الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الدستور المصري وحقوق المواطنين

وسام منير

2020 / 10 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


"وهذا دستور ثورتنا.
وهذا دستورنا."
تنتهى ديباجة الدستور في نسخته المعدلة لعام 2019 بهذا المقطع المفحم، فما الذي فعله دستورنا ودستور ثورتنا بالنسبة لحقوقنا كمواطنين؟
لكي تكون الدولة دولة أولا بالمعنى الحديث (قبل أن نقول عليها أنها تقوم على دستور الثورة)، وكي يكون المواطنين مواطنين، ينبغى أن تقر مساواة –على الصعيد السياسي/الحقوقي على الأقل- بين كافة المواطنين. لكن الدستور من أول لحظة يقر تمييزا في الحقوق. فبشكل نظري وبقوة الدستور، يمتلك المواطن المسلم السني أزهري المذهب حقوقا أكثر من المرأة المسلمة السنية أزهرية المذهب، وتمتلك المرأة المسلمة السنية أزهرية المذهب حقوقا أكثر من المسيحيين واليهود، ويمتلك المسيحيين واليهود حقوقا أكثر من المواطنين الذين يحملون معتقدات وآراء وتوجهات وميول مغايرة (وفي الحقيقة، لا يمتلك الأخيرون أي حقوق على الإطلاق ولا حتى الحق في الحياة!). هذا نظريا وبالدستور، لكن الواقع يقول أيضا أن الفئة التي تحتكر سلطة الدولة والاقتصاد معا (أيا كانت معتقداتهم وآرائهم وميولهم وتوجهاتهم) تمتلك حقوقا أكثر منهم جميعا، بل حقوقا مطلقة غير مشروطة بأي واجبات سوى واجباتهم أمام بعضهم البعض في حفظ وضعهم وتعزيزه، ويكتسب أي مواطن من الواردين أعلاه حقوقا أكثر ويتحرر أكثر من الواجبات على حسب درجة القرب منهم وحرصه على مصالحهم بالقول والفعل. التمييز موجود بنص الدستور، والدستور المصري طائفي عنصري بامتياز، فأي وحدة وطنية يتحدث عنها الدستور؟ رحمك الله يا مهدي عامل!
ولكي تكون الدولة دولة أيضا، يتعين عليها أن تحمي الشأن الخاص لكل المواطنين بلا تمييز بينهم بسبب الآراء السياسية أو المعتقدات الدينية أو الجنس أو الميول الجنسية أو المظهر ..إلخ، لكن الدستور إذ يقر أولا بكون الإسلام دين الدولة (وهو يقصد طبعا الإسلام السني الأزهري) ومباديء الشريعة الإسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع فهو يدافع عن رأي معين ومعتقد معين وميول معينة وجنس معين ومظهر معين يصاغ المجتمع كله على شاكلته ويعادى كل من لا يسير عليه، أي أنه يتدخل منذ اللحظة الأولى في الشأن الخاص للمواطنين صياغة ومعاداة. هل نفتري على الدستور ونحمّل النص بأكثر مما يقول؟ حسنا، فلننتقل لنص آخر أشد خطورة وتوضيحا لتلك الممارسة المشئومة، ففي المادة (10) نجد النص الدستوري يسمح بتدخل الدولة في الآراء السياسية والمعتقدات الدينية والميول الجنسية والمظهر ..إلخ بل يمنح للأب والأم وللزوج ولأي مواطن القدرة على هذا التدخل بحماية من الدولة بأكملها: " الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين –أي دين؟، الدين الإسلامي السني الأزهري بالطبع كما يقول الدستور، الدين المصاغ على هوى ومصالح الدولة- والأخلاق –أي أخلاق؟ ما تقرر الدولة أنه أخلاقي بالطبع، كلمة فضفاضة تعطي الدولة الحق في حبس فتيات بسبب فيديوهات أو عدم ارتداء الحجاب وحبس مواطنين لحملهم أي آراء مغايرة أو أي توجهات أو ميول عكس ما تتبناه الدولة، أي مغاير هو غير أخلاقي، لكنها سمحت بهروب مجموعة فتيان خطفوا وخدروا واغتصبوا فتيات وصوروهم بالفيديو بعدما حفروا حروف أسمائهم على أجسادهن مع وجود دليل الإدانة مشاعا على الانترنت وعاقبت هؤلاء الفتيات كونهم منحلّين أخلاقيا!- والوطنية –وطنية الدولة بالطبع، وطنية التفريط والنهب-، وتحرص الدولة –هنا نجد الدولة وهي تقف في وراء هذه الممارسات- على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها –أي إذا كنت أب أو أم مسموح لك بتعنيف أبنائك إلى أي درجة والدولة تدعمك في ذلك، المهم أن تفعل ذلك لتقمعهم وتصوغهم على الصورة المجردة للمواطن التي تريدها الدولة، والذي ليس في الواقع مواطنا لأنها ليست دولة-" هنا تنتفى الحرية الشخصية لأي مواطن –حتى بمفهومها البرجوازي الضيق- ويستباح تماما. الدولة تمنح سلطة مطلقة للأسرة على أبنائها وسلطة للزوج على زوجته وللمواطنين على بعضهم البعض، الدولة تؤسس لمجتمع يقوم على صراع الكل ضد الكل وتحميه بقوة الدستور وسلطتها لكي تمسك بزمام هذا المجتمع الذي انقسم على ذاته في صراع لتسييد الرؤية الشخصية لكل فرد حول الشئون الشخصية للآخرين.
منح الأسرة سلطة مطلقة على أبنائها بالدستور، ومنح الزوج سلطة مطلقة على زوجته بالدستور -على أن يكونا انعكاسا للدولة في البيت- هو نتاج خفوت سلطة الأسرة وسلطة الزوج لخفوت –وفي بعض الأحيان لانتفاء- السيطرة المالية المطلقة لهما كانعكاس عن تخلي الدولة عن أداء أي دور اجتماعي –ولا حتى في مواجهة شرور الطبيعة كوباء!- والذي يفقد الدولة ضرورتها بالنسبة للمجتمع، فلا يبقى لوجودها ضرورة سوى الوهم الديني وسلطة القانون المحمية بالبطش العسكري الصرف.
وكيف يكون نموذج المواطن المجرد الذي يمثل دينا معينا وطنيا في نفس الوقت؟ الانتماء الديني مغاير للانتماء الوطني، المسلم مثلا ينتمي للإسلام، وهو قد يناصر –مثلا- مصالح تركيا المعادية لمصالح مصر بحجة الانتماء الديني أو مصالح قطر، فكيف يمكنك التوفيق بين الوطني والديني؟ هنا يأتي دور الأزهر ودور التكفير، التكفير جوهر الدولة المصرية نفسها، فكل ما هو غير وطني كافر، أو لكي يكون الغير وطني غير وطني لابد أن يكون كافرا أولا –أي مناقضا للدين الإسلامي السني الأزهري-، أيعني ذلك أن رفض شيخ الأزهر أحمد الطيب تكفير داعش أن الانضمام إليها عمل وطني؟ أيعني ذلك أن تكفير المسيحيين والمصريين أصحاب الملل والآراء والميول الأخرى أنهم غير مواطنيين بالضرورة؟ بالطبع نعم، أو على الأقل، هذا ما يقره الدستور. فأي وحدة وطنية يتحدث عنها الدستور؟
تريد الدولة بوصفها دولة مسلمة –أي لا دولة في الواقع- أن تنتج مواطنين مسلمين سنيين على المذهب الأزهري، أي لا مواطنين. أنها تريد أفرادا يعرفون كيف يموتون في صمت لا كيف يعيشون أو يصيغون حياتهم وفقا لمصالحهم العامة. تريد منهم أن يتركوها تنهب وتفسد وتقمع وتقتل لأن هذه ليست الحياة الحقيقية، الحياة الحقيقية تبدأ بعد موتهم وبعد انتهاء صبرهم على المآسي التي تكبدهم إياها هذه الدولة باسم الله نفسه، وتقيم هذه الدولة نفسها/الطبقة الحاكمة جنتها على الأرض من بذخ في الطعام والشراب والسيارات والقصور والملذات من كل شكل ولون على حساب هذه المآسي وباستمرار هذا الصبر، وإذا ما تجرأ مواطن على السؤال أو المساهمة عوقب وردع كلا أخلاقي، كمعادي للقانون والدولة، أي كملحد.
يقر الدستور مساواة بين الرجل والمرأة وحماية المرأة من كل أشكال العنف، لكن الدستور حدد أن مباديء التشريع هي الشريعة الإسلامية بنسختها الحالية، ونسختها التي تدعمها الدولة تقر تمييزا واضحا بين الرجل والمرأة، في الإرث وفي الزواج وأمام المحكمة، وتجعلها تابعة للرجل ابنة وزوجة وأم، بل أن له الحق في تعنيفها –تأديبها- بحماية الدستور والدولة، والحق في قتلها في بعض الأحيان. إن التمييز بين الرجل والمرأة ليس تنفيذا لرغبة الرجال بعامة في المجتمع، وإنما هو مصان بقوة الدستور وسلطة الدولة، أي تنفيذا لمصالح الطبقة الحاكمة.
ثم من يحدد مباديء الشريعة الإسلامية التي يُشتق منها التشريع؟ تقول لنا ديباجة الدستور أن المرجع في تفسير الشريعة هو "مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا" وتقول لنا المادة (7) من الدستور أن الأزهر هو "المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية"، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقر ديباجة الدستور مدنية الدولة وتقر المادة (2) كون الإسلام دين الدولة ومصدر التشريع. إننا هنا أمام تناقض يحافظ عليه بقوة الدستور بين المدني والديني، لا يلغي أحدهما الآخر ولا يحل أحدهما محل الآخر، كما أن الشريعة الإسلامية أصلا تحتوى على نقائض من كل نوع، إن مثل هذه التناقضات تجعل الدولة قادرة على تنفيذ أي شيء تريده ثم تختار من الأحكام المتناقضة ما يبرر ممارستها ويلبس كهنتها قراراتها حلل دينية لتحصينها وتقديسها بقوة الدستور، ويصبح المعارض أو المطالب بسياسات مغايرة كافر. كما أن الشرع أصلا يجيز للحاكم إلغاء حكم ديني إذا دعت المصلحة ذلك.
يمتليء الدستور بكثير من المواد الخاصة بواجبات الدولة التي لا تفعلها أصلا وتفعل نقيضها –أي أن الدولة غير دستورية، وكأن ذلك يعنيها أصلا!_ الدولة بوصفها انصهار بين السلطة التنفيذية والتشريعية بطريقة غير مباشرة –أو مباشرة كما يرد في بعض مواد الدستور التي سمحت للرئيس كفرد بالتعيين والخلع في الهيئات المختلفة-، انصهار بين المسئولين وأثرى الأثرياء، محتكرة السياسة والصناعة والزراعة والتجارة، الدولة التي لا يحدها دستور ولا قانون ولا ينظم لها عملها ولها الحق في الاعتداء على حقوق المواطنين في أي وقت وبأي شكل، القوة الخالصة التي فضت رابعة وتفوضت لتحول نفسها إلى حق مستمر إلى الأبد في صون نفسها كونها لم تعد مبررة الوجود أمام المجتمع، فلذلك نحن لن نرهق مقالنا بتعداد ما يقره الدستور عليها وما لا تلتزم هي به، ويكفي القاريء أن يعود للدستور ويقرأ هذه المواد ثم يقارنها بالواقع ليكتشف أن النتيجة التي خرجنا بها سليمة تماما، كما أن ذلك ليس موضوع المقال. لكننا نريد هنا أن نورد ملاحظة في غاية الأهمية، في المادة (204) المعدلة في 2019 نجد الآتي: " ولا يجوز محاكمة مدنى أمام القضاء العسكرى، إلا فى الجرائم التى تمثل اعتداءً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما فى حكمها أو المنشآت التى تتولى حمايتها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التى تمثل اعتداءً مباشرًا على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم." للوهلة الأولى يبدو النص الدستوري نص استثناء، بمعنى أن المواطن لا يحاكم عسكريا إلا في وضع استثنائي وفي الحالات الاستثنائية التي نصت عليها المادة، لكن الواقع أن مسئولين الجيش الكبار مثلهم مثل بقية مسئولين الدولة جزء من هذه الممارسة الاحتكارية العامة، أي أن أي تدخل في الاقتصاد أو السياسة يعني اعتداء على المؤسسة العسكرية، أيكون المطالبة بالكشف حتى عن ما تفعله الدولة بالتحديد اعتداء على أسرار المؤسسة العسكرية؟ إن الوضع الحالي يقول إن حالة الاستثناء هذه هي القاعدة العامة.
ورئيس الدولة هو رمز لهذه القوة الخالصة الاستثنائية التي تحولت إلى حق معمم، هو رمز لهذا الانصهار التام والاحتكار التام، وهو يحمّس أحط ما في المجتمع المصري ليحمي هذه المصلحة الخاصة المعادية لمصلحة المجتمع ككل، فمن الطبيعي أن يلقي كومسري بطفلين يعملان باليومية من قطار متحرك لعدم قدرتهما على دفع ثمن التذكرة وتهديد الدولة، وأن يهدم منزل حتى بمن فيه تنفيذا لقرارات الدولة، وأن يقتل مواطن من التعذيب في قسم الشرطة لحماية الدولة بوصفها صمام أمان المواطن نفسه، وأن ينقض الرعاع المأجورين في الشارع على كل من تسول له نفسه محاولة المشاركة بالرأي في السياسة والاقتصاد لحماية هذه الدولة. إنهم انعكاس للرئيس الرمز الذي يضحي بالمجتمع لصالح الدولة (التي تقوم على مصلحة خاصة بهذه الفئة الاحتكارية) باعتبار أن هذه الدولة هي صمام أمان المجتمع!
هذا قطعا ليس دستورنا، وهذا ليس دستور ثورتنا بالتأكيد. هذا دستورهم، هذا دستور ثورتهم المضادة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال