الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
أسرار الشاعر الكوني (قراءة في ديوان الشاعر طه عدنان )
عبدالقادر حميدة
2006 / 7 / 9قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
كل المواسم تبتدئ بالشعر ، و تجعل من العذوبة و الأماني شركا يسقط فيه المقتربون من الضوء ، ربما من بساطة هذا المشهد ، جاء الشعراء .. و من اللاصبر المتجذر في الإنسان ، جاء التساقط المتتالي المعتم و المغطى بالبهارات ، و جاء الإغراء الجاذب إلى تلك المدن المثيرة للرغبة ، و جاء الإغواء و ربما الجنون .. ألم يقل الشاعر الجنوبي محمد علي شمس الدين في " كتاب الطواف " : ( لنعترف أن للجنون جاذبية .. كثيرا ما غرف منها الإبداع .. ) ص 261 .. تلك هي الحفرة التي حفرها لي الشاعر المغربي الصديق طه عدنان ، حين فاجأني بإهداء انزياحي ( الأخ المبدع عبدالقادر حميدة .. قال هي رؤاي أتوسد عليها .. و أهش بها على أرقي و لي فيها عناكب أخرى .. مع خالص الود .. طه عدنان .. بروكسل في 10 – 05 – 2005 ) .. و سنرى للرقم خمسة حضورا فاحتفظ به أخي القارئ .. و كانت هذه الكلمات على بياض الورقة الأولى من مجموعته الشعرية ( و لي فيها عناكب أخرى ) الصادرة ضمن منشورات وزارة الثقافة بالمغرب سلسلة الكتاب الأول ، في إطار الرباط عاصمة الثقافة العربية عام 2003 .. و قد جاءت حروف عنوانها زرقاء على غلاف أسود .. و قد تم طبعها في أفريل 2003 ..
فخ ما لبثت أن سقطت في شركه ، و أنا أستلذ السير عبر محطاته ، والها .. غائبا .. مأخوذا .. مصدقا لهذه الكذبة الجميلة في أبريل .. التي أطلقها صديق يتلذذ بالتدفء بما يحمله من زاد شرقي في صقيع غربي ، و بالتبرد أحيانا بما قد يجلبه من هناك إلى هذا الجنوب .. الذي لا تؤثثه إلا الذكريات هناك .. فهاهو يشهر الرقم خمسة في كل العيون المبحلقة ، خمسة محطات في هذه المجموعة ، أصابع يد تحمل عصا هذه المجموعة .. و تهش بها .. و لها و فيها أيضا عناكب أخرى .. منها ما في ( القصيدة الكونية .. مسودة أولى ) .. و هي الأصبع الأولى :
إنما كالآخرين
تجذبني اللعبة إلى غنجها
كالآخرين
تراودني الكتابة عن يميني
و عن خدر الارتخاء فوق سرير العاشرة ص 5
أليس غريبا أن تبدأ القصائد الخمسة من الصفحة الخامسة في الكتاب ؟ ..
إنه طه عدنان الشاعر المغربي الشاب المقيم في بروكسل و توأم الشاعر ياسين عدنان ، أيهما يعرف الآخر ، و كلاهما معرفة ، و أيهما يجتذب جنية الكلمات من الآخر ، لا أحد .. فلكل واحد منهما طريقته ، و لحظاته ، و نبرته :
أعفو عن لحيتي و أفكاري
أترك شعري منكوشا كقصيدة نثر
أقطب جبيني مبالغة في التركيز
و أقوس حاجبي افتعالا للجدية
ها إني أبدو مهموما
و غامضا كشاعر كوني ( القصيدة الكونية ص5 )
من هذه اللحظة تبدأ القصائد في التتابع ، كأنه هيأ نفسه لمحاورة ( اليد الثالثة ) بتعبير الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس ، ليترك لها الكلام و الفعل و التصرف ، أو كأن الشاعر ضغط جهاز العرض و تركه يعرض ما تفرضه اللحظات من مشاهد ، ولقطات .. إنها المحطات الخمسة التي تجلت فيما بعد ( القصيدة الكونية " مسودة أولى " – وئيدا أحفر في جليد حي – I LOVE YOU - مرثية إلى أمادو ديالو – الشاشة عليكم ) .. إنها قصائد تغرف من تأمل طويل لهم كتابي أو بتعبير الشاعر محمد بنيس ( دائما هذا المرافق الهامس بما يعين على السير الصحيح ) .. " تأمل حالة كتابية شخصية لا تتنكر لمآزقها ، في زمن بلا جدران .. " ( كتابة المحو ص 7 ) ..لكن ما يبهرك حقا هو جمال التجريب الذي يقول الحرية بلغات مختلفة ، إنه طرق خفيف لأبوابها ، إنه الدنو من العوالم الآسرة ، هناك في مكان ما ، يقترب منه الشعراء دائما ..
لذة التجريب عند طه عدنان تجعلك تستعذب السير في محطات مجموعته هذه ، لحظة تمرغه أمام ضوء الشاشة ليكتب قصيدة أو جزء منها ، إنها ذات اللحظة الخالدة التي عاناها كل الشعراء ، فها هو جده الأكبر جرير يتمرغ في الصحراء و يتلوى في الرمضاء من أجل بيت واحد .. و لم تختلف الأمكنة كثيرا ، و لم تختلف اللحظات ، و لا المعاناة ، و لا الصدق ، و لا الاعتراف و لا التشظي .. و لم يتغير شيء في جوهره .. و هذه القصيدة الحديثة ابنة شرعية للأولى .. من أب هو دائما ذلك الثالث الرهيب .. الذي نحسه و نراه بالعين الثالثة .. العلاقة بين الشاعر و الحالة ..
فلا أجد لدي من القصائد
ما يكفي لتكرير الشعر ..
تبا لخزانتي الفقيرة ..
تبا للسراب .. دفن الماء الأخير
في الريح ..
و ذاب .. ( القصيدة الكونية ص 09 )
و لعل دائرة الإبداع عند طه عدنان ، مثله مثل شعراء قصيدة النثر .. ذات التجليات الأخاذة .. تبدأ من البسيط لتصل إليه .. لكنها تصدم القارئ بمعاني مركبة .. موخزة .. مثيرة لضوء المعرفة .. إنها مثلما يقول الشاعر الجزائري جان سيناك في قصيدته ( ستجيئين إشارات ) و التي ترجمها عن الفرنسية الكاتب محمد بوطغان ضمن مجموعة قصائد سماها ( شموس يحي الوهراني ) يقول :
كوني جديرة باستدارتك الرشيقة ..
حنايا فراديسنا المفقودة ..
تفكين رموز النقوش العربية ..
ستكونين بسيطة مثل الألف .. " ص 74
ألم يبدأ طه عدنان من عوالمه المحيطة به .. و وصل إليها في رحلته الشعرية ..و ها هو يلمس الأشياء أمامه بيد أخرى .. و سأذكركم هنا مرة ثانية بتعبير الشاعر محمد بنيس ( اليد الثالثة ) .. لنقرأ طه عدنان لندرك ذلك .. :
و أكتب عن الشعر في الزمن الافتراضي
عن الحب في عصر الذكاء الاصطناعي
و عن مواعيدي الغريرة
في حدائق الانترنيت .. ( وئيدا أحفر في جليد حي ) ص 15
إنه زمن طه عدنان ، الزمن الافتراضي ، الحب الإلكتروني ، العين الثالثة بتعبير محمد علي شمس الدين ، حداثة أخرى ، مغايرة ، جديدة ، مبشرة ، مربكة ، موغلة في الشيء و نقيضه ، مستلهمة للعين الإلكترونية ، و الضوء الجديد ، لنستلهم في سبيل إيضاح رؤياه مقاطع من قصيدة كتبها في نيويورك عام 2000 ، و عنونها بالإنجليزية ILOVE YOU
" أن تقع في أسر عنكبوت إلكتروني … " ص 26
" أن تبحر في علاقة حب إلكترونية ..
تفضي بك إلى زواج سريع .. " ص 28
" أن تقلد الشيطان في تسريحة شعره .. " ص 29
" أن تحب عشيقة حمراء
بنهد نافر و بطن ضامر
تفوح منها روائح فيليب موريس " ص 30
" أن تقاوم البرد بالمزيد من الشقراوات
لا الحطب
بمزيد من البيرة اللبيرالية
لا الشمس .. " ص 38
كل هذا ليس يعني سوى شيء واحد بحسب طه عدنان :
" ليس يعني سوى أنك
أصبحت عنصرا صالحا للاندماج السريع
في قبيلة العولمة " ص 39
ه-ه هي أشياء لشاعر و أسراره الحميمة ، أعلنها و ارتاح ، احتج بطريقته ، و تضامن مع المضطهدين بطريقته ، تسكع بطريقته ، و تنسك بطريقته ، لا أحد يرغم الشاعر حتى و إن تظاهر بالطاعة فالشاعر لا يطيع ، يقول الشاعر الجنوبي الكبير محمد علي شمس الدين في كتابه ( الطواف ، سيرة مزدوجة ) الصفحة 316 ما يؤكد حقائق كثيرة لم يخرج عن نطاقها طه عدنان أيضا :
" .. فنوافذ الفن مفتوحة على العالم و على الناس ( إنه مشاع بشري ) ، و مع ذلك لا فن بلا أسرار ، في الأسرار تكمن جاذبية الفن ، جوهره و هويته ، أين تكمن الأسرار في الأشياء أم في الشاعر ؟ .. " ثم يجيب بعد ذلك قائلا : الأسرار في قلب الشاعر ..
بل و نكاد نجزم هنا أن الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت قد لامست حقيقة كبيرة في مقالها عن هذه المجموعة المنشور في أخبار الأدب العدد 560 تحت عنوان ( الهجرة من دفء البشر إلى صقيع الشاشات ) حين قالت :
" فماء الحياة عند الشاعر هو الحلم " ..
إنها طفولة تتمظهر في كل شيء هنا في اللفتات المختلفة ، في الإشارات ، في المواقف و الفواصل ، في الصخب ، في الشيطنة ايضا إن صح التعبير ، الشاعر هنا حالم كبير و طفل لم تغادره وشوشات الطفولة ، و لم يخرج من بئره الأولى على راي جبرا إبراهيم جبرا ، و لا من حديقته الولى على رأي ليانا تولستوي .. الشاعر طفل حالم .. إنها الطفولة التي لا نشفى منها ابدا .. ألم يجزم الروائي العربي الكبير محمد شكري في ( الشطار ) قائلا :
" كم تفرحنا و تشقينا الطفولة ، لا تدوم إلا في أحلامنا .. " ص 175
و الرائع في طه عدنان أنه بعد ذلك ، يقلب الصفحة ، ليريك ظهر هذه العولمة ، إن الفنان لا يخدع و لا يمكنه أن ينبهر بذلك الضوء ، إنه يغرف من زرقته ما يجلي به معالم الجمال ، ثم ينقلب ليريك ما لا يمكن ان تراه إلا ( ويب كام ) الشاعر ، ها هو يكتب مرثية إلى أمادو ديالو ، ها هو ذا يخبرك بأسى ظاهر ، و ببلاغة عالية :
" أهلا بك في نيويورك .. " ص 40
" لا تخلع نعليك أيها الزائر ..
فالوادي غير مقدس ..
و لا تخفف الوطء ..
فلا رفات هنا ..
لا أجداد
و لا أجداث .. " ص 41
و يختم الشاعر طه عدنان مجموعته بقصيدته الرائعة ( الشاشة عليكم ) التي كلما أقرأها تراودني جملة كتبها طه عدنان نفسه في مقالة بجريدة الحقائق اللندنية : أخشى أن نكون قد تعولمنا ..
الشاشة عليكم قصيدة تحمل رؤيا المجموعة كلها ، تعكس وجهة نظر الشاعر ، و تبشر برؤيته الما بعد حداثية ، لا الما تحت حداثية كما يوقل الشاعر المغربي هشام فهمي ، رؤيا ما لبثت أن أصبحت عدوى لم يسلم منها طبعا إلا من ابتعد عن الشاشة و لعنتها ، و تركت يمينه الفأرة و حملت مكنها قلما أو عصا أو لوحت للناس مودعة عالم الفن و الإبداع .. وأروع ما فيها أنها تقول الحياة كلها أمام ضوء الشاشة ، إنها حياة الكهرباء ، التي بشر بها منذ عقود خلت المستشار الأمريكي بريجنسكي ، و التي أصبحت واقعا لا مفر منه إلا بالحلم و الشعر لكن شعر لا تخاطب قوافيه ضوء القمر ، بل ضوء الشاشة ..
وداعا يا بنات الأشجار ..
وداعا
و مرحى
بعالم
أكثر
رأفة
بالغابات .. ( الشاشة عليكم ) ص 60
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كيف أصبحت الكفيفة سارة منقارة صوتا عالميا لذوي الهمم؟
.. إيران تعيد صديق قاسم سليماني إلى سوريا لمواجهة هجوم الشمال
.. ماذا سيفعل ترامب إذا رفضت حماس إطلاق سراح الرهائن؟ | #الظهير
.. القسام تشتبك مع جيش الاحتلال بالأسلحة الرشاشة في طوباس
.. فريق الجزيرة يرصد الوضع في مطار حلب الدولي