأول ، يقول :
"الكأس الفطرية
هبة الآلهة
صالحة للمأدبة
لمواصلة التراتيل
لتحريك ألسنة الرسل
لتدوين الاعترافات
لإشهار الفضيحة المتوارية خلف الصمت "
والسؤال المضمر هنا ، هو لماذا التقاتل في الحياة التي فيها فطرة وهبتها الالهة ، فهي صالحة للمأدبة والتراتيل والقول والتدوين واشهار الفضيحة ، والاشهار هنا هو الاجابة المنتظرة عن مشكل الحياة ، وأيضا ضمن إطار الشعر ، ويستمر السؤال بقلقه الدائم داخل الذات حتى يتكون ويصير كائنا ، ومن ثم يحاول هذا الكائن الذي اسمه شعر الخروج والمثول ، عبر اقصاء ملامح الشاعر وحواسه ، ليخرج إلى العالم والوجود ، وهذا ما يتجسد في نص " لا باب أفتحه " من " قراطيس بألوان راية" :
" خبأت صوتي
ما بيني وبين فمي
ملامحي الآن تقصيني
وتنطقه "

وفي هذه الأثناء يخرج الشعر عن الشاعر ليكون ماثلا بكيان وحواس وملامح ويمثل وجودا كليا ، ولكن ما هي صفاته وشكله وصور تمظهراته ، عن ذلك يجيب الوالي في نص " معنى الحياة " من مجموعة " يجري إلى اللا أين :
"آه على أي آه
يستقيم فمي
جاءت عراجين شعري
تحسد السعفا
فمن أنا
والقصيد الغضّ يرمقني
لكي يرى الصبح
في ليلي وقد زحفا "
تمثل الدلالة هنا بأن الشعر صار كائنا وله صفات ، فهو مقوس مثل عراجين النخل ، غضّ ، يحسد يرمق ويرى ويميز المتغير في الزمن ، لكن هذا الكائن أيضا جاء مغلفا بالسؤال عن الذات وعن الشعر النابع من الذات ..
وفي خضم هذه الحيرة المرتبكة ، نجد أن الشعر خرج وتحرك ، وأخذ صفات أخرى ولبس لباسا آخر ، إذ يدخل الشاعر في وصف وانهماك مستمر فيه ، نقرأ في "سماوات قانية " من " قراطيس بألوان راية " :
" وترنحت في الأفق قافية .... فأتت على قلق عباراتي
روضتها حتى إذا ركضت .... تعدو على الأوراق تاءاتي "
فعملية رصد الحروف هنا تمثل حركية مستمرة ، داخل عوالم الشاعر الباحث عن الشعر بالشعر ، وفي لحظة ما يصير الشاعر هو الشعر ، فبعد ان كان مخاضه عسيرا ، عاد إليه وتوحد فيه ، ليتحول الشاعر إلى كائن ورقي ، نقرأ في نص " معنى الحياة " :
"أني أتيتك
محمولا على ورق
قصيدة
قاصدا
لم أركب الصُدفا
يا أيها الوجع الموزون
في لغتي
سهم بعينيك
أم بالشعر قد عصفا "
نتلمس أن التماهي بالشعر والسؤال عنه فيه متجسدا بشكل واضح وجلي ، ولعله صار موضوعا يغلف هذه التجربة ، والتي هي عبارة عن سؤال دائم ومستمر ومن دون هوادة ، ولما لا ، فأن تراكم الخراب ، والتشوه المحيط ، وحده كفيل بإثارة الأسئلة الكبرى بوجه الحياة ، حتى يصير البوح الواصف عاجز عن الوصف ، لتتحول اللغة الشعرية إلى وصف ذاتها ، لان ثمة لا جدوى عن وصف الخراب الكبير المتناسل والمتوارث .
وهذا ما يجيب عنه الوالي في نص " يا عراقا " من مجموعة "قراطيس " :
" يا عراقا وأي شعر نقول .... مسّ ورد الصباح فيك الذبول "
ومن ثم يصل إلى حتمية اللاجدوى حينما يقول في نص " سيرة النزوات " من نفس المجموعة
: " لأن شعري لا يجدي
ولن يجدي
سأمنح فرصة أخرى
لخلط الهزل بالجد "
لتتحول الحياة إلى لعبة كبيرة داخل اللعبة الشعرية وضمنها ، ولكن بأسئلة مفتوحة لعل الحصول على اجاباتها تحدث مستقبلا ، لكن والي ، يؤكد ان سؤاله بقي عنده ولم يحصل على الاجابة ، سؤال شاعر عن الشعر وباحث فيه حتى انه صار يعاني من الكتابة ذاتها ، وكأن السؤال أسهم بزيادة المغاليق اما نفاد الاجابات ، ليضطر بالعودة إلى بكورية حياته الأولى ويحاول إراحة الذات بالإجابات ، نقرأ في نص تأثيث من ديوان " قراطيس" "
"لم يشتغل القلمُ فاضطررتُ للشخبطة
باهتةٌ حروفي الأولى
أخيراً بدأت تتطوخ
انسابت كدموع زرقاء
غيمةُ المناحةِ تمطرني الآن
الابتهاجات مؤجلةٌ دائماً
ليس لديَّ سوى التذكر
فتاتي الأولى
قبلتي المختلسة
قصيدتي الطفلة
مشاعري المحنطة
لمَ عليَّ أنْ أكتبَ الآن؟
أشيحوا عن ورقتي
لن أتملقَ قرائي
بكائي المرّ ُمُعدٍ كانفلوزا الشعراء
هذا هو آخر الفايروسات
على أية ورقةٍ هذه هي الروحُ ذاتُها
عموديةً تقف أو أفقيةً تنام
تتسعُ لتغمرني بالهروب
أضيقُ لأغمرها بالحياة".
يتضح لنا من خلال هذه المعاينة العجولة ، أن الأسئلة عن الشعر تكمن في قلب العملية الابداعية وتتمثل شعرا ، عبر اساليب لم تتخذ من التعقيد شكلا لها ، لأنها أتت محملة بموضوعات وأفكار مثلت العمق المعرفي للشاعر ، ومثلت صدقه الفني المعبر وعكست روحه المتطلبة كما يصفها هو.. ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس


.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل




.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة


.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات




.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي