الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موريزكو

عبدالله مهتدي

2020 / 10 / 20
الادب والفن


قد تكون تلك البصلة التي فرمتها يد الجدة ،قربتها من أنفي لأشم رائحتها ،أتنفسها بعمق ،ولربما عصرت رذاذها داخل الفم كي تربطني بخيط الحياة الواهن هي سر العلاقة العشقية بالبصل ، إلى الحد الذي جعلني معتادا على ترك الدموع التي قد تدرف من عيني أثناء تقشير بصلة ، تحاذي عنوة حواف شفتي ،ثم ألعقها بلساني بتلذذ خارق..هكذا صار لي مع رائحة البصل حكاية..قد تفوق ما لرائحة شجر التين من مكانة غائرة في الوجدان ، وكما كتبت صديقتي يوما فلحاسة الشم هي أيضا ذاكرة...
لقد كانت تلك السقطة هي ما أنا عليه الآن ...كل شيء حدث بسرعة في مساء غائم ، كنت لم أتجاوز بعد سن السادسة ،واقفا في مدخل الزقاق ، أختلس النظر وأسترق السمع لفتية يتدافعون تارة وتارة يتحدثون ،يحكون مغامراتهم على إيقاع قهقهات طفولية بريئة ،يتباهون بأحدية "جيمس" السوداء ، أو بصنادل البلاستيك الملونة ، لم يكن يسمح لي أنا كمشة اللحم الصغيرة أن أكون ندا ، فللشارع أيضا طقوس ، يد أحدهم فاجأتني بلكمة على البطن ،فسقطت على ظهري فوق دراجة نارية كان صاحبها قد ركنها بمحاذاة طوار الشارع ،كانت دواسة الدراجة النارية مهترئة إلى الحد الذي فقدت معه غطاءها المطاطي الأسود ، ليبرز جزؤها المسنن الذي توغل عميقا خلف الظهر،استقر فوق العجيزة وكاد يهشم عمودي الفقري لولا لطف الاقدار ، لا أستطيع أن أتذكر كيف استطاعوا ان يخرجوا ذاك الشيء من أسفل الظهر ..... وأنا محمول على بطني يغمرني سيل هادر من الدماء ومن الألم ،كانت السواعد التي تلقفت هذا الجسد الجريح التي كنته قد عبرت بي الزقاق، مخفورا بأصوات الصراخ ، صعدب بي إلى الطابق الأول ،وضعتني في غرفة الجدة ، مسجى على سريرها كميت ينتظر طقوس غسل وتحنيط جنازة ،كانت رائحة البصل النفاذة ما بقي يربطني بالحياة ،عدا أصوات مخلوطة ببكاء آتية من هناك ،من بعيد ، من كل اتجاه ، لم أعد اشعر بشيء ،نصفي السفلي صار مثل صخرة ثقيلة ترقد بجانبي ،كنت أحس أنني قد شطرت نصفين ،كنت أمضي رويدا رويدا إلى الصمت ، ولم أفكر حينها في الموت ، ربما كان يساوي حينها عطلا في سيارة ،أو حادثا في الطريق ،أو جرعة زائدة في الالم ..أو ربما لم أكن قد صادفته بعد...
سأعرف لاحقا أنهم حملوني في سيارة الجار المهاجر صوب موريزكو......
وأن الثقب الاسود بقي ينزف إلى ما لا نهاية
وأن الجدة فرمت بصلا كثيرا
كنت مثل رهينة تساق في كتيبة إعدام ، قلبي الصغير كان يخفق بسرعة ،وجسدي البارد يرتعش
كانت الطريق إلى موريزكو مأهولة بالنحيب الخافت والمجروح ، ممزوجا بهمهمات من رافقني في سيارة الجار.وكانت أحلامي الصغيرة تتراءى لي غيبا :مقلاع ابن الجار الذي يسقط العصفور من فوق السور ،الكرة الحمراء التي يجري خلفها أطفال الحي وهم يتباهون ، أفلام الكرتون على شاشة تلفاز الجيران ،الطائرات الورقية العائمة في الفضاء.....
موريزكو هل كان مشفى أم مقبرة ؟
موريزكو هل كان غابة من الصراخ أم بيت عزاء مأهول بالحزانى ؟
ماذا يقول ليل موريزكو ؟ماذا تحكي تضاريسه الباردة وعتماته المقفرة ؟
وكان جراحي تنزف مخلوطة برائحة البصل والدموع ،
موريزكو الوحشة الجاثمة على الأنفاس حين يهجم الليل ،وتجثو العزلة على قدمين حجريتين عملاقتين ،حيث القطط الشريدة تحرس الامكنة وتستوطن العتمات ،وحيث البعوض يتربص بطرائد لم ينضج داخلها الموت بعد ،طرائد أنهكها السعال وأتعبها ضجر الإنتظار
موريزكو قدري العابس أنا الخارج لتوي من "مرض الملح" إلى شرخ عميق فوق العجيزة ،
أنا خائن الفرح الوحيد .
موريزكو الذاكرة التي لا تشيخ ،رائحة الوجع والموت
وكنت أغفو ثم أصحو ثم أغفو على صوت البكاء بداخلي ،كان كل شيء ينهار أمام عيني ، الضوء الذي أراه يتقلص رويدا رويدا إلى أن صار قبسة طيف رهيف ،بقعة باهتة ...ثم لا شيء..
كانت اليد البيضاء التي سترمم الثقب الأسود الفاغر فاه ، تخيط الأشلاء ،واليد التي لكزتني فسقطت أرضا ،واليد التي فرمت بصلا دعكته بين أصابعها مخلوطا بأدعية محفوظة عن ظهر قلب ،واليد التي ستحملني لاحقا إلى موريزكو جسدا نحيفا كخيط ريح ، ـشاحبا كقشرة موز تعفنت في العراء ، هي نفسها اليد التي بها سأكتب ،أ رثق نتوءات الأزمنة الفاحمة ..
وها أنا كأني أدمن الكتابة بماء البصل ، أنزف مثلما تنزف الكلمات ..
أنا الراوي وأنا الجريح ، ذاكرتي ممتدة في الحزن ، جسدي مثقل بالألغام








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع


.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو




.. كلمة أخيرة - كواليس مشهد رقص دينا الشربيني في مسلسل كامل الع


.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا




.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب