الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن رهينة فرنسية اعتنقت الاسلام

راتب شعبو

2020 / 10 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


جاء الإفراج عن الرهينة الفرنسية في مالي، صوفي بيترونين، بعد أقل من أسبوع على خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انتقد فيه ما أسماه "الانعزالية الإسلامية" في فرنسا، والذي اعتبره الكثير من المحللين محاولة كسب القطاع اليميني من الناخبين الفرنسيين. وفيما كان ماكرون الذي استقبل الرهينة المحررة في مطار "إيفرين" العسكري قرب باريس، ينتظر أن يستثمر سياسياً في عملية تحرير الرهينة من أيدي جهاديين إسلاميين، فوجئ بإعلانها اعتناق الإسلام، الأمر الذي جعله يلغي خطاباً كان من المقرر إلقاؤه عقب وصولها.
صوفي بيترونين (75 عاماً) هي طبيبة فرنسية متخصصة بالتغذية، كانت على رأس منظمة إغاثة تعنى بالأطفال اليتامى في منطقة غاو شمال مالي، وتناضل، مع منظمتها، منذ العام 2001 ضد سوء التغذية. بعد خطفها على يد "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وحجزها ما يقارب 4 سنوات (من 24 ديسمبر/كانون أول 2016 حتى 8 اكتوبر/تشرين أول 2020) تم تحريرها مع رهائن آخرين، أبرزهم المرشح الرئاسي المالي سومايلا سيسي، من خلال صفقة أفرج فيها عن حوالي مئتي معتقل طالبت بهم الجماعة من سجون مالي، مع دفع فدية مالية.
حين وصلت بيترونين إلى باريس، وكان الرئيس الفرنسي في انتظارها، نزلت من الطيارة وعلى رأسها غطاء أبيض مفلوت ولكنه ذو دلالة لم تتأخر الرهينة المحررة في إبرازها حين أعلنت أنها اعتنقت الإسلام وأن اسمها لم يعد صوفي بل مريم.
ليست بيترونين هي أول رهينة لدى جهاديين إسلاميين تعتنق الإسلام. في مايو/أيار الماضي أيضاً حررت مختطفة إيطالية اسمها سيلفيا رومانيو، وهي متطوعة في منظمة إغاثة إيطالية تعمل في كينيا، بعد حوالي سنة ونصف من خطفها على يد حركة الشباب المجاهدين الصومالية، وأعلنت أنها اعتنقت الإسلام دون إكراه واختارت لنفسها اسم عائشة.
في الحالتين أثيرت ضجة حول الأمر، وكانت الضجة الصادرة، سواء في جانب الغاضبين أو المرحبين، تغطي على حقيقة الموضوع. حضور البعد الهوياتي هو المبعث الفعلي لتشنج المتفاعلين على جانبي الحدث، في حين أن الدافع المرجح لهذا التحول الديني هو دافع سياسي في أصله، أي إنه دافع يتعلق بالحقوق الفعلية للناس المظلومين والنضال لرفع المظالم عنهم. أو بكلام آخر، إن الأمر يغلب عليه الجانب الدنيوي وليس الديني. هو في حقيقة الأمر انحياز إلى جانب المظلومين أكثر مما هو انحياز إلى دينهم.
في اللقاءات القليلة والقصيرة للسيدة المحررة بعد أن أعرضت عنها وسائل الإعلام، اعترضت على كلمة "جهاديين" وأوضحت إن الجهاد يعني في اللغة الفرنسية الحرب، وأن هذه المجموعة التي اختطفتها هي مجموعة معارضة تحمل السلاح ليس أكثر، وأنها تريد السلام ووقعت اتفاقات سلام لم تحترمها الأطراف الأخرى. واضح أن حديثها سياسي ولا يتضمن تفضيلات دينية، اكتفت بالقول إن ما ساعدها على تجاوز المحنة هو أنها سلّمت بما يحصل لها دون مقاومة. وقد يكون هذا هو فهمها العام للإسلام الذي اعتنقته، أي "التسليم".
قراءة ردود الفعل الغاضبة من التحول الديني للرهينة الفرنسية، وكذا الحال فيما يخص الرهينة الإيطالية التي بلغ الأمر ببعض الرافضين لتحولها الديني إلى حد تهديدها بالقتل، تشير إلى أن هناك شعور لدى المعترضين بأن في هذا التحول اختيار لضفة العدو، أي أن فيه خيانة ما. يبدو هذا غريباً بوجه خاص في بلاد يسود فيها الإيمان بحرية المعتقد. لا شك أن ردة الفعل لن تكون على هذه الحدة لو أن هذا التحول الديني جرى في سياق عادي، وليس في سياق عملية خطف وتفاوض ودفع فدية لإسلاميين يحملون السلاح وكثيراً ما نفذوا عمليات إرهابية في قلب فرنسا.
السؤال الذي يتردد في ذهن المعترضين أو المحبطين، هل تكبدنا عناء تحريرك من الخاطفين لكي تكوني في صفهم وتتحولي إلى داعية لهم؟ ولسان حالهم يقول: إذا كنت معجبة بهم كان بمقدورك البقاء معهم إذن. أحد أقطاب اليمين المتطرف الفرنسي (فلوريان فيليبو) اعتبر ذلك فضيحة للدولة الفرنسية.
في المقابل يعبر مسلمون عن فرحهم من هذا التحول الديني وكأنه نصر على "الآخرين". هكذا تختزل التعقيدات السياسية كلها في هويتين، كل منهما تمتص التباينات السياسية التي في صفها. المسلمون الفرحون من الحدث لا يحرصون على إظهار الفارق بينهم وبين الخاطفين، وربما لا يلحظون هذا الفارق في غمرة "نصرهم الهوياتي"، فيعززون الانطباع بغياب التمايز بين المسلمين. يختفي لدى هؤلاء الفرحين السؤال عن أخلاقية خطف سيدة تكرس حياتها لخدمة الأيتام، وانسجام هذا الفعل مع "الدين"، ليبرز التحول الديني لها على أنه برهان على تفوق "ديننا"، وعلى أنه صفعة في وجه ماكرون الذي قال "إن الإسلام في أزمة".
الإسلام الذي اعتنقته بيترونين ليس عقيدة بالمعنى الدقيق، ولا يندرج فعلها في خانة حرية الاعتقاد، إنه بالأحرى انحياز سياسي حاد وصل مرحلة التماهي مع من انتبهت الرهينة إلى الظلم الذي يتعرضون له، ولمست أنهم أناس بسطاء وطيبون على خلاف الصورة التي يظهرون عليها في أعمالهم الإرهابية. سبق لعلماني مخضرم في السياسة السورية أن خالط جهاديين سوريين وعبر عن دهشته "بعاديتهم" إلى حد الإعجاب.
في عيون الغاضبين الفرنسيين أن بيترونين اعتنقت إسلام "الجهاديين"، أي النهج السياسي الذي يهاجم الجمهورية ويتعارض مع قيمها. لم يطرح المعترضون المشكلة دينياً، لم يقل أحد أن تحولها الديني هو المشكلة. قالوا ما معناه إنها انحازت لأعداء الجمهورية. إحدى المعلقات كتبت: "ترتدي حجاب، لم تقل كلمة واحدة عن جنودنا، لا تعتبر خاطفيها إرهابيين، وتريد أن تعود مجدداً إلى مالي. هذا كثير". يرد عليها أحدهم: "ربما ينبغي أن يعود جنودكم إلى بلدهم". النقاش يتحرك كما هو واضح على مستوى سياسي.
مع ذلك، يمكن السؤال: لو أن بيترونين لم تعلن إسلامها، واكتفت بأن عبرت عن تفهمها لدوافع الجماعة الإسلامية التي اختطفتها، هل كانت ستحدث الضجة نفسها؟ هل كنا وقفنا على نفس القدر من الغضب على هذه الجهة ومن الترحيب الحار على تلك الجهة؟ من المؤكد أن الجواب هو بالنفي. إعلان بيترونين عن إسلامها لامس عصباً آخر لا تلامسه المواقف السياسية، هو عصب الهوية الذي غالباً ما يعمل السياسيون، لغايات انتخابية، على تحريضه بسبب قدرته الكبيرة على الحشد، رغم أنه حشد أعمى معاد للسياسية في مفهومها الحديث.
سوف يبقى تحرير الصراع السياسي من صراع الهويات من أعقد المهمات الملقاة على عاتق الديموقراطيين، في وجه موجة الشعبوية التي تعم العالم اليوم والتي تسعى، بفعل الإفلاس السياسي لمطلقيها، لحقن الصراع السياسي بجرعات هوياتية قاتلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو