الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسلوب المناجاة في مجموعة (مرد روحي) للشاعر عباس اليوسفي

فرج الحطاب

2020 / 10 / 14
الادب والفن


المناجاة في الشعر هو أسلوب تعبيري يذهب فيه الشاعر الى مخاطبة شخص او فكرة أو شيء يتخيله ينصرف فيه عن المخاطب الحقيقي. ومن خلال المناجاة يلجأ الشاعر الى عملية التجسيد للأشياء والأفكار واسقاط الصفات الإنسانية عليها، فتتسع الدلالات والرؤى الشعرية داخل القصيدة. ويمتاز هذا الأسلوب بعاطفته القوية عن طريق مناجاة للذات، الأشخاص، الطفولة، الذكريات، الوطن، الطبيعة، المكان، الزمان، الأفكار وغيرها. وغالبا ما يرتبط أسلوب المناجاة بالجانب الروحي، وهو ما يفسر ارتباط المناجاة في أحيان كثيرة بالجانب الديني أيضا، لكنه غير مقتصر عليه. وتوفر المناجاة فرصة كبيرة للشاعر للتعبير عن ذاته ومشاعره الشخصية وتلك العواطف والأفكار المتجذرة في وجدانه، وهو ما يمكن تسميته بمناجاة النفس. والمناجاة أسلوب شائع في الشعر العربي والأدبيات الدينية والصوفية، ولا تقل المناجاة شيوعا في الأدبيات الغربية والأجنبية كذلك.
ان السبب الذي يدفع بالشاعر لكتابة الشعر لا يمكن حصره بالدوافع الجمالية والفنية فقط، بل هو أيضا نوع من التمرد على روتين الحياة اليومية ومحاولة تأسيس فضاء افتراضي جديد يتحول فيه الشاعر الى صوت أكثر قوة وحضورا مما هو عليه في الواقع الفعلي. ربما تبدو هذه العملية للبعض، بانها نوع من الهروب، ولكنها مع ذلك تبقى أسلوبا ناجحا في صيانة الذات وترويض الواقع وإعادة النظر بكل التفاصيل المجاورة والعثور على فرص جديدة لإثارة الأسئلة الوجودية الجوهرية من جديد. وإذا كان من المسلم به ان الشعر هو فن من الفنون، فان غاية الشعر هنا كما يرى فيكتور شكلوفسكي، ليس الموضوع ذاته بل طريقة لاكتشاف فنية الموضوع. ان الأدب بصورة عامة يقدم لنا محاولة لرفض المعنى الناتج بسبب الألفة والاعتياد، ولذلك فان الشعر يقوم بإزاحة هذه الالفة لجعل الأشياء التي ألفناها سابقا ترى بطريقة مغايرة وليست معتادة. (1)
وبحسب الناقدة الأدبية الأمريكية بربارة جونسون فأن المناجاة هي شكل من أشكال الكلام المبطن (الصامت) الذي من خلاله يرسل المتحدث الصوت، الحياة، والشكل البشري الى المرسل اليه، مما يحول صمته الى نوع من الاستجابة المباشرة. والمناجاة تحدث اما بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لكنها تستند على فكرة الاستغناء عن الكلام المباشر، انها تتيح المناورة ببنية الأنا / أنت بطريقة خيالية وغير مباشرة. (2) وبذلك تصبح فكرة الغياب والموت التي يتم تناولها حاضرة وحيوية ومجسمة. ولعل هذا الأمر ينطبق كثيرا على مجموعة (مرد روحي) (3) لعباس اليوسفي الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، وهي المجموعة الثالثة للشاعر بعد مجموعتين سابقتين هما اليوسفيات، بغداد 1996، ومسلة الطيور الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 2007. وتظهر اهداف المناجاة في قصائد (مرد روحي) من خلال الأصدقاء، الطرقات، الدروب، المواكب، القلعات، الأيام، المدينة، العائلة، النوافذ، الحنين وغيرها. ان هذه المناجاة توفر فرصة الاصغاء بعمق الى معاني الألم والحزن والقلق والغربة الذي يمثل الثيمات الأساسية لأغلب قصائد (مرد روحي).
وتبدو قصائد اليوسفي الى أصدقائه، من بين أكثر النماذج المعبرة عن المناجاة في هذه المجموعة. ففي قصيدة (كأني أنت يا أنا) وهي مهداة الى صديقه الروائي حسن كريم عاتي، يناجي الشاعر ذاته التي تذوب أحيانا مع ذوات أصدقائه وشركائه في الحياة والكلمة:
يكفيني أن الوح للقادمين
ان اقبلوا
خائبا للمرة الألف أعود (ص 12).

ولكثرة ما يعاني من تفرق الأصدقاء من حوله بسبب ظروف الحياة وتشتتهم واغترابهم في أماكن مختلفة من العالم، كثيرا ما يصطدم أمل الشاعر للقاء اصدقائه بواقع الغياب المرير:
في كل لحظة
أسدد نحو تهشيم
الفراغ
فأعود محملاً
بالمفاشل
أصدقائي (ص13).

وفي قصيدة (البعيدون)، يبدأ الشاعر قصيدته بما يشبه مناجاة لحبيبته. غير ان هذه الحبيبة سرعان ما ستكون جسرا لمناجاة أصدقائه من خلالها. فثيمة الأصدقاء في قصائد هذه المجموعة، ثيمة أساسية تتمحور بها وحولها الثيمات الأخرى:
دعينا نتقاسم البعد
انهم بعيدون
بعيدون جداً
.........
بلا مدن مرئية
بلا نايات حزينة
قلوبهم ملأى بالعصافير
خائبة احلامهم
لا نارهم تورق
في ضلوعي
ولا رمادهم يستغيث (ص23-24).

وفي قصيدة (المواكب حين تمضي) المهداة الى صديقه الدكتور جاسم الخالدي، يتبدى أسلوب المناجاة بصيغة استثمار ميزة الموال الشعبي، وذلك عن طريق تكرار عبارة (ليل يا ليل) في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة، ثم تبدأ عملية الأنين ومناجاة الأيام والأصدقاء والحنين إليهم والمرور بذكرياتهم الجميلة وصولا الى مناجاة العائلة وافرادها. ان أسلوب المناجاة في هذه القصيدة يعزز من غنائية القصيدة الى حد بعيد، انه غناء الروح الملتاعة التي تذكرنا بطريقة غناء المطرب العراقي الجنوبي وهو يبث شكواه لليل، لشعوره بالوحدة بعد غياب الأهل والأصدقاء.
ليل
يا ليل
الأصدقاء تخلوا عن تيجانهم
وأخذوا يغنون
لذكرياتهم البائسة
.......
ليل
يا ليل
ذات يوم كنا نرمم
الوضوح
نتعاقب كفصول فاشلة
......
ليل يا ليل
وحيداً أصغي إليك
تغزل دموعي
هذه الخدود الوقحة
.......
ليل يا ليل
ماذا أفعل بهذا المساء
الذي هرم مبكرا
مساء العائلة
ماذا تبقى منه
غير هذا الخفوت (ص 25-26)

أما قصيدة (القلعات)، يمهد الشاعر عن طريق الأهداء (الى الذي كان قريبا مني وسرقته الحياة...الى فرج الحطاب) الى اجتراح أسلوب آخر في المناجاة. اذ يعمد اليوسفي الى استلال عبارات شعرية من قصائد صديقه فرج الحطاب المغترب في أمريكا منذ أكثر من عقدين، ليدخل معها في إعادة صياغة جديدة تعتمد حوارية المكان والزمان وتبدلاتهما. يعمد اليوسفي الى مناجاة الشخصيات الواردة في قصائد الحطاب راسما لها مصائر جديدة ومبتكرة. هذه المصائر المتخيلة التي يرسمها اليوسفي تنطلق من غربة المكان والهوية أيضا، متسائلة عن مصيرها الوجودي. انها مناجاة غير مباشرة لصديقه عن طريق بناء حوار مع شعره. ولذلك، فان اليوسفي يستعمل ضمير الجمع (هم) في حين ان مقصد مناجاته يتمحور في حقيقته حول الضمير(هو)، أي صديقه الشاعر.
هناك حيث يقطنون
وحيدين
لا نساء في جيوبهم
لا أحلام
تزور لياليهم المكفهرة
في أحشائهم
يتجول الصمت وحيدا
ويسهرون على راحة الموتى
.......
هم يبتكرون موتا آخر
لموتهم البطيء
ويسترسلون في البكاء
الطويل
......
هم يكتنزون الود
لتصدح أناشيدهم
المنسية
المنسيون هم
لا مرعى لأشواقهم
الهائجة
بالحكايات (ص29-31).

أما قصيدة (مواقيد الرحيل: اليه حسب)، فقد لعب الاهداء دورا إضافيا هنا. اذ عمد الشاعر الى اهدائه القصيدة لشخص لم يعينه بالاسم تحديدا بل (اليه حسب). والمهدى اليه هنا، قد يكون صديقا او قد يكون الأهداء الى الشاعر نفسه، الى ذاته. فهي اذن مناجاة الذات والاحلام التي لم تتحقق فتحولت الى مواقد ترفد الرحيل بكثير من الرموز والدلالات.
ضمأى بين يدك السنون
كما القصائد الخائنات
تصورتها خاتم سليمان
عاندتك في الانطفاء
أحرقتها
وبكت فيك الروح
وبكى كل شيء فيك
ومضيت هاربا
تناشد عن أغنية
أطفأتها
مواقدُ الرحيل؟ (ص32-33).

ولا تحيد قصيدة (طوبى) المهداة الى الشاعر جمال الحلاق المغترب في استراليا منذ سنوات عن صيغ المناجاة السابقة. فالقصيدة تبدأ بمناجاة الأيام الخالية وتتغنى بجمالها والحنين الى رفقة صديقه الشاعر جمال الحلاق.
طوبى
للأيام الباسقة
في أحضان الريح (ص34).
اذ يستمر اليوسفي بتكرار كلمة (طوبى) في بداية كل مقطع، مثنيا على تلك الأوقات وسعادتها. ثم يتحول الشاعر من موقف الوصف لتلك الأوقات الهانئة ليبدأ بتقييم اللحظة الراهنة وما خلفه غياب تلك الأوقات والرفقة الجميلة المميزة. وقد حافظ اليوسفي حتى هذه اللحظة على بقاء مناجاته موجهة بالدرجة الأساس للمواقف والمشاعر والأفكار وليس لصديقه الشاعر مباشرة.
طوبى
لهذا الألم
لا تستفيق هذه الكلمات
الا على هديله المر
طوبى
لك أيُّها الشارد
طوبى للشاردين
خلف مسرات
لا يقطنها سوى الوهم (ص35).
غير ان اليوسفي، وفي لحظة ضاغطة فرضها عليه مسار القصيدة وحالته العاطفية، يتحول في مناجاته من الصيغة غير المباشرة الى الصيغة المباشرة. فيعمد الى صيغة مناجاة يجمع بها نفسه مع صديقيه فرج الحطاب وجمال الحلاق، وتتحول المناجاة الى حلم بلقاء جديد بعد سنوات الغربة الطويلة، حيث يتمنى اليوسفي اجتياز تلك البحار الفاصلة بينه وبين وأصدقائه، متمنيا ان تتحول الخرائط الى ما يشبه الهشيم الذي يمنعهم عن اللقاء.
طوبى لكم أيُّها الحطابون
أيُّها الحّلاقون
هلمَّوا إلى قلوبنا
ما زالت
ترتجف
طوبى
لهذه البحار
وهي تغرق
في ملاءات أرواحنا
اليابسة
طوبى
لهذه التعرجات
لهذه الخرائط
التي لا تبني هشيمها
إلا
في وجوهنا الغضة (ص36-37).

وتتكرر أساليب المناجاة في قصائد أخرى عديدة من هذه المجموعة. ففي قصيدة (فقدانات) يعمد الشاعر الى مناجاة الذات، الروح، المكان، الجهات، العمر، الحزن والمدينة. وكذلك في قصيدة (يوما ما) نرى المناجاة تتوجه نحو الذات والعائلة والأصدقاء. كذلك في قصيدة (هناك انتظريني) مناجاة للمرأة-الحبيبة التي تصبح مناجاتها جسرا لبث المشاعر المختلفة. والحال ذاته يتكرر في قصيدة (الجنوب) وقصيدة (شيخوخة)، حيث يتوجه بالمناجاة الى تلك اللحظات الاثيرة والهاربة والراسخة كذكرى متجذرة في وجدانه ووجدان أصحابها.
وتمتاز قصائد المجموعة بعدة أساليب فنية وتقنية في بنائها، من بينها طريقة استخدام الضمائر والحروف في بناء الجملة الشعرية خصوصا والقصيدة بشكل عام. فعلى سبيل المثال، يستخدم الشاعر حرف الشرط (لو) والذي يستعمل للتعبير عن الامتناع او الإشارة الى ما هو غير ممكن، بمعنى امتناع الجواب لامتناع الشرط، كما في القول المشهور "لو كان الفقر رجلا لقتلته" أو كما في قول المتنبي " لو اشتهتْ لحمَ قاريها لبادرها.... خرادلٌ منه في الشيزى وأوصالُ). والجديد في استعمال اليوسفي هنا، انه يحذف جواب الشرط عامدا من جملته، وكما في قصيدة شيخوخة:
لو كانت لي عين
لو كان لي قلب
تفتشين عن ماذا
حبلك مازال أخضر
يتوق إلى يباس
عن موعد نسيته
أو صديق (ص 59).
ان اليوسفي يكتفي ب "لو كانت لي عين" دون ان يخبرنا ماذا سيفعل بها. وكذلك في "لو كان لي قلب" لم يخبرنا ماذا سيفعل لو كان له قلب أيضا. لكنه يقفز على الجواب الذي يبدو انه يعرفه ولم يجد حاجة لتدوينه، بل يقفز مباشرة الى مرحلة مناجاة الذات، الذات العارفة بالموجود والممتنع :
تفتشين عن ماذا
حبلك مازال أخضر
يتوق إلى يباس (ص 59).

وفي قصيدة (الدروب ص 60) يبني الشاعر قصيدته على توالي الجملة الاسمية، مستخدما مفردة الدروب كمبتدأ لجملته ثم يلحق بها الخبر كما في بدايات الجمل الشعرية التالية: الدروب خاوية، الدروب طافية، الدروب طفولاتنا، الدروب جسد، الدروب اصدقاؤنا، الدروب وجوه، الدروب غياب الخ. انه يحاول اخبارنا بشيء ما لا يفصح عنه مباشرة، ومن اجل تعزيز القصيدة يعمد الشاعر الى استثمار اسلوب التكرار. ومن خلال التكرار وتعزيز الخبر ينسج اليوسفي قصيدته ليرفدنا بالتفاصيل اللازمة وكأنه يعرض لنا تعريفا جديدا للدروب يبتكره او يكتشفه بنفسه، ولذلك فهو يقدم لنا في نهاية القصيدة المعنى الجوهري الذي يمكن الحصول عليه من البحث في كل هذه الدروب، انه درب مشابه لذلك الدرب الذي سلكه جلجامش في بحثه عن الخلود.
الدروب غياب أدهشنا حضوره
أيُّها الحاضر
أجوب دروبك الوعرة
دائما
لعلي أهتدي
إلى ما أتنبأ به العرّافون
ذلك الدرب الوحيد
أمل جلجامش بالعبور
عفوا
أقصد ما نفقده في
الغد
ما نسترده (ص64).
ويبدو ان أسلوب تكرار الجملة لافتتاح مقطع شعري جديد نراه يشكل ملمحا بارزا في العديد من قصائد اليوسفي. فهو يتبع هذا الأسلوب أيضا في قصيدة (اساءات). حيث يبدأ كل مقطع جديد بعبارة "سيئة جداً" وكذلك نجد هذا الأسلوب في قصائد أخرى.
ويكاد الأمر ذاته يفعله الشاعر في قصيدة (النوافذ). فهو يستخدم تقنية قصيدة الدروب بحذافيرها في سبيل الوصول الى إعادة تعريف النوافذ. فالنوافذ عذراء، النوافذ عاطلة، النوافذ حبيبة، النوافذ وجوه، النوافذ نزوة، الخ. غير انه هذه المرة يستخدم عنصر المناجاة كإضافة جديدة في هذه القصيدة، مناجاة النوافذ -الحياة.
بقربك أيّتها النوافذ
زرعت عمري
بقربك انتظرت
وطويت بكائي العميق
طويت ما تبقى لي
ورحت أطالعك وأيوب خلفي
للناس نوافذ عدة
وللشاعر نافذة خجولة (ص 75).
يبدو ان المناجاة تشكل متنا واضحا من متون هذه المجموعة الشعرية. ولا تقف عند حد مناجاة الذات والأصدقاء بل حتى مناجاة الحبيبة والقصائد. ترى هل أصبح الواقع مشلولا لهذه الدرجة عند اليوسفي حتى تصبح المناجاة طوق النجاة له؟

وتكاد قصيدة (بوح آخر) ان تكون من بين أكثر القصائد التي تعمد الى استعمال أسلوب المناجاة المباشر الذي يقترب من أساليب المناجاة الدينية التقليدية. انها مناجاة الصابر وعتاب جميل مع الله في محاولة للبحث عن الخلاص الذي طال انتظاره.
لِمَ قذفتني في هذا اليباس؟
لِمَ جعلت أيامي عرضة للضواري؟
لِمَ جعلتني أعزلا في زمن ادمنته الحروب والدماء؟
إلهي أسقطتني عنوة
دفعت بي عاريا
إلا من الصراخ
مديات تزرع أنيابها في دمي
تقصر خطوتي
تسحلني
تقهقه ورائي وأمامي
ولا دثار لي سواك
أبسط يديك فوق حلمي
ظللني من التيهان
تيهانك أرعبني
قمّط لذائذي
ولا تجعل لها بئرا
........
أتلصص على نظراتك
إذ تقيل
سقطتي
وأمسك بيديك
وأنت تمضي
ولا أراك
ألوب
في مقلتك وحيدا
ونارك
عالية (ص78).
في هذه القصيدة -المناجاة يعرض الشاعر أسئلته العديدة مبتدئا ب "لم قذفتني في هذا اليباس؟ وهو محور المناجاة هنا. ثم يعرض الشاعر لما لحق به من ألم ومعاناة، ثم في نهاية القصيدة-المناجاة يقوم الشاعر بعرض طلبه مع أمل بتحقيق أحلامه في الخلاص من الألم: (ابسط يديك فوق حلمي، ظللني من التيهان). لكن الشاعر وفي خطوة تفصح عن قوة الألم والمعاناة يعود ويذكر من يقوم بمنجاته بعمق الأسى ولوعته (أنت تمضي، ولا أراك، ألوب، في مقلتك وحيدا، ونارك، عالية).
اما قصيدة (مرد روحي) التي استعارت عنوانها من عبارة ترد في نهاية القصيدة، فانها أصبحت عنوانا لمجموعة اليوسفي أيضا. ومرد روحي هو لفظ يرد كثيرا في لغة الحياة اليومية عن النساء في جنوب العراق. ومردَّ روحي يراد به مصدر او علة الروح في وجودها وفنائها. بمعنى آخر ان مرد لفظ مرد روحي حين تطلقه الأم على ولدها فهذا يعني انه سر الحياة وبقائها بالنسبة لها.
ويتمحور بناء قصيدة (مرد روحي) على مناجاة الوطن والأب والأم والطفولة. يناجي الشاعر طفولته عن طريق استدعاء صور الأب وألأم من الذاكرة. يستعيد تلك المشاعر المرافقة لطفولته والتي تؤسس صورة الأب. فصورة الأب هي المركز الذي ينطلق منه الشاعر-الطفل في رؤية العالم الذي يتراءى للطفل وكأنه غابة كبيرة ودليله الوحيد فيها هو الأب، فصورة الأب عنده هي صورة حارس هذه الغابة وغياب الأب يعني ان يكون الشاعر -الطفل وحيدا في مجاهيل الغابة. في مقابل صورة الأب -الحارس، يرسم اليوسفي صورة الأم -الملاذ الآمن الذي يوفر مشاعر الطمأنينة حتى مع غياب الأب. وكعادة الأم وهي تراقب أبنائها يكبرون، يصور اليوسفي الأم وهي تتمنى اللحظة التي يكبر فيها ولدها ليصبح حارسا للغابة ولنفسه ولها أيضا.
يا وطني
كنت صغيرا
وكان يعود أبي
عندما يذهب بعيدا
وأظل أسال:
لِمَ يتركني وسط هذه الغابة؟
وأمي تزحف دموعها
وتقول: يا إلهي متى
أراه
يكسر الصغير ألعابه
وتنادي:
يا عباس يا مرد روحي
متى تكبر؟ (ص86).

أما قصيدة (حنين الى اليوسفيات) فهي تمثل امتدادا لحنين الشاعر في هذه المجموعة ليس الى أصدقائه وذكرياته واحلامه، بل والحنين الى قصائد (اليوسفيات) أيضا، المجموعة الأولى للشاعر والتي أصدرها عام 1996. ولا بد ان نشير هنا الى وجود ما يشبه العلاقة الواضحة بين ما تختزنه ذاكرة الشاعر والحنين الى الماضي الذي يبدو أكثر وضوحا وحيوية من الحاضر عند الشاعر.
أريدني شاعرا متشردا
حول طوفان من الأسئلة
تطاردني (ص19).
انه الحنين الى الاحلام الأولى والمشاريع الكبيرة المدفوعة بقوة الشباب وعنفوانه. غير ان اللحظة الصادمة تأتي من ان كل شيء قد تغير، فها هو الشاعر يجد صعوبة في تذكر تلك المشاريع، وفي التعرف على تفاصيلها وملابساتها.
طويلة
هي المسافات
كلما قبضت
على هديرها
انقرضت (ص 20-21).
وهو ما يدعو الشاعر في الوقت نفسه ان يعترف بنجاح الحياة وتقلباتها في افشال مشاريعه:
ارقصي
أيتها الأيام
على اوتاري (ص 21).
يمتاز شعر عباس اليوسفي بانه شعر بسيط لكنه غير عادي، يعتمد على استنطاق العاطفة والمشاعر الانسانية، مصحوب بابتكار في صياغة الجملة الشعرية، والمفردة فيه وسيلة شعرية وليست غاية بعينها. ومن خلال تبنيه لأسلوب المناجاة، فان اليوسفي يوجه اسئلته للذات أولا ومن ثم الى المتلقي. انها أسئلة تتمحور حول التناقضات والعبثية والألم الذي يغلف واقع الانسان، من دون ان تكون أسئلة متكلفة. في هذه القصائد يكتب الشاعر لنفسه قبل المتلقي ويعبر عن أنا الشاعر الأصلية للإفصاح عن تجربته وصوته الداخلي، لذلك يمتزج شعره بالعاطفة الى درجة يصعب الفصل بينهما. كما يؤسس قصائده وصوره وجمله الشعرية على الذات والألم والأرت الثقافي واللغوي العراقي المحلي. كما ان قصائده، في كثير من نماذجها، تمتاز بالقصر والايجاز واللغة المكثفة المنتجة للمعنى الشعري. وهو ما يجعل اغلب قصائده تنفتح على خطاب غنائي في الشعر، فلا تجعل فاصلا بين الذات والآخر، كما انها تبتعد عن أساليب السرد وتعميق الروح الدرامية للنص الشعري.
بقي ان نشير الى ان اليوسفي قد الحق بهذه المجموعة قصائده الأولى التي نشرها في الصحف والمجلات ولم ينشرها في أي من مجموعتيه الشعريتيين السابقتين (اليوسفيات) و (الطيور). وهذه التفاته تستحق الإشادة لإنها توفر فرصة للقارئ والدارس للاطلاع عليها وتلمس التحولات المهمة التي حدثت في تجربة اليوسفي، وهي تجربة مهمة لها ملامحها المميزة وفرادتها التي تحتاج الى دراسات أخرى لقراءتها.



1.Viktor Shklovsky, Theory of Prose, Dalkey Archive Press, Champaign & London, 1998, 1.
2.Barbara Johnson, “Apostrophe, Animation, and Abortion,” The Johns Hopkins University Press, Vol. 16, No. 1 (Spring, 1986), pp. 28-47.
عباس اليوسفي. مرد روحي. الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق. بغداد، 3.2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح