الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل تبحث إسرائيل عن حسن نصر الله... فلسطيني؟

صبحي حديدي

2006 / 7 / 8
القضية الفلسطينية


المعلّق الإسرائيلي ألوف بِنْ كسر الصمت، أو لعله باح بالمسكوت عنه في صفوف الساسة وأجهزة الأمن والقادة العسكريين الإسرائيليين، حين عقد مقارنة افتراضية بين صاروخ فلسطيني من طراز "القسام"، محمّل بمواد انفجارية بدائية ولا يتجاوز مداه 12 كم، يسقط على سيدروت أو عسقلان ويتسبب في أضرار طفيفة لا تتجاوز جرح مستوطن أو حفر طريق إسفلتي؛ وصاروخ سوري من طراز "سكود"، محمّل برأس كيماوي، يمكن أن يسقط على تل أبيب ويوقع مئات الإصابات. وتوصّل بن إلى خلاصة قد تبدو بالغة الغرابة، للوهلة الأولى فقط: أنّ الصاروخ الأوّل، "القسام" هو الأشدّ خطورة. لماذا؟ ببساطة، لأنّ الصاروخ السوري لن ينطلق في أية حال (إذ يعرف بشار الأسد أنّ عواقب إطلاقه سوف تعني قيام مقاتلات إسرائيلية من طراز F-16 بدكّ مواقع السلطة السورية أينما كانت، بدءاً من القصور الرئاسية، وربما إسقاط النظام)، في حين أنّ المقاتلات ذاتها لا تستطيع القيام بمهامّ مماثلة في غزّة ومحيطها، وأنّ العلاج الذي سيُطرح على جدول الأعمال (أي إعادة احتلال القطاع) اسوأ من العلّة ذاتها.
ليست المشكلة، إذاً، في التكنولوجيا التدميرية للصاروخ أو الأمدية التي يمكن أن يبلغها، بل في الأصابع التي تضغط على زناد الإطلاق. وبهذا المعنى، يستخلص بن، فإنّ بشار الأسد أرحم للدولة العبرية من فتية كتائب عزّ الدين القسّام، وصاروخه الفتاك أقلّ وطأة من صواريخ الهواة التي يصنّعونها بموادّ بدائية وتكنولوجيا فقيرة. استطراداً، يعتبر بن أنّ الدولة العبرية بحاجة إلى حسن نصر الله، فلسطيني غزّاوي حمساوي، يضبط صواريخ القسام كما ضبط الشيخ نصر الله صواريخ الكاتيوشا في صفوف "حزب الله" جنوب لبنان.
في صياغة أخرى، من عندنا هذه المرّة، يريد بن وضع صواريخ "القسام" قيد السياسة، وليس وضع السياسة رهينة تلك الصواريخ، على غرار السياسة التي اعتمدها نصر الله، وفرضها ونفّذها "حزب الله"، بعد ـ ولكن أيضاً خلال ـ سنوات الإحتلال الإسرائيلي للجنوب: سلاح واحد/ قانون واحد. أكثر من هذا، يعتبر بن أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000 ليس مردّه جرأة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، فحسب؛ بل يدين كذلك لسياسة نصر الله في فرض وحدة القرار السياسي ووحدة السلاح، سواء بسواء.
ويكتب بن، في مقال بعنوان "نحن نحتاج إلى نصر الله آخر"، نشرته صحيفة "هآرتس الإسرائيلية يوم أمس: "نصر الله لا يكره إسرائيل والصهيونية أقلّ من قادة حماس، وخاطفي شاليت، وفصائل القسام. ولكنه، على نقيض منهم، يمتلك السيطرة ويتحلى بالمسؤولية، ولهذا فإنّ التكهن بسلوكه ممكن عقلانياً ومنطقياً. وهذا، في الظروف الراهنة، هو الوضع الأفضل لنا: إنّ حزب الله يقوم بالحفاظ على الهدوء في الجليل على نحو أفضل بكثير مما فعل جيش لبنان الجنوبي الذي كان موالياً لإسرائيل". ولأنه لا يوجد في الأراضي الفلسطينية المحتلة نصر الله فلسطيني، يتابع بن، كما أنّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس لا يبدو زعيماً نافذاً مفوّضاً بقدر ما يشبه "مثقفاً معذّباً مؤيداً للمفاوضات الدبلوماسية"، وحكومة "حماس" لا تملك السيطرة على السلاح، أو لا ترغب في ذلك أصلاً... فإنّ صواريخ "القسّام" أخطر من الكاتيوشا أيضاً!
والحال أنّ هذه المقاربة لا تصدر اليوم عن فراغ، ولا تهبط من سماء التنظير السياسي الصرف. وأمس، بعد إعادة احتلال ثلاث مستوطنات سبق لجيش الإحتلال الإسرائيلي أن أخلاها قبل نحو عام بقرار من رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، بات من الواضح أنّ حكومة إيهود أولمرت تتكيء على قضية الجندي المحتجز لكي تقفز منها إلى تنفيذ غرض تكتيكي واستراتيجي في آن معاً، هو تشكيل مناطق عازلة شمال قطاع غزّة، تحول دون وصول صواريخ القسام إلى عمق، أو حتى إلى تخوم، سديروت وعسقلان داخل ما تسمّيه الدولة العبرية "الحزام الأمني". لكنّ سقوط "قسام" جديد في قلب عسقلان، بعد احتلال المستوطنات الثلاث وتوسيع رقعة المناطق العازلة، أعاد العملية بأسرها إلى السؤال الامّ: هل يتوجّب إعادة احتلال غزّة والعودة إلى المربع الأوّل الجهنمي الذي غادره شارون على عجل وبلا ندم؟ وأيّ ثمن فادح يتوجب على الدولة العبرية أن تسدده لقاء هذه العودة ـ الردّة؟
الصحافة الإسرائيلية عكست قلقاً واضحاً في صفوف حكومة أولمرت (وهي القائمة جوهرياً على ائتلاف بين يمين الوسط كما تمثّله "كاديما"، ويسار الوسط كما يطمح حزب العمل إلى تمثيله) تجاه قرار كهذا، سبق للشارع الإسرائيلي أن باركه على نحو مدهش العاقبة: أنه أسفر عن تفتيت الليكود التاريخي حين غادره شارون وأسس حزبه الخاص. وهكذا ظهر إلى العلن اعتراض وزير العدل حاييم رامون (ولكن ليس وزير الدفاع، وزعيم حزب العمل، عمير بيرتس!) على إعادة احتلال غزة، لأنه "يفضل احتمال مخاطر سقوط القسام أكثر من احتمال فكرة العودة لاحتلال القطاع". قلق مماثل عكسته الإدارة الأمريكية، غمغمة أو صراحة، كما في إعلان وزيرة الخارجية كوندوليسا رايس أنها طلبت من أولمرت "ضبط النفس وتجنب العودة لاحتلال مناطق في القطاع"، ملوّحة بأنّ المناخات الإقليمية الراهنة، التي قد تكون حرجة للولايات المتحدة بسبب من عوامل عديدة ليس العراق وحده في عدادها، لا تسمح بأيّ تدهور جديد.
غير أنّ المعضلة، لكي نعود إلى مقاربة ألوف بِنْ على هذه الخلفية بالذات، أي خيار العودة إلى احتلال غزّة بوصفه أمرّ من سقوط صواريخ القسام، ليست في تشريح الفضائل التي يمكن أن تنجم عن توفّر حسن نصر الله فلسطيني، أو انقلاب أبو مازن إلى مستبدّ على النمط الشائع في معظم الانظمة العربية (كما يبدو أنّ بِنْ يتمنى ضمناً!)، أو سيطرة "حماس" وسائر الفصائل والمنظمات على سلاح أعضائها وأنصارها. إنها، قبل هذا كلّه، وأكثر من أيّ اعتبارات أخرى، مشكلة إسرائيل مع ذاتها، في مرآة ذاتها، إزاء معضلات كبرى شائكة تخصّ الوجود والهوية والروح والسيكولوجية الجمعية، ثمّ معضلات إسرائيل مع الفلسطينيين في ضوء تلك الإعتبارات، أو بالأحرى بسبب من ضغوطاتها وعقابيلها وعواقبها.
وذات يوم غير بعيد، عشية انتخاب أرييل شارون رئيساً للوزراء للمرّة الأولى (وتلك، لمَن ينسى، برهة فارقة حاسمة في تاريخ انحطاط صندوق الإقتراع الإسرائيلي إلى حضيض فاشيّ بربري عسكرتاري)، تذكّر المؤرّخ الإسرائيلي ميرون بنفنستي أنّ العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي كانت حَلَقية على الدوام (بمعنى أنها تعيد إنتاج نفسها ضمن حلقات متماثلة من الثوابت والثوابت المضادّة)، والمطلوب اليوم تحويلها إلى علاقة خيطية تسمح بالإنتقال من طور إلى طور (بمعنى نسيان الماضي، في تأويل آخر). ولم يطل الوقت حتى اضطرّ بنفنستي نفسه إلى الإعتراض العلني على استمرار جيش الإحتلال في تخريب بنى السلطة الوطنية الفلسطينية والسعي إلى إهانة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات شخصياً، فكتب يقول: "لماذا لا تُضمّ إلى كورس الخبراء الأمنيين، المطالبين بإهانة الزعيم الفلسطيني وبإزالته من الوجود، تلك الأصوات الأخرى التي تعرف حقّ المعرفة أن غيابه سوف يخلق حالة فوضى تجعل الوضع الراهن يبدو أشبه بالنعيم"؟
كانت واحدة من أبسط الإجابات على سؤال بنفنستي تلك التي تقول إنّ ذاكرة الإحتلال أقصر من أن تدرج الدروس القاسية على كثرتها، وأكثر غطرسة من أنّ تقرّ بأنّ الحجر قادر علي إيقاع هزيمة سياسية بالدبابة (وهكذا، استطراداً، قد تكون حال صواريخ "القسام"، ليس بالقياس إلى الـ "سكود" والـ "كاتيوشا" فقط، بل بالمقارنة مع قاذفات الـ F-16 كذلك!). من جانب آخر اعتبر بنفنستي أنّ الحكاية ليست حرب شارون ضدّ الإرهاب، بل حربه الشخصية الفردية ضدّ "كارثة أوسلو" كما اعتاد شارون أن يردّد. كذلك فإنها ليست حرباً على بنود الإتفاقيات، بل هي الحرب ذاتها التي ظلّ شارون يخوضها ضدّ الإقرار بأنّ منظمة التحرير الفلسطينية "حركة وطنية تمثّل الشعب الفلسطيني". وفي الخلاصة الطبيعية، لم يجد بنفنستي بدّاً من التوقف عند ما أسماه "الكارثة الإسرائيلية"، المتمثّلة في ضخّ نزوعات شارون الإيديولوجية في كلّ مناحي الحياة الإسرائيلية، السياسية والأمنية والإجتماعية والثقافية، فكتب يقول: "حين سيدوّن المؤرّخ وقائع الكارثة ذات يوم، سوف يُتاح له على الأقلّ أن يضع هامشاً أسفل الصفحة يقتبس فيه مراثي أنبياء القيامة اليهود، ممّن ساروا على درب الكارثة".
بعد أشهر معدودات قررت الحكومة الإسرائيلية، وليس الجنرال أرييل شارون وحده، الذهاب إلى الحدود القصوى في المواجهة بين الإسرائيلي والفلسطيني، بين محتلّ الأرض وصاحب الأرض، بين القوّة الكولونيالية والمقاومة الوطنية، وبين قاذفة الـ F-16 والحزام الناسف. كانت تلك، عند الفلسطيني أساساً، هي الجولات الأحدث في الحرب الطويلة، وكانت بمثابة نتائج إضافية للعام 1948. ولكنها، في الآن ذاته، كانت حرباً على الإسرائيليين، تماماً على النحو الذي استبصره مستوطن إسرائيلي حين هتف كمَن يكتشف جديداً مذهلاً: "هل نعيش عام 1948 من جديد"؟ ولم تكن سلسلة التطوّرات اللاحقة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (من اغتيال إسحق رابين وانتخاب بنيامين نتنياهو ثمّ تحقير بيريس ونتنياهو وباراك انتخابياً، إلى تكريم شارون بالوسيلة الديمقراطية ذاتها، وصولاً إلى صعود "كاديما" باعتباره الكيمياء السحرية التي توحّد يمين الوسط ويسار الوسط... ضدّ الفلسطينيين، وبالتالي ضدّ فكرة السلام في ذاتها)، إلا سبيل الإسرائيليين في التأكيد على أن نسبة ساحقة منهم لم تخرج من الشرنقة مرّة واحدة، ولا يبدو أنها بصدد ذلك في أيّ يوم قريب.
وفي آذار (مارس) 2004، حين اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين، كتب ألوف بِن نفسه مقالة تعتمد السخرية السوداء (ممّن؟ من إسرائيل؟ من الأنظمة العربية؟ من العالم بأسره؟)، أثنى فيها على حكومة شارون لأنها لم تخدع الجمهور كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش أو رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في أطوار الإعداد لاجتياح العراق وتضخيم ملفات أسلحة الدمار الشامل. شارون قالها للجميع بصراحة: سوف نغتال الشيخ ياسين. هكذا قال أيضاً وزير دفاعه شاؤل موفاز. بل هكذا فعل جيش الإحتلال الإسرائيلي عملياً في أيلول (سبتمبر) 2003 خلال محاولة اغتيال أولى كان مصيرها الفشل.
آنذاك، ساعة الاغتيال، أين كانت السياسة في "إسرائيل الأخرى"، إذا صحّ وجود مسمّى لهذه التسمية؟ كانت "المعارضة" في حال من التواطؤ الصامت (يشبه، للإنصاف، تواطؤ الأنظمة العربية والمجتمع الدولي!). شمعون بيريس كان يواصل الحلم بالعودة إلى وزارة الخارجية؛ ويوسي بيلين كان يحتفل بانتخابه رئيساً لحزب "ياحاد" الجديد (اليساري!)، دون تقديم أيّ عزاء إلى وثيقة جنيف أو شريكه فيها ياسر عبد ربه؛ ويوسي ساريد، مثل شولاميت ألوني وتسعة أعشار جماعة "ميريتس"، كانوا في الغيبوبة اذاتها. لماذا لم يبادروا إلى إلقاء الخطب العاصفة حول مخاطر الاغتيال قبل وقوعه، سأل ألوف بن. لماذا لم يطلبوا، بوصفهم وجوه "المعارضة"، اجتماعاً عاجلاً مع شارون لإقناعه بالعدول عن هذا الاغتيال المعلَن؟ وأين كانت قوى السلام الإسرائيلية، ومنظمة الضباط المتمردين الرافضين لتنفيذ عمليات الاغتيال، وسواها، وسواها؟
كانت، وما تزال تمكث، في قلب الشرنقة القديمة إياها، حيث يستطيب الإسرائيلي عقدة الضحية/ الجلاد والمحاصَر/ المحاصِر في آن معاً. هيهات، إذاً، أن يفلح أيّ حسن نصر الله فلسطيني في إخراجه إلى عراء السلام!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بيع دراجة استخدمها الرئيس الفرنسي السابق لزيارة عشيقته


.. المتحدث باسم الصليب الأحمر للجزيرة: نظام الرعاية الصحية بغزة




.. قصف إسرائيلي يشعل النيران بمخيم في رفح ويصيب الأهالي بحروق


.. بالخريطة التفاعلية.. توضيح لمنطقة مجزرة رفح التي ادعى جيش ال




.. هيئة البث الإسرائيلية: المنظومة الأمنية قد تتعامل مع طلب حما