الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل التاسع/ 3

دلور ميقري

2020 / 9 / 30
الادب والفن


في صباح اليوم التالي، ولحين تصاعد صوتُ أذان الظهر من مسجد سعيد باشا، هيمنَ الصمتُ على دار آخر زعيمٍ للحي. بخَطوها المتثاقل بفعل الشيخوخة، مرت السيّدة سارة على حجرتيّ ابنيها العريسين، داعيةً إلى الفطور كلاً منهما باسمه من وراء الباب المغلق. الابنة رابعة، كانت قد فرغت من وضع أطباق الطعام على مائدة في الإيوان، فُرشت بسماط أبيض، زيّنَته أزهارُ الياسمين، المقتطفة تواً من عريشة منزل عمّتها، المرحومة زَري. فيما بعد، ستَعمد عروسُ شقيقها الأصغر، بيان، لاقتطاع غصنٍ من العريشة نفسها كي تزرعه على الطرف الأيمن للإيوان.
وهيَ ذي العروسُ غير المتجاوز سنّها السادسة عشرة، تخرج من حجرة النوم، متبوعةً برجلها. وما لبثا، عقبَ خروجهما من الحمّام، أن قبّلا يدَ السيّدة الكبيرة ثم أخذا مكانيهما حول المائدة. على الأثر، ظهرت العروسُ الأخرى، لتلقي نظراتِ الغريبة على أنحاء الدار. فلما بدت الحيرة على ملامحها، فإن ابنة حميها هُرعت لتدلّها على طريق الحمّام. بعدئذٍ جلست مزيّن بدورها إلى مائدة الفطور، متجاهلةً عادةَ تقبيل يد الحماة. هذه الأخيرة، خاطبتها بنبرة استياء، متسائلة: " أما زالَ رجلكِ نائماً؟ ". أومأت العروسُ برأسها، ولم تزِد عن الغمغمة: " أجل ". منذ ليلة الأمس، لما وقع بصرها لأول مرة على عروس ابنها فَدو، لم ترتح لملامحها، المُتّسمة في آنٍ معاً بالقسوة والكآبة. في المقابل، لم تشبع من تأمل العروس الأخرى، الحسناء الفتية والوديعة، بنظراتٍ مفعمة بالحب والعطف: بالطبع، وبوصفها قابلة الحارة، كانت تعرفها مذ أن ساعدت في إخراجها من رحم أمها إلى نور الحياة. إذاك، أكّدت للنسوة الحاضرات بأنها قلّما رأت مولوداً ببهاء هذه البنت.

***
بيان، من ناحيتها، لم تشعر بالغربة في دار حميها؛ ولو أنه لاحَ أكثر رثاثة لعينيها عن ذي قبل، لما كانت تزوره مع أسرتها. آنذاك، كانوا يجلسون في الإيوان، المُعتَبر أفضل أجزاء الدار لناحية العمارة والتأثيث. بمناسبة إتمام إجراءات الزواج، سمعت أمها ذات مرة تقول لأبيها: " رجالهم الكبار، حالتهم المادية ممتازة، ومع ذلك لا يخجلون من بيتهم، الأشبه بالخرابة ". علّق عندئذٍ السيّد صالح، بنبرة ساخرة: " سلو، بالكاد دخله يكفي ثمناً للولائم، المقامة يومياً على شرف أولاد سنجو. وفَدو، يصرف ماله على سهرات المجون. أما حسينو، الأكثر حرصاً، فإنه لحين شرائه منزلاً لم يُسهم حتى بمصروف العائلة. وحده صهرنا، جمّو، كان من المؤمل أن يُحسّن حال المنزل لو لم يكن راتبه زهيداً ".
لا غرو، إذاً، أن تلقي مزيّن نظرةَ إزدراءٍ على المنزل، وذلك حالما أشرقَ صباح يومها الأول فيه. حالاً فكّرت، أنه لم يكن في الوسع مجرّد مقارنة ما تراه هنا مع دار والديها. لاحقاً، طفقت في كل مناسبة تسخر من كون الدار تخصّ الزعيم السابق للحي. لما اطمأنت لطبع بيان، البعيد عن النميمة، قالت لها ذات مرة: " يا إلهي، حجرات النوم نفسها مفروشة أرضيتها بالرمل. بينما في منزل المرحوم والدي، أرض الديار والحديقة والحجرات، مبلّطة كلّها بالرخام ". كانتا وقتئذٍ تسحبان الماء من البئر، الموجودة بالقرب من مدخل الدار. فأضافت مزيّن، وهيَ تهز بعصبية حبلَ الدلو: " ما زالوا يستخدمون أيضاً هذه الوسيلة البدائية، مثلما أنهم لا يعرفون الكهرباء. تفو..! ". لم تعلّق بيان على كلام المرأة الثائرة، كذلك تعففت عن الافتخار بالحالة المرفّهة لبيت أبيها. لكن فيما بعد، تسنى لمزيّن زيارة دار السيّد صالح، فعادت منه بانطباع نمّ عن رضاها؛ إن كان لناحية عمارته وأثاثه، أو لناحية مستوى معيشة ساكنيه.

***
بقيت علاقة المرأتين حَسَنة، إلى فترة انتفاخ بطن إحداهما بالحمل الأول. وإنها بيان، مَن أسعدتها الحماةُ ببشارة حبلها، غبَّ انتباهها لعلاماته. مع مرور أشهر أخرى، بلا علامات مماثلة عند مزيّن، فإنها أضحت أكثر عصبية وسوداوية. أضحت لا تتحملُ رؤيةَ بيان، وفي كل مرةٍ تفتعل مشكلةً معها أو مشادة. كأن تقترب منها حينَ تكون هذه قد أنهت ملأ الدلو من البئر، فتبادر إلى صبّ مائه في وعائها. تعقيباً على تدخل الحماة في صالحها، كانت بيان تقول: " والله أنا أشفق على حالها، وأعدّها في منزلة أختي الكبيرة ". غيرَ أنّ السيّدة سارة لم تعُد تطيق السكوت على مسلك كنّتها، فشكتها أخيراً إلى فَدو: " لقد وجّهت لبيان ركلةً على بطنها، ولولا أن سترَ الله لتسببت باسقاط حملها ". على الأثر، تصاعد صراخُ مزيّن من داخل حجرتها. ولم تكن هيَ المرة الأولى، يعمد فيها الزوجُ لتأديبها بالضرب. علاوة على سلاطة لسانها، كانت جدّ غيورة عليه بالنظر لاعتياده على السهر في خارج المنزل.
في ربيع العام التالي، لما تخلّفَ جمّو عن مظاهرة عيد العمال، تردد بين رفاقه خبرٌ يُفيد أنه رُزق بابنة. مذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، دأبَ كلّ عام على المشاركة في التظاهرة العمالية والتي كان يجري تفريقها بالقوة في غالب الأحيان. في الأثناء، صارَ يُمارس العملَ النقابيّ فضلاً عن نشاطه الحزبيّ، فأصبحَ موضع مراقبة البوليس السياسيّ؛ وبالأخص في الفترة الأخيرة، الشاهدة على تعدد الانقلابات العسكرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف


.. فرحة الفنانة أمل رزق بخطوبة ابنتها هايا كتكت وأدم العربي داخ




.. أون سيت - الأسطى حسن .. نقطة التحول في حياة الفنان فريد شوقي