الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جمال عبد الناصر ..غصة وذكرى وضريح

جواد بولس

2020 / 10 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


جمال عبد الناصر .. غصة وذكرى وضريح


كان أيلول قبل خمسين عامًا شهر البكاء والندم، ففيه دفع الفلسطينيون ثمن دخولهم في إغواءات المغامرة الأولى، وفيه بكت الامة رحيل من أشعل حلم الوحدة المستحيلة. خمسون عامًا مرت على وفاة جمال عبد الناصر والعرب ما زالوا يعيشون على أنوف رماحهم التي ورثوها من عصور الرمل، وفي فيء عباءاتهم الرثة؛ فما يرضي زيدهم يغضب عمرهم، تماما كما نشهد ونقرأ في هذه الايام وكلما كانت تستحضر ذكرى وفاة جمال "حبيب الملايين".

كنا طلابًا في السنة الاولى في مدرسة "يني الثانوية" عندما شاع نبأ موت جمال عبد الناصر . معظم تفاصيل تلك الايام صارت نثارًا في عالم النسيان؛ لكنني ما زلت أتذكر كيف تحوّل لون السماء فوق قريتي إلى كحلي، أو أقرب إلى دكنة وجه من مات خنقًا. في الجو ساد صمت رهيب، ما زلت أسمع صداه حتى هذه اللحظات. وقفت مع اترابي واذكر كيف أحسست، ولم أعرف وقتها لماذا، بدهشة مَن انشقت ألارض تحت قدميه فصارت هاويته كالقدر المحتوم .

لم أكن مسيّسًا ولا من بيت نشطاء حزبيين؛ فوالديّ كانا معلمين ينتميان لجيل آمن بمهنة التعليم واعتبرها رسالة مقدسة، فمارسوها لينشئوا أجيالًا حصينة ونقية، ولكي ينقذوا الناجين من لعنة النكبة والتهجير ويخلصوهم من مشاعر الذل والهزيمة؛ زرعوا فينا، بحنكة الحكماء والصبورين، بذور الكرامة والشغف الكبير للمعرفة وكنز القناعة والاكتفاء إلا من كل ما يسلب حرياتنا ويجوّف أرواحنا ويعطل عقولنا. علّمونا كيف نكره الظلم والظالمين وكيف نحب الخير والغير والصالحين؛ ففي ذلك الزمن ذي اللونين عشنا في عالمين وحسب: واحد أسود، يلفه ظلام لعين ويحكمه الاشرار والعابثون، وآخر أبيض من نور مبين ويديره الطيبون والخيرون.

لم أكن منظمًا في اي حزب، لكنني كنت أبن والديّ، وفرخًا لجيل احتضنته قرية كانت تزودنا بأشرعة من طيب وريح؛ فكبرنا في حضنها وعلّمتنا، كفر ياسيف الجليلية، كما علّمت من قبلنا مَن جاوروا النسور والقمر، نعمة التمرد على السائد الآسن وعلى طقوس الخنوع؛ ودرّبتنا كما تدرّب الام صغارها على فنون العيش والبقاء، وعلى الفوارق بين علم البيان وفنون الخطابة، وبين تشييد البنيان واصول الزرع والحصاد والحطابة.

انطلقنا من صفوفنا الخشبية نحو ساحة القرية القريبة، وسرنا، طلابًا وكادحين وفلاحين، وراء "كبارنا" في جنازة لم نكن نعرف وقتها أن المشيّع فيها ليس "أناناتنا" الفردية والجمعية الثاكلة وحسب، بل، هكذا تبين بعد انجلاء الغيم والغبار، اننا دفنّا، ومعنا معظم العرب "عنقاءنا"وذلك رغم اقتناع البعض بأن ليس كل ألاساطير محض خيال!

ما زالت الذكرى تثير في نفسي ونفوس الكثيرين حنينًا وطربًا دفينين، فبدونهما تصبح الخيبات قواقع لليأس ويفقد الانسان "نونه" ولا يبقى منه إلّا "الاسا" لعنة. ولكن بين تنفس الذكرى كنسمة في حرير الحنين، وبين محاولات البعض باقناعنا بان الناصرية مشروع حي ونابض ومتقدم على خطى ذلك المارد العربي الذي نمنا على حفاف جفونه الثائرة، يوجد فرق كبير وخلاف يتوجب علينا التوقف عنده، اذا ما اردنا ان نبقى ابناء الحياة ونعبّد من اجلها السبيلا مهما كان عسيرا.

قرأت ما كتبه "الناصريون" وشعرت بجمراتهم المتقدة في صدورهم، وقرأت ايضًا لمن يمضغون الناصرية كالقات، ادعاءً ووهمًا ومزايدات، وأثارني بعض من يهاجمون الرجل وزمانه وكأنهم على ميعاد ثأر معه. لجميع من كتب وسيكتب الحق بابداء رأيه حرًا، ولكن من بين ما قرأت لفت نظري اعتراف النائب أيمن عودة، كما نشره على صفحته وقال: "لم يؤثر بمشاعري أحد مثل جمال عبد الناصر حتى هذا اليوم، فخمسون عامًا على وفاته وما زال الأكثر حياةً". حاولت أن افهم قصده من وراء هذا الاعتراف المثير، لكنني تهت في ثناياه ولم يعفني عبء الالتباس؛ ورغم اقتناعي بان كلام النائب عوده، رغم تأويله المحتمل وابعاده السياسية الكبيرة، يندرج في باب الحنين واستذكار موجع لحلم كان قد وئد، سيتيح، كلامه، فرصًا لمن يعارض طروحاته الواردة في سلسلة مقالاته الاخيرة التي حملت عنوان" نحو منهجية مثابرة لشراكة يهودية عربية مؤثرة" خاصة اذا ذكرّوه باهم ما بقي عالقًا في عقول العامة من موروث ناصري تختزله مقولته المجلجلة "ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" .

نحن بحاجة الى وضوح في رؤى القيادات المحلية السياسية، خاصة وفضاءاتنا العامة وشاشات حواسيبنا وهواتفنا تعج بما يغرق الناس في متاهات وترهات ومزايدات وترددات من كل الجهات والمنابر؛ فمن يقرأ ما كتب عن جمال عبدالناصر، معه وضده، يستتنج ان هنالك بلبة كبيرة بين المعلقين والمعقبين وهنالك ايضًا قطيعة واضحة بين هذه الاجيال وبين زمن الناصرية الذهبي؛ ويستنتج ايضًا ان معظم من عبّروا عن مواقفهم كانوا قد تلقنوها أو هندسوها بتأثير تنظيماتهم الحزبية وحركاتهم الدينية والسياسية، ومن دون محاولة ربط مواقفهم بواقعنا الحالي، نحن المواطنين العرب في اسرائيل، أو إجابتهم على السؤال الاهم : ما دور "الناصرية" اليوم وعلاقتها ببرامجنا السياسية وبوسائل نضالنا ؟ وكيف يمكن تجنيدها في مواجهة المخططات التي ترسمها حكومة اسرائيل وتنوي تنفيذها بحقنا ؟ جميع هذه الاسئلة بالنسبة لي هي اسئلة استنكارية، اما من يحسبها غير ذلك فعليه رسم الاجابة.

ما زلت اذكر كيف بكيت في أول زيارة لي الى مصر؛ فعندما بدأت مباني القاهرة تضحك امامنا كلما اقترب التاكسي من مشارفها، شعرت انني ادخل الجنة.. اضعت قلبي، كما اضاعه "عزيزها"، وكدت مثله "من بهجة اللقيا ونشوتها ، أرى الدُنا أيكةً والدهر بستانا". واذكر ايضًا أننا طلبنا، قبل الوصول الى الفندق، ان نزور ضريح الزعيم جمال عبد الناصر . تسمّرت في حضن الهيية المدفونة. حضرتني مشاهد الجنازة التي اقمناها في كفر ياسيف والاغاني التي حفظناها في "صاحب الصورة" ورددناها في شبابنا اسوة باغاني العشاق وتباريحهم من حب وجوى؛ وسمعنا صوت نزار قباني يتمتم: "قتلناك يا أخر الانبياء قتلناك" .

أكلتنا الحسرة ونحن امام القبر الذي يشهد على جهل امة وعلى ضياع احلامها، ويبكي على رجل كاد بايمانه وبعزيمته ان يقبض على شرايين القدر، ويقدم دماءه أزاهير لشعوب أحبها حرة، لكنها نخت تحت أوزار جهلها وعطلها الخنوع، حتى باتت لا تفرق بين أطواق تدمي رقابها ومعاصمها وبين أطواق النجاة والنرجس.

أحببنا ناصرنا بعيدًا عن التفاصيل الخاصة في سنوات حكمه والتي بسببها اختلف ويختلف الفرقاء عليه ومعه؛ وسنبقى نحبه كعطر لوردة خالدة، فهو القائد الشجاع الذي اراد ان يصهر المعجزات كي يقهر الاعداء ويزرع في بلده المستقبل الآمن؛ ولأنه ابن الحتة، المؤنس الاسمر، الذي جاء مؤمنًا بالانسان العربي وبعزيمته، ومصممًا على بناء دولة عصرية يحكمها القانون وبأدواته، أو كما قال فيه احمد فؤاد نجم "فلاح قليل الحيا، اذا الكلاب سابت ، ولا يطاطيش للعدا، اذا السهام صابت، عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت، وعاش ومات وسطنا، على طبعنا ثابت .."

زرت بعدها مصر عدة مرات ولم اعد لزيارة ضريح عبد الناصر؛ فمصر التي زرناها بعد المرة الاولى لم تعد "تلك التي في خاطري"، والضريح صار معلمًا سياحيًا وشهادة على قساوة القدر الذي اراد ناصر ان يقدمه لابناء شعبه ضمانة لحريتهم ولكرامتهم فرفضوه وبقوا كما كانوا من ايام "مينا لايام عمرو" ومن أيام عمرو الى ايام سلطان ..

وتبقى الناصرية غصة وبرقة وسرابًا ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انهيار حركة التحرر الوطني
فؤاد النمري ( 2020 / 10 / 2 - 19:56 )
ليس مصادفة أن يكون رحيل عبد الناصر الاشارة الكبرى لانهيار حركة التحرر الوطني وعبد الناصر كان زعيمها العالمي
ليت مؤرغينا يعدون الانقلابات العسكرية الرجعية التي وقعت في الدول المستقلة حديثاً في الستينيات ومنها انقلاب أنور السادات على تراث غبد الناصر
وليت المحللين السياسيين يشيرون إلى السبب لكل تلك الإنقلابات !!


2 - حقيقه الامر
على سالم ( 2020 / 10 / 3 - 06:30 )
لاشك ان موضوع الزعيم جمال عبد الناصر شائك ومعقد , يجب اولا ان نعقد مقارنه بين حقبه عبد الناصر والحقبه التى قبله , من المعلوم جيدا ان العصر الذهبى لمصر كان اثناء فتره الملكيه قبل الثوره المشؤومه , كانت مصر تعيش ازهى عصورها حيث كانت توجد حياه برلمانيه صحيه وكان المصريين يمارسوا حياتهم السياسيه بشكل طبيعى وفى ظل مناخ ديمقراطى وحريه وشفافيه , الذى كان يحكم هو البرلمان وبعيد عن هيمنه الملك , كانت توجد حريه تعبير ورأى وبدون اى خوف او ارهاب , الذى حدث بعد ذلك ان قام عصابه من صغار الضباط الجهله الفاسدين الساديين عديمى الاخلاق والشرف بقلب نظام الحكم , كانوا من قاع المجتمع المصرى , اصبحت البلد سجن كبير ومعتقل لاى فرد يفتح فمه ويتم الزج به فى السجن حيث التعذيب والامتهان والضرب , تفرغ هؤلاء الضباط الفاسدين الى قهر الشعب واذلاله وبدأوا حمله كبيره لسرقه القصور الملكيه والاراضى والموارد , كانوا عصابه من المجرمين واللصوص والقتله والشبيحه الانجاس , كل هذا كان يحدث بتوجيه وارشاد الديكتاتور عبد الناصر والذى كان مستبد جاهل ومريض بجنون العظمه والان مصر دفعت الثمن باهظا


3 - مصر الملكية
فؤاد النمري ( 2020 / 10 / 3 - 12:05 )
ما بين ىالعام 47 والعام 52 كنت شغوفا بالسينما المصرية حيث كنت أشاهد القصور الفارهة والرجال الأنيقين والفتيات الجميلات وحتى الخدم كانوا بلباس حسن

في العام 54 زرت المعرض المصري في دمشق وقد أحبطني إحباطا شديدا إذ كان المعرض المصري أفقر معرض بين خمسين معرضاً مشاركا
ذلك ما عكسته ديموقراطية الملك


4 - حقيقة الامر كما في التعليق 2
محمد البدري ( 2020 / 10 / 3 - 13:01 )
ها قد جاء علي سالم في تعليقه 2 بما فاتك يا عزيزي جواد بولس
لم تعرف مصر المجتمع الطبقي الا في الخمسين سنة السابقة علي انقلاب العسكر في 52
المجتمع الطبقي هو الوحيد الذي يؤهل افرادة للخروج من ظلمات الجهل والاستغلال فماركس لم يظهر الا في وجود مجتمع طبقي تحددت فيه ملامح العلاقات، وكتبت النظريات تماما مثلما فعل نيوتن فيزيائيا. اما بعدها فقد اصبحت مصر مثل المستنقع البشري يعج بطحالب وبكتريا ونباتات لا طائل في الحديث معها الا بايات الله البينات اي الخرافة التي هو منجز العرب الوحيد ضمن باقي الحضارات من قبل ومن بعد.
وشهد شاهد من غير اهلها، شاهد سيكوستاليني في التعليق 3 فهو لم يجد شيئا في معرض دمشق ينتمي لا الي االبرجوازية صاحبة صناعة السينما التي اعجب بها ولا من البروليتاريا التي لم يعد يهتم بها بقدر اهتمامه بستالين. فعبد الناصر شانه شأن ستالين قضي كلاهما علي الاخضر واليابس

اخر الافلام

.. وثائقي -آشلي آند ماديسون-: ماذا حدث بعد قرصنة موقع المواعدة


.. كاليدونيا الجديدة: السلطات الفرنسية تبدأ -عملية كبيرة- للسيط




.. المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هاغاري يعلن مقتل جنديين


.. مقطع مؤثر لأب يتحدث مع طفله الذي استشهد بقصف مدفعي على مخيم




.. واصف عريقات: الجندي الإسرائيلي لا يقاتل بل يستخدم المدفعيات