الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المهجر..بين تحديات وخيارات

سماح هدايا

2020 / 9 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


ربّما لم تعد العودة الطوعيّة للسوريين من المهاجر أمراً وارداً الآن مع عدميّة سياسيّة واسعة، لكنّها حقًّ، وتظل أملاً وحلاً لجمهور واسع من السوريين المهجّرين وعوناً لبناء سوريا المستقبل عند سقوط نظام الاستبداد وجلاء جميع العصابات العسكريّة والجيوش المحتلة وتوقّف الملاحقة الأمنيّة بحق السياسيين المعارضين والناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان.
الحديث عن السوريين في المهجر، نحا، غالباً، في أدبيات الثورة السوريّة نحواً عاطفيّاً وإغاثيا مقتفياً أثر الجانب الإنساني وصارفاً النظر عن التحليل الموضوعي الضروري للتخطيط المستقبلي عند عودة السوريين لسوريا.
السوريون في المهجر من لاجئين ومهجرين أو مهاجرين، يعايشون مثل غيرهم من القادمين الجدد إلى دول ومجتمعات جديدة متقدمة مغايرة ثقافيا وحضاريا وسياسياً، ظروفاً عسيرة للاندماج الاجتماعي والمهني واللغوي والثقافي، ويقاسون من تناقض الأحاسيس بالانتماء والهوية الذاتية والقوميّة للشخص وللجماعة. بعضهم ينجح ويتحكم بنفسه، وبعضهم يعلق في القلق والاضطراب والعدميّة.
هذه المقالة القصيرة توضّح بعض التحديات وخيارات الحلول.
جهود كبيرة بذلتها وتبذلها أطياف مثقفة من الجالية السورية والجاليات العربيّة للمساعدة في إدماج السوريين في البلاد التي قدموا إليها، وتمكينهم نفسياً وصحيّاً للتغلّب على الاضطرابات والأمراض الناجمة عن معاناة الحرب والنزوح والتشتت، بالإضافة إلى دعم مطالب الثورة السورية التحرريّة والديمقراطيّة سياسيا. لاشك أنّ علاقات الجاليات الجيدّة بالمجتمعات المحليّة والمنظمات الحقوقية والإنسانيّة والجهات السياسيّة التي نشطوا فيها سهّلت عليهم العمل، لكنْ، وتجنّباً للمبالغة؛ فإنّ المجتمعات الغربيّة التي بلغت درجة عالية من البيروقراطية والتعقيد المؤسساتي والسياسي، لا يمكن أن تصغي لحديث القوى الضاغطة لنصرة القضيّة السوريّة وغيرها من القضايا العربيّة الإشكاليّة إلا بما يوافق سمعها وثوابت مصالحها السياسيّة.
المشاكل والمتناقضات التي تحيط بالسوريين في المهجر كثيرة ومعقّدة تؤثر في نمط حياتهم ورؤيتهم، بعضها امتداد لإشكاليات الواقع العربي، وأخرى أضافها الواقع الجديد في الدول التي يقيمون فيها، وهي تنعكس، سلباً وإيجاباً، على علاقاتهم بأنفسهم وعلاقاتهم بالمجتمعات الجديدة، وعلى صلتهم بمجتعاتهم وأوطانهم التي قدموا منها، في صراع بين الانسلاخ والتبعيّة وصولاً للتوازن والاتزان. وهي مشاكل متنوّعة ترتبط بخلفيّة الأفراد الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، وبأوضاعهم ومعاناتهم، وبطبيعة البلاد التي يقيمون فيها؛ فلكل بلد ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وخدماته الخاصّة لدعم التشغيل والاندماج وتوطين المهاجرين واللاجئينّ.
استقبلت الدول منذ الثورة واندلاع الحرب والعنف في سوريا أكثر من 5 مليون سوري، إضاقة إلى الأعداد القديمة السابقة التي كانت قد هاجرت أو تهجرت نتيجة القمع؛ من معارضن سياسين للنظام السوري، أو هاربين من القوى الإرهابية العنصريّة المتسلطة على بعض المناطق السّوريّة، ومؤيدين للنظام، بعضهم شبيحة وجواسيس. وهناك لاجئون لأسباب اثنيّة أو لأسباب شخصيّة مرتبطة بالشأن الجنسي والجنسوي، لا علاقة لهم بالقضايا السياسية والوطنيّة والثورة، ولا تعنيهم إلا مصالحهم الخاصّة. لذلك رصّ المشاكل والحلول في رف واحد غير ممكن، لكنْ، يمكن تحديد إطار عام لها.
لعل أهم مشكلة هي الاندماج وما وما ينجم عنه. فالسوريون ينتشرون في مجتمعات غريبة عنهم، لكنّها مجتمعات عقلانيّة ماديّة تحكمها قيم المال والعمل والقانون، يمكن تحقيق المواطنة فيها، وإن اختلف من بلد لبلد بحسب سياسات الهجرة في توجهات كل حكومة، وذلك بالعمل والتعلم وممارسة اللغة واحترام القانون ودفع الضرائب، حتى مع حالة تسيسيّة تقوم بتنميط سلبي للعرب والمسلمين، وحالات مقابلة من تقوقع وتعصّب لدى بعض الفئات من السوريين. عملية الادماج مرهقة تسبب قلقا في الذات كهوية ثقافيّة وقيميّة وقوميّة. الترسيخ المؤسساتي لإدماج الجميع، على الرغم من تعزيز الفرديّة، إدماجا وظيفيّا استهلاكيا معولما يمحو مساحة واسعة من خصوصية الذات ويقطع الصلة بالهوية الثقافية والقيميّة.
خطط العمل الثقافيّة التي تصمّمها الحكومات المضيفة والبرامج التي تنفّذها جمعياتها ومنظماتها لتدريب اللاجئين والقادمين الجدد وتمكينهم علمياً ومهنيا لتحقيق الاندماج الاجتماعي والاقتصادي، يستفيد منها كثيرون ويضيفون للمجتمع جديدا اقتصاديا أو علميا أو اجتماعيا، وهناك من يخفق ويصير عبئاً يعيش على المعونات والمساعدات. لكنّها لا تعالج ما ينجم عن الاندماج من آثار سلبيّة على الصحة النفسيّة بسبب تصدّع الصلة مع الهوية الأصلية ومع اللغة العربية وثقافتها من قلق واضطراب قيمي وعاطفي. صحيح أنّ وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الالكترونيّة والشابكة تحفظ الصلة بالذاكرة الوطنيّة، وتسهم في تعليم اللغة والثقافة؛ لكنها تبقى فرديّة افتراضيّة غير مستقرة وتزيد في الأنويّة، وتظل تعمل كجماعات لا كشعب.
الجمعيّات والمؤسسات التي تتوجه لتمكين القادمين الجدد بتشجيع الثقافات الإثنيّة الخاصة بهم ودعم التنوّع الثقافي لتخفيف صدمة الاغتراب تقوم بعمل مهم؛ لكن تأثيرها الفعلي يظلّ محدودا ومرتبطا بسياسات الدولة وانفتاح ذهنيّة مجتمعاتها، أما الجمعيات السوريّة والعربيّة التي تستجلب تمويلا لأعمالها في تسهيل الادماج ورعاية الأنشطة الثقافيّة المرتبطة بتنوّعات الهوية العربيّة؛ فلا تسلم مما في المجتمع العربي من شواغل عرقية واثنية ومناطقيّة ومذهبيّة، تدفع لمزيد من الاستقطاب، خصوصا مع ضعف المرجعيّة العربيّة الموثوق بها.
للهجرة سواء كانت تهجيرا قسريا أو هجرة طوعيّة إيجابيات وسلبيّات تضع الإنسان أمام تعدّدية ثقافية تشحذ وعيه بنفسه وبالعالم وبالإنتاج العلمي وتفتح أفق تفكيره على التجارب السياسية المتعددة، وهي فرصة لخروج السوريين من واقع بلادهم المتردّي سياسيا وعلميّا ومجتمعيّا واختبار تجارب البلاد المتطوّرة ومنجزات المدنية الحديثة من نواحي الحقوق المدنيّة والحريات والتقدم العلمي والتنظيمي والإداري. التحديات الجديدة هي تجارب مفيدة، ولابدّ أن يستفيد منها جمهور واسع ويطور نفسه ويفيد، من دون أن يقوم بقطيعة مع ذاته الثقافيّة وقيمها النبيلة، وبالمقابل طبيعي أن يبقى آخرون جامدين في مكانهم بلا حيوية مجرد أعداد لا تقدم ولا تؤخر، سواء احتفظوا بقشور ثقافتهم أو تخلّصوا منها.
من الضروري الاستفادة من هذه التجارب، والاستعانة بأصحاب العقول التي انفتحت وتعلمت وحصّلت خبرات مهمة ومستعّدة لتحمّل المسؤولية الحضارية تجاه أوطانها ومجتمعها وإعادة بناء البلاد حال توقف الحرب، وذلك يتطلب التخطيط والعمل على دمج المهاجرين والمهجّرين مرة أخرى في مجتمعاتهم واندماجهم ببلادهم وتاريخهم وثقافتهم وصياغة السياسات والبرامج الداعمة لذلك ولتسهيل العودة والإغراء بها، وهو مسؤوليّة التشكيلات السياسية والثقافية الجديدة المنبثقة من الحراك الوطني التحرري.
الهجرة أبعدت الناس وأوجدت أوضاعا وأفكارا وعلاقات جديدة تتطلب تفكيرا جديدا لسنّ تشريعات وقوانين واتخاذ إجراءات تلائم المتستجدات وتستوعب توترات مابعد العودة، خصوصا، متناقضات الهوية والانتماء. قد يختار بعض المهاجرين العودة، وتحمّل مسؤوليّة وطنيّة في التنمية وبناء بلادهم، على الرغم من مشقة العودة، وقد لا يفكر آخرون في العودة والتّخلي عما اكتسبوه وأنجزوه مهنيا وعلميا ومواطنة ومعيشة، وستختلف خياراتهم ومسؤولياتهم ومشاكلهم عن الذين سيقرّرون العودة إلى بلادهم، خصوصا، الشباب بعد انقطاع طويل، والذين ولدوا وشبّوا خارج البلاد، فهؤلاء تأثّر نموّهم الاجتماعي والنفسي والثقاقي بواقع الغربة وبمشاكل الهوية والانتماء واللغة وسيحتاجون لإعادة تأهيل نفسي واجتماعي وربما لغوي
العودة ستكون بمثابة مرحلة تحويلية. دور الأهل والتجمّعات التمثيلية للجاليات السوريّة والعربية مهم جدا في التهيئة له بالصبر على فهم العقل الجديد للجبل المهاجر ومحاولة ربطه بشكل سلس مرن جميل بتاريخه وبلده ولغته العربيّة وتعزيز القيم النبيلة من الهوية الثقافية عبر الأنشطة الثقافية والاجتماعيّة الهادفة كتمهيد للتعايش المستقبلي في سوريا.
دور الأجسام السياسية والتمثيليّة القائمة والمعترف بها مهم أيضا، وذلك بالتوجّه إلى المهجّرين واللاجئين بلقاءات وحوارات وحلقات توعية اجتماعية وثقافية وسد الفجوة بين الداخل والخارج، ورسم خارطة عمل لاستيعابهم وإدماجهم، ووضع قضيتهم في قائمة الأوليات عند التخطيط لإعادة بناء سوريا ديمقراطيا ومدنيا.
أبناؤنا وأحفادنا في بلاد الاغتراب مسؤوليتنا، ونحن أمام خيارين إما نتركهم ينسلخون عن هويتهم ووعيهم الوطني الحضاري ويذوبون، أو نمكنهم ونمكّن بهم بلادنا.

د. سماح هدايا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا