الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوعي الشعبي في القصيدة العراقية الحديثة

علي جواد عبادة

2020 / 9 / 29
الادب والفن


"الشعرُ يُلدُ في العراق" , أو هكذا خُيِّل إلينا بأنه "يضعُ شفتَيه على ثدي بغداد" ولكن أي شعر؟ وأي وعي يقبع تحت لغة هذا الشقي المولود في العراق , والراضع من ثدي عاصمته ؟ ليست مِمّا تحتاج إلى دليل تلك القطيعةُ التي نعيشها في انصاتنا إلى لغة الشعر الحديث ، إذ لا نتحسسها ، و لا نتذوق النصوص المدونة بها ، نتعاملُ معها نقدياً بتمحلات ، وتقعّرات ، وفذلكات ؛ لنصل إلى دلالةٍ تُرضي غرورَ ثقافتِنا لا غير ، أو بتعبير أكثر دقة : دلالة يكون النصُّ مناسبةً للحديث عنها, فتقدِّمُنا بوصفنا أصحابَ الرؤية الجمالية العميقة التي تسبر أعماقَ النصوص؛ لتتذوّق العلاقة بين الدال والمدلول ، وفي الحقيقة نحن في خواء مطلق ، ولحظة نقدية مُفتعلة.
هذه القطيعةُ حتمتْ علينا النأيَ عن الانصاتِ للشعر ، وفرضتْ على الشاعر الحديث - انتساباً إلى العصر وليس إلى الوعي - الذي يرغب بكسب ودّ الجمهور أن يتحايلَ على هذه اللغة ؛ فيكتبُ ما يريدُهُ الجمهورُ بلغة تحترمُ الحركاتِ الاعرابية، وتنزلُها بمنازلها الصحيحة ، لكن دونما تذوقٍ حقيقي لأواصر الارتباط بين التراكيب؛ ليجعلهم تحت تأثير ما يعرفُونه مسبقاً ، لا ما كشَفَهُ لهم النصُّ ، أو حَثَّهم على تأملِهِ ، ومن ثم تأويلِه .
الحداثةُ ، وما بعدها ، وما بعد ما بعدها لحظاتُ وعي -قبل كلّ شيء- ، وما عدا الوعي قشور . ولو تأملنا شعرنا الحديث , بنماذج كثيرة منه ، ولتجارب كبيرة ومهمة , لألفينا أنفسنا أمام بهرجٍ لغويّ عظيم ، واحتفاء مُطلقٍ بالحركات الاعرابية . وتحت هذا البهرج اللغوي يقبع وعيٌ شعبيٌ فطريٌ بسيطٌ ، وعي يهزُّ حتى مَن لا يحبُّ الشعرَ ، ولا يجد فيه ما ينفع .
هذا الوعي الشعبي لا حدّ لتمثلاته ، إذ يظهر في : السخرية ، والمفارقة ، والتورية ، وتوظيف الحكاية الشعبية ، والمناسبة ، والمثل ، والأغنية ، والمفردة الشعبية ، أو تناص مع آيات قرآنية اكتسبتِ الشعبيةَ بفرطِ الشيوع ، أو في المناخات التي تجنحُ المخيلةُ إلى رصد الطبقاتِ الهامشيَّة من المجتمع ، أو الحنين إلى الريف ، أو شعرنة القضايا الاجتماعية والمناسباتية .... إلخ ، فما من قصيدة يتفاعلُ معها الجمهورُ إلا وتحت بهرجِ ألفاظِها وعيٌ شعبيٌ ؛ لأنّ الذاكرةَ اللغوية التي يمتلكُها الجمهورُ ذاكرةٌ شعبيةٌ ، لا ينطبق لسانُها إلا على لسانٍ من صنوها .
قد يزعجُ هذا الكلامُ الشعراء , وغيرهم , ما لم يُدعَّم بأمثلة من تجارب شعرية لها ثقلُها في الوسط الثقافي والشعري ، لننصت أولاً إلى ( كاظم الحجاج ) الذي يقول :
جنوبيون
مثل خبز الأرياف..
خرجنا من تنانير أمهاتنا ساخنين..
لنليق بفم الحياة.
ليس ثمة من خلل يلحقُ هذه الصورة الشعرية لو أن (كاظم الحجاج) نصب ( جنوبيون ) وقال : ( جنوبيين ) هذا التحديد الإقليمي أو المناطقي لا يعني شيئاً سوى زجّ المتلقي في فضاء شعبوي مُستَمَد من شعبية الجنوب العراقي ، وجملة التشبيه التي تلتِ المبتدأ( جنوبيون) سافرةٌ في شعبيتها ، وصريحة في خيالها الريفي ، والصورة الشعرية برمتها تُعبّر عن وعي شعبي في النظر إلى العالم . ولو أننا التمسنا العذر من فخامة المعيار النحوي ونصبنا ( جنوبيون ) على الرغم من رافع الابتداء ألا يكون المعنى أكثر توهجاً ؟! بالنظر إلى كون الـ(جنوبيون) هم مفعول به معنوي لما يقضمه فمُ الحياة .
مثلَ هذا الوعي الشعبي نلمحُ في بيت الشاعر (حسين القاصد) الذي يقول :
أُمّي على التنورِ ماتَ رغيفُها
فأتتْ بمهجتِها إليّ مدورةْ
المعنى الشعري في هذا البيت يبقى هو هو لو أننا نصبنا المرفوع ورفعنا المنصوب ؛ لأننا - ببساطة - لا نتلقاه بناءً على احساسنا بالعلاقات النحوية التي تشد التراكيب إلى بعضها , إنما وعينا الشعبي الذي يختزن صورةً مضحيةً للأم هو من يُحفَّز ويُثار ، فالأم مضحيةٌ في الحداثة وما قبلها ، وما بعدها ، وما بعد ما بعدها إلى يوم يبعثون ، وحين يُعاد تشكيل هذه التضحية الغافية في لا وعينا بألفاظ مُزخرَفة بالحركات الاعرابية فأننا ننتشي ، ونصفق ، ونهتف بـــ : (اعدْ ).
ومثال آخر عن الوعي شعبي ما نقرأه في نص الشاعر (حمد محمود الدوخي) المعنون بــ( كاظم غيلان ) ، إذ يقول :
جاء للشعر
من خضرة في ( العمارة )
فامتد ريفياً بصوت ( عبادي العماري )
وكان جليلاً
كخمرته
إنه كاظم القهر والحب والحزن
والهم والوجع المستديم بجيب
الرمال
لولا الاستعارة الأخيرة ( بجيب الرمال ) لما تنفس المقطع الشعري برمته وعياً شعرياً غير الوعي الشعبي السافِر المُستَمَدّ من شعبية محافظة (العمارة) ، ورمزية المطرب الشعبي (عبادي العماري) . ولو سكت الشاعر قليلاً بعد اسم الفاعل : (كاظم) في التركيب (إنه كاظم القهر والحب والحزن) ، لصاح الجمهور : الغيظ ؛ لأن هذا التركيب معهود في المخيلة الشعبية الجنوبية العراقية ، وبشكل مقدس أيضاً ، وهذه الاستعارة الصحراوية في مرجعياتها لا يمكن لها أن تحدث أثراً في مقطعٍ شعري سبعةٌ من أسطرِهِ شعبية في وعيها , وهي السطر الثامن والأخير .
وللقارئ الكريم حرية تأمل قصيدة النثر للشاعر (علاوي كاظم كشيش) , إذ يقول : (لم تزلْ في لندن فالاتنا، في الصباحاتِ البريةِ كانت خيولُنا تخبُّ في غبارِ الغضبِ , تقفُ الصقورُ على شواربِنا ولا تكسرنا أنثى. ومنذ ارتعدتِ الأرض هجرنا مضاجعنا ... بيوتُنا من طينٍ , وبراءة أقمار، في باحاتها العصافيرُ تلعبُ وأطفال يتطاولون مع البنادق والمساحي ...على شواربنا تقف الصقور) !, إنه الوعي الشعبي بأبهى تجلياته : فالات , وخيول , وبنادق , وشوراب , ومساحي , أليس كذلك؟
ضيق المقام يحتم الاكتفاء بهذه الأمثلة ، ويدفعنا للقول : إن الوعي الشعبي ليس تقليلاً من شاعرية أحد ، أو سحب بساط الحداثة والتحديث من تحت تجربته الشعرية ، إنما هو حقيقةٌ تجبرنا المكابرةُ على الاعتراف بها ، حقيقةٌ فرضتها القطيعةُ التامة بين اللغة الفُصحى والعاميَّة حتى عند الشعراء نفسهم ، فقد ماتت الأولى ، وظلت محنطة في متاحف القواميس والمعاجم ، وما نحتفظُ به الآن هو المعيار النحوي فقط ، نُركِّبَهُ على لغةٍ مشتركة تحتها وعي شعبي ، يُذكِّرُنا بالغافي في تضاعيف ذاكرتنا ؛ لنخرج بنصّ عسى أن يستحقّ جدارة منصة المربد .
الكلمة التي لا بُدّ من قولها : إن هذه المقالة الموجزة لا تبتغي التعميم، وليس من حقها ذلك , ولا تنسب شعراء كبار إلى وعي شعبي قد يترفَّع عنه كثيرون ، إنما هي محاولةٌ بسيطةٌ , أو خطوطُ عريضةُ لدراسةٍ- لي قيد الانجاز – تتبَّعُ ظاهرةَ الوعي الشعبي في القصيدة الحديثة ، والأمثلة التي وقفنا عندها لا تُتعمّم على تجربة الشاعر كلها إنما هي تمثلات تدعمُ ظاهرةَ الوعي الشعبي في القصيدة الحديثة ، يتفاوت وجودُها بين شاعر وآخر ، بحسب مرجعياته الشعرية , ورؤيته إلى الكون والأشياء والإنسان.


أكاديمي عراقي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟