الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جريمة قتل

حامد تركي هيكل

2020 / 10 / 13
الادب والفن


يتردد جاسم يوميا على المنطقة الصناعية القديمة في باب الزبير. يعرفه جميع أصحاب محلات بيع المواد الانشائية، ويعرفه المتبضعون، وهم غالبا ما يكونوا مقاولين ومتعهدي بناء، يأتون الى هذه المنطقة لشراء ما يحتاجونه في عمليات البناء من سمنت وكاشي وحجر وكل ما يخطر على بالك من مواد البناء.
تقع المنطقة الصناعية القديمة خارج المدينة أو على اطرافها الغربية سابقا. ولكن مسؤولي البلدية وجدوا أنها قد أصبحت في قلب المدينة بعد أن توسعت المدينة على مناطق جديدة مثل الجمعيات والحيانية والقبلة. فصار لزاما نقلها. تم تعويض أصحابها بقطع في المنطقة الصناعية في حمدان، على أن يقوموا بتحويل قطعهم الى استعمالات تجارية. لم ينفذ الأمر كالعادة رغم مرور نصف قرن تقريبا. اذ بقيت المنطقة تضم معاملاً للثلج، والأثاث، فضلا عن أن بعضها تحول الى مخازن للمواد الأنشائية والسمنت بالدرجة الأساس.
تنحصر المنطقة الصناعية القديمة بين شارع الخليج العربي شمالا، والذي هو طريق بصرة زبير والذي يمتد من ساحة سعد بمحاذاة المستشفى، وشارع 14 تموز جنوبا، وبين طريق الفاو غربا وامتداد شارع التنانير شرقا.
يضم هذا المربع أبنية مختلفة وغير متجانسة بالمرة مثل كراج البلدية، وسجن قديم كان قد شيده البريطانيون، ومقبرة لليهود، ومعارض للسيارات، وأقدم مشروع اسكاني نفذته البلدية في الخمسينات من القرن العشرين، كما يضم منشآت صحية مثل الطب الذري وصيدليات ودوائر رسمية ومساكن، فضلا عن المنطقة الصناعية القديمة.
كان جاسم يتجول صباحا بين مخازن المواد الإنشائية تحديدا وبعض المعامل القديمة. يسخر منه البعض، ويشفق عليه البعض الآخر، ويشمئز منه البعض. يدلف ظهرا كل مرة في أحد المخازن حيث يتناول العمال وجبة غدائهم، فيفردون له حصة ليأكل ويشرب بعيدا عنهم، وأحيانا إن كان مزاجه جيدا، يسمحون له لينام القيلولة في الظل لا يزعجه أحد.

لا أحد يعرف من أين يأتي كل صباح وأين كان يبيت ليله، ولم يكلف أحد نفسه عناء مثل هذا السؤال الذي لن يقدم و لن يؤخر.
جاسم رجل شاب أو ربما في نهاية الأربعينات من عمره، لا أحد يستطيع الجزم، ذلك لأن مظهر المجانين لا ينبئ عن أعمارهم بدقة. يرتدي معطف جيش قديم كان لونه كاكي فيما مضى، ولكنه الآن عبارة عن دثار قذر لا يستطيع أحد تمييز لونه. يرتدي جاسم معطفا فقط لا غير. وهو رجل طويل، نحيف، لحيته كثة، حافي القدمين.
إن تُرك لحاله لا يؤذي أحدا غالبا. يأكل ما يُقدم له من طعام. ويشرب ما يُقدم له من ماء أو من مشروبات غازية. وإن سُمح له بالنوم ينام. لا يلح بالسؤال بل يقف برهة من الوقت أمام مخزن أحدهم، فإذا كان ذلك الرجل حكيما وفهم ما يحتاج اليه جاسم، كان ذلك جيدا، أما اذا لم يفهم فإن جاسم يغادر ليقف برهة أخرى بباب آخر. فإذا لم يكن لدى جاسم حاجة فإنه يتجول ببساطة. ولكنه أحيانا يركض كما لو أن هناك من يطارده عبر شوارع المنطقة الصناعية القديمة التي كانت خالية أغلب الوقت.
عندما يتنمر عليه بعض العمال من الصغار والذين التحقوا حديثا بالعمل في هذه المنطقة، فإنه يزبد ويرعد ويُستشاط، وتخرج الكلمات من فمه غير مفهومة. وساعتها تفشل كل محاولة لتهدئته، قبل أن يتعب هو نفسه من الصياح والشتائم وإصدار الأصوات التي لايفهمها أحد. وهو أحيانا كثيرة يدخل في نوبة الهياج تلك من دون أن يتعرض له أحد بسوء. ولا يعلم أحد لِمَ يفعل ذلك.
اختلفت الأقاويل والتفسيرات والأخبار بشأنه. فمنهم من كان يصرّ على أن جاسم في زمن سابق كان شابا سويّا، ولكنه أحب فتاة ولم يتمكن من الزواج منها ففقد عقله. وينسج أصحاب هذا الرأي حكاياتهم من خيالهم الخصب، ومن قصص الحب التي قرأوها، والتي يزخر بها التراث مثل قصة غيدة وحمد، وقيس وليلى، وعنتر وعبلة فضلا عن قصص الأفلام المصرية والهندية التي كان يدمن على مشاهدتها الكثيرون في ذلك الزمان.
بيد أن أصحاب المتاجر كبار السن الذين كانوا مشغولين بحساباتهم وسجلات المواد الداخلة والخارجة، ومتابعة أسعار صرف الدولار فقد كانوا يروون قصة أخرى مختلفة تماما. إذ كانوا يصرّون على أن جاسم كان يمتلك معملا هنا في المنطقة الصناعية القديمة. ويقولون أنه كان يسهر مع صديق مقرب له كل ليلة في أحد بارات العشّار، يشربان العرق ويأكلان الكباب ويستمعان لأغاني أم كلثوم. كانا مثل أخوين. وعندما حلّت ساعة التمليك وتسجيل الأملاك في دائرة التسجيل العقاري، استحوذ صديقه على المعمل، إذ عرض ورقة أصولية موقعة من قبل جاسم يقر فيها أنه قد باع له المعمل أرضا ومشيدات، وقبض المبلغ المتفق عليه كاملا غير منقوص. ويعتقدون أن تلك الورقة كانت صحيحة، ولكن جاسم قد وضع عليها توقيعه عندما كان مخمورا، ولم يكن بكامل وعيه، كما أنه لم يقبض فلسا واحدا. ولا يعلم أصحاب السجلات الضخمة ما إذا كان جاسم قد تأثر بخيانة الصديق فجنّ، أم أنه تأثر بخسارة الملك ففقد عقله، ولكنهم كانوا يميلون الى الرأي الثاني غالبا.
ويذهب آخرون الى أن جاسم كان غنيا فقد ثروته كلها بصفقة خاسرة واحدة، لذلك فقد توازنه، ولم يكن قادرا على تحمل الصدمة. بيد أنهم جميعا واهمون.
وحده جاسم يعرف الحقيقة التي لم يبح بها لأحد قط. وحده كان يعاني من آلام لا يدركها غيره. وحده كان يرى كل لحظة أهوالا من العذاب لا يراها أحد سواه.
كان أهل جاسم فقراء قدموا من ريف بعيد لا يتذكره هو. بنوا أكواخهم البسيطة في منطقة لا يعرف أين كانت. كل الذي يعرفه أنه كان صغيرا، وكان يلعب ويلهو مع أخته التي تكبره. وعندما كبرا، كانا يعملان مع الكبار في نقل صناديق التمر، أو في فشق التمر واستخراج النوى، أو بأعمال أخرى مختلفة مرتبطة بالتمر.
كبرا معا وصارا حَدَثين، يذكر أن أخته كانت قد تغير شكلها، وهو أيضا حدثت لجسمه تغيرات لم يكن يدرك معناها. اذ فقد السيطرة على صوته الذي صار يخرج من فمه مضحكا، خشنا أحيانا وغير منتظم في أغلب الأحيان. ثم أكتشف أن شاربه بدأ يظهر، وبدأ الشعر ينبت في أماكن أخرى من جسمه.
ذات يوم، وحين كان جاسم مشغولا بتحولات صوته المربكة، اضطربت الأكواخ أيمَّما اضطراب، وشاع بينها كلام عجيب. ثم وجد حشدا غاضبا ثائرا من أعمامه وأبنائهم وهم يموجون ويتقافزون في فناء بيته الذي كان عبارة عن خصّ يحيط بصريفتين. وثمة حمّام قد بُنيَّ في زاوية من زوايا البيت، جدرانه من القصب البالي، وبابه من صفيح متهرئ صدئ. توجهوا اليه، حاصروه، صبوا عليه سيلا من الأوامر. وحرضوه على قتل شقيقته. اغسل عارك بيدك وامشي على طولك
- لو تريد تعيش طول عمرك مطاطي يا جويسم
- النار ولا العار يا جويسم

حاصره الحشد الغاضب بتلك الكلمات دون أن يعرف السبب. لم يكلّف أحدُ اولئك الغاضبين الذين كانت عيونهم تقذف شررا أن يشرح لجاسم ما الذي حصل. وانطلقت زغاريد، وجد نفسه حائرا ورأسه يدور، والدنيا كلها تدور، الشمس في السماء تدور، والصريفتان اللتان عهدهما ثابتتين كانتا تدوران أيضا، وثمة بندقية كلاشنكوف قد ألقيت في حضنه، لا يعلم من أين جيء بها.
ثم وجد نفسه وهو يبكي مثل طفل بعد أن خرج الحشد من فناء البيت، ليحتشدوا في الزقاق بين الأكواخ وهم يهزجون، ويدورون، ويطلقون النار في الهواء.
- ها خوتي ها!
فيستولي على العالم ايقاع رتيب، وتهتز الأرض تحت أقدام أولئك الرجال الغاضبين . وتنطلق في الفضاء غمامة من التراب تلونها شمس عصر ذلك اليوم بلون الدم تكتنف أكواخ النساء الباكيات سرا في ظلمات الصرائف الحزينة، لتصل عنان السماء. يبدو أن الموت قد خيم على المنطقة، إذ كان الناس في ذلك الزمان يؤمنون أنهم اذا ما رأوا الغبار الأحمر عالقا في السماء فهي علامة على الحرب أو سفك الدماء.
اقتربت منه أخته وهي تبكي، قالت له:
- ماكو چاره خويه جويسم، ما بيدك شي، راح ادخل بالحمام، وانت ارمي على الباب. ارمي واطلع من البيت.
بعد عدة محاولات فاشلة، وبعد تردد طال زمنا لا يدري جاسم كم كانت مدته. وبعد أن خانته ركبتاه، وجف ريقه، وتدلى لسانه جافا حتى وصل أسفل حنكه وهو يلهث مثل كلب عطشان، وبعد أن تيبست يداه، وسقطت الكلاشنكوف من يده مرات. كان يتوجه الى باب الحمام حيث تختبيء أخته، ولكنه يجد نفسه يصوب باتجاه باب البيت حيث تهزج العشيرة هناك.
دار مثل قط شرب سما يمزق الأمعاء للتو، دار كمن يجد أن نارا قد شبت في جوفه، ونارا قد شبت حوله. وأخيرا نجح فقد أطلق النار على الصفيحة الصدئة. خيم سكون وصمت عجيبين بعد أن أفرغ شاجوره، لم يكن يسمع سوى أنفاسه التي تشبه أنفاس حصان. وبعد لحظة تعالت زغاريد نساء، ثم عادت أقدام الرجال المحتشدين في الخارج تثير مزيدا من الغبار وتواصل زلزلة الأرض. وقف جاسم وأسقط البندقية من يده والدخان ما زال يخرج من فوهتها. لم يخرج كما نصحته اخته، بل دنا من باب الحمام الذي كان مثقبا كمنخل، كان يتمنى في قرارة نفسه أن يرى أخته واقفة هناك سليمة لم تمسها رصاصة، أو أن يجدها قد فجَّتْ خصَّ القصب الواهي ونفذت منه الى الجهة الأخرى. ولكنه عندما دفع الباب وجدها هناك.
كان مشهد الدم وهو يسيل حارا كأنه أفاعي حمراء، ظلت تطارده ليل نهار، تخرج من ثقوب تلك الصفيحة الصدئة. تخرج من بين قصب الخصّ المتهرئ، تخرج من كل مكان، تتلوى في الفضاء، تطلق صراخا مرعبا، فحيحا يصمّ الآذان، وينفذ الى أعماق الدماغ، مثل مزرف، بل عشرات المزارف الحادة التي لا يوقفها شيء.
كان يركض في شوارع المنطقة الصناعية القديمة المهجورة لأنه شاهد طيفها يجول هناك، هناك فقط، لا يدري جاسم لم تتجول أخته في هذه الأزقة دون غيرها، يتبعها، يريد أن يعتذر منها، يريد أن يتأكد أنها هي، يريد أن يقول لها شيئا ما انفك يعتمل في قلبه، ولكنه يظل حائرا، فلا هو يعثر عليها، ولا هو يعرف ما الذي يود قوله. ثم تعاود الأفاعي الحمراء العملاقة التي تفحُّ تطارده. فلا يعلم إن كان هو الذي كان يجري وراء شبح أم أن الأشباح هي التي كانت تجري في أثره.
وحده جاسم يرى تلك المشاهد كل يوم، ولا يستطيع أن يبوح بها لأحد. فقد قدرته على النوم، وفقد الإحساس بأي شيء أخر سوى تلك الأصوات النشاز التي تجعل أوقاته جحيما لايطاق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشار مراد يكسر التابوهات بالغناء • فرانس 24 / FRANCE 24


.. عوام في بحر الكلام-الشاعر جمال بخيت يحكي موقف للملك فاروق مع




.. عوام في بحر الكلام - د. أحمد رامي حفيد الشاعر أحمد راي يتحدث


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت يوضح محطة أم كلثوم وأح




.. عوام في بحر الكلام - إلهام أحمد رامي: أم كلثوم غنت في فرح با