الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأفكار وتغيير المجتمع

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2020 / 10 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


يقول بول هازار: " كانت أغلبية الفرنسيين تفكر كما فكر بوسويه، وبغتة فكر الفرنسيون كما فكر فولتير: إنها الثورة ".
يميز بوسويه بين الكاثوليكي والملحد، الملحد هو من كان لديه رأي، وهذا معنى الكلمة نفسها، وهذا يعني إتباع المرء لرأيه الخاص وشعوره الخاص. الكاثوليكي، أي العالمي، فهو يتبع رأي الكنيسة بلا تردد ودون أن يكون له رأي خاص. وهذا هو الفرق بين بوسيويه اللاعقل (استخدام العقل بشكل لاعقلاني) وبين فولتير العقل (استخدام العقل بشكل عقلاني).
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا فكر الفرنسيون مثل فولتير العقلاني وتركوا فكر بوسويه اللاعقلاني، أو لنقل بشكل آخر كيف يصبح فكر مفكر ما فكراً اجتماعياً؟
كما أن هناك سؤالاً آخر يطرح نفسه، وهو متى يقول مفكر عربي: " كانت أغلبية العرب تفكر كما فكر الغزالي، وبغتة فكر العرب كما فكر ابن رشد: إنها الثورة ". بمعنى كيف يمكن للعرب أن يفكروا كما فكر ابن رشد، ويصبح فكره اجتماعياً بحيث يؤدي إلى النهضة كما أدى إلى النهضة في المجتمع الأوروبي، مع العلم أن كثيراً من المفكرين العرب يفكرون بابن رشد والرشدية العربية كمنقذ من التخلف العربي؟
طبعاً إن أول ما يخطر على البال مقولة ماركس: تتحول الأفكار إلى قوة مادية حين تتغلغل بين الجماهير. لكن يبقى هناك تساؤلات: متى وكيف تتحول الأفكار إلى قوة مادية، وكيف تتغلغل بين الجماهير. وبالأساس متى وكيف تنهار أفكار مسيطرة في المجتمع (أفكار بوسيويه، الغزالي) وتحل مكانها أفكار أخرى (أفكار فولتير، ابن رشد) مع العلم أن الأفكار القديمة، حسب رأي المفكرين على اختلاف اتجاهاتهم الفكرية (انجلس، كينز) من الصعب إزالتها من عقول الناس. وفي المجتمع العربي فإن الصراع بين الأفكار التراثية (المسيطرة في الساحة الفكرية) والأفكار الحديثة (التي تحاول أن تسيطر في الساحة الفكرية)، (بين التقليد والحداثة، الأصالة والمعاصرة، القديم والجديد) هو الإشكالية الأساسية للنهضة العربية الحديثة والمعاصرة. وهذه الإشكالية ليست فكرية فقط، إنها إشكالية اجتماعية أيضاً، إشكالية قوى اجتماعية تمارس الصراع السياسي، وساهمت في تدهور المجتمع العربي إلى الحروب الدينية الطائفية.
ويمكن القول إن الشعب يفكر كما يفكر مفكر ما عندما تدخل أفكار ذلك المفكر إلى عقل الشعب، وهذا يحدث عندما يرى الشعب أن هناك ضرورة اجتماعية لذلك الفكر، ولا يرى الشعب ضرورة لذلك الفكر إلا عبر الزمن وضرورته للحياة الاجتماعية، ولكن هذا التغيير عادة لا يحدث ثورة، وحتى يتغير فكر الشعب يجب أن يكون عبر فكر قوى اجتماعية مهيمنة تقدر عبر سيطرتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية في المجتمع المدني من الهيمنة على عقل الشعب عبر ربط مصالحها بمصالح الشعب، وبالتالي الهيمنة على المجتمع السياسي. ولأن الأفكار الجديدة تحتاج إلى وقت وإلى أرضية اجتماعية لكي تدخل إلى عقل الشعب، فإن القوى التي تريد التنوير فكرياً تلجأ إلى أفكار قديمة تلبي حاجتها الاجتماعية إلى التغيير، وتعيد إنتاجها بما يخدم قضاياها الاجتماعية والفكرية المعاصرة وتطرحها في الساحة الفكرية. وهذا ما حدث في النهضة الأوروبية التي أخذت فكر ابن رشد، وأصبح الرشدية اللاتينية التي مهدت للنهضة الأوروبية. ولا يصبح الفكر اجتماعياً إلا بوجوده كفكر مهيمن في الساحة الفكرية، أي يصبح فكر الشعب، تلك الساحة الفكرية التي تضم أفكاراً متعددة هي أفكار قوى اجتماعية مهيمنة وهامشية، مما يعني أن الفكر المهيمن في الساحة الفكرية هو فكر قوى اجتماعية مهيمنة تدور في فلكه أفكار قوى أخرى غير مهيمنة.
إن الأفكار القديمة يمكن أن تدخل إلى عقل الشعب لأنها لا تصدمه مثل الأفكار الجديدة، وفي الحضارة العربية حاول الكندي وابن رشد والطهطاوي ومحمد عبده أن يأخذوا الأفكار من أين جاءت مادامت تلك الأفكار صحيحة. ولكن هذه الصيحات لم تلق تجاوباً عند القوى الاجتماعية الحاكمة، وحتى عند أكثر المفكرين العرب، وحتى عند أغلبية الشعب العربي، فالآخر إذا خالفنا في العقيدة كافر لا يجوز أخذ الأفكار منه، ومعروف موجة التكفير التي سيطرت على الساحة الفكرية العربية قديماً (محنة المعتزلة وابن رشد) وموجة التكفير التي تسيطر على الساحة الفكرية العربية الحديثة (الأصولية الدينية وتكفير صادق جلال العظم، نصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ونجيب محفوظ وسيد القمني). لقد عمد مفكرون عرب في العصر الحديث إلى تقريب فكر التنوير الأوروبي من الفكر الإسلامي (أصبحت الديمقراطية الغربية = الشورى الإسلامية _ الطهطاوي). كما لجأ مفكرون عرب آخرون إلى تقريب الفكر الإسلامي من فكر التنوير الأوروبي (أصبحت الشورى الإسلامية = الديمقراطية الغربية حتى أن العقاد يرى أن الشورى الإسلامية أشمل من الديمقراطية الغربية). كما لجأ مفكرون عرب آخرون إلى التراث العربي الإسلامي لإنتاج أفكار نهضة (د عاطف العراقي، د محمد عابد الجابري: ابن رشد، د حسن حنفي، د طيب تيزيني، حسين مروة: المعتزلة وفلاسفة العقل) حتى أن المفكرين الماركسيين أخذوا يحفرون في التراث بحثاً عن الأفكار المادية عند ابن رشد وابن خلدون. لكن الأفكار الجديدة لا تصبح اجتماعية بمجرد طرحها في الساحة الثقافية، يجب أن تترافق مع وجود قوى اجتماعية مهيمنة، كما حدث في النهضة الأوروبية، تتبني هذه الأفكار الجديدة لأنها تحقق أيديولوجيتها وتساعدها على الهيمنة تمهيداً للسيطرة. وهذا ما حدث مع البروتستانتية، فقد بدأت حركة الإصلاح عبر محاولة لوثر إصلاح الكنيسة عبر 95 نقطة علقها داخل كنيسة، وأرسل هذه النقاط الانتقادية إلى أصدقائه لمناقشتها. وقام هؤلاء الأصدقاء بطبع وتوزيع هذه الانتقادات في جميع أنحاء أوروبا خلال شهر. وهكذا أخذت انتقادات لوثر طريقها إلى الشعب رغماً عنه لأنها كانت ضرورة اجتماعية. فقد أيد الفلاحون أفكار لوثر الإصلاحية للكنيسة وحاولوا فرضها بقوة السلاح. ورفض لوثر حركة الفلاحين، لكن كان هناك أيضاً الأرستقراطية الألمانية التي أيدت بدورها أفكار لوثر لأنها تخدمها سياسياً، ولأنهم أملوا في وضع ممتلكات روما تحت سيطرتهم. وهكذا وجد لوثر نفسه، رغماً عنه، زعيم حركة تجديدية في الكنيسة، وبذلك ظهرت الكنيسة البروتستانتية المستقلة عن روما.
أما في المجتمع العربي فيبدو وكأن المفكرين العرب يحرثون في البحر لعدم وجود قوى اجتماعية مهيمنة قادرة على تبني تلك الأفكار العقلانية القديمة والحديثة كأفكار نهضة. إن القوى الاجتماعية المسيطرة على الساحة الاجتماعية العربية هي القوى الإسلامية المحافظة التي تسيطر على المجتمع المدني، والبورجوازية الكولونيالية التي تسيطر على المجتمع السياسي، والقوتان الإسلامية والكولونيالية تطرحان أفكاراً محافظة من التراث إذا لم نقل أنها مغرقة في تخلفها، ولكنها قريبة من أفكار الشعب كون الأفكار الدينية التقليدية لها جذورها في حياة الشعب، والذي له إسلامه الذي هو أقرب إلى الأساطير، فقد تعاقبت القوى المسيطرة في المجتمع العربي، تقدمية كانت أو رجعية، على تغذيته بتلك الأفكار المحافظة وحتى الرجعية لأنها كانت تخدم سيطرتها. ونلاحظ أن القوى الإسلامية المحافظة بدأت تتجه إلى ميدان الاقتصاد (ظاهرة البنوك الإسلامية) في طريقها إلى السيطرة السياسية، ولكن التجربة لن تنجح كما حصل في أوروبا (البروتستانتية والكالفينية التي شجعت العمل الإنتاجي)، فالإسلام هو في النهاية دين يقدس العمل التجاري، ويحتقر العمل اليدوي الصناعي حسب الماوردي.
ولا بد من القول إن الأفكار، رغم أنها ذاتية، تعبر عن علاقات اجتماعية، علاقات بين قوى اجتماعية، وكما يقول مانهايم " فقط حين يكون الحراك الأفقي _ الانتقال من مركز لآخر أو من بلد لآخر دون تغيير في المكانة الاجتماعية _ مصحوباً بحراك عمودي عنيف، أي مصحوباً بحركة سريعة بين الطبقات الاجتماعية صعوداً أو هبوطاً، حينذاك يهتز إيمان المرء بالصحة العامة والأبدية لأشكاله الفكرية الخاصة. الحراك العمودي هو العامل الحاسم في جعل الأشخاص يفقدون يقينهم ويتشككون في نظرتهم التقليدية إلى الحياة ". إن الأيديولوجيات أفكار قوى اجتماعية تعارض أفكار قوى اجتماعية أخرى، أيديولوجيا طبقة تعارض أيديولوجيا طبقة أخرى، وأيديولوجيا الطبقة المهيمنة يمكن أن تحول أحلام هذه الطبقة الاجتماعية إلى واقع، وعلى مفكري تلك الطبقة المهيمنة العضويين، حسب غرامشي، أن يقدروا على قراءة المستقبل من مظاهر التحولات الكامنة في الحاضر، وكما يقول هيغل: " إن المبدأ الجديد، من جراء مناقضته للمبدأ القائم، يبدو مبدأ هداماً. وللسبب نفسه يبدو أن الأبطال يعتدون على القوانين، وأنه لمحكوم عليهم، فردياً، بالفناء، لكن مبدأهم يواصل فعله، وإن يكن بصورة أخرى "، وهذا المبدأ الجديد، أفكار الطبقة المهيمنة، سوف يستمر، عبر مثقفيها العضويين، في البنية الفوقية، حتى يتحول إلى فكر اجتماعي، ويساهم في سيطرة تلك الطبقة المهيمنة التي تقوم، كطبقة، بالعمل الاقتصادي _ التنمية الاقتصادية في المجتمع المدني من أجل مصلحتها بالدرجة الأولى، ولكنها من خلال مصلحتها تخدم مصلحة المجتمع، وهذا العمل الاقتصادي الصناعي للطبقة المهيمنة هو أساس الثورة أو النهضة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مدير الاستخبارات الأميركية: أوكرانيا قد تضطر للاستسلام أمام 


.. انفجارات وإصابات جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب




.. مسعفون في طولكرم: جنود الاحتلال هاجمونا ومنعونا من مساعدة ال


.. القيادة الوسطى الأمريكية: لم تقم الولايات المتحدة اليوم بشن




.. اعتصام في مدينة يوتبوري السويدية ضد شركة صناعات عسكرية نصرة