الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اشجان الماضي … ! ( قصة قصيرة )

جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)

2020 / 10 / 21
الادب والفن


الكابتن هاني … رجل على حافة الكهولة تبدو على محياه ظل ابتسامة حزينة تحمل اكثر من معنى بالنسبة لي … يحمل على اكتافه اسفارا قد ناء بها جسده الضئيل الذي انهكته السنين ، وما كان في أحشائها من ذكريات … التقيته في فسحة من فسحات الزمن في احد المقاهي … توثقت بيننا بسرعة وشائج المحبة ، والصداقة ، والتواصل ، وكنا كلما جمعنا لقاء ننساق مع حنين الذكريات القديمة التي يكتظ بها راس الكابتن هاني … والتي تُنسينا مرور الزمن … ولا اخفيكم سرا … اننا من نفس الجيل ، واعمارنا متقاربة وزمننا واحد … زمن الجمال ، والحب النظيف البعيد عن الاسفاف الموجود هذه الايام …
ثم وجدت في نفسي الشجاعة لأسأله يوما عن سبب امتناعه عن الزواج
فقال في همس كأنه يفضي لي سرا خطيرا … الحب ، يا صديقي العزيز … !هذا الداء الذي يرافقك الى آخر العمر …!
افهم من ذلك ان الحب هو من منعك من الزواج ، وما اعرفه انه هو من يدفع الناس دائما بهذا الاتجاه … !
اجاب بعد ان اخرج سيجارة ، واشعلها بيد مرتعشة … ثم اخذ نفسا عميقا ، والحقه بآخر … كأنه يريد الابتعاد عن الواقع ، والتهيؤ للسلطنة التي يتوهم ان الدخان سيبعثها في روحه ، وينشّط مخيلته التي ربما اتعبتها الايام ، وتزاحم الذكريات … ثم تنهد ، وكأنه في كرب شديد … واستغرق في التفكير ، وهو يناجي احلامه ثم قال :
رايتها عن طريق الصدفة في بيت احد اقاربي … فتاة غاية في الجمال ، والاخلاق ، والهدوء انجذبت اليها على الفور ، وكأنها هي المرأة التي كان قلبي يبحث عنها ، واخيرا وجدها … واستمر التواصل بيننا اما عن طريق الرسائل او اللقاءات بعيدا عن اعين الرقباء ، واستوطن الحب ، واستقر فينا ، واكاد اجزم بانها قد بادلتني نفس المشاعر على الرغم من انني كنت لا اوافق على هذا الافتراض لان حبي لها لم يكن له مثيل ، ولا مجال لان يتساوى معه اي حب آخر على وجه هذه الارض حتى ولو كان منها … هكذا كنت اؤمن ، واعتقد ، واندفع … !
بقيت هائما بحبها لا تفارقني صورتها ، وخيالها منذ بداية يومي ، وحتى آخر اغماضة لاجفاني المتعبة … وكما تعرف فقد كان عالمنا غير هذا العالم ، وزماننا غير هذا الزمان … فكان التواصل بيننا يتم عن طريق الرسائل … اقصد الورقية !
فكنت اقضي جل ليلي ، وانا اسطر لها مشاعري ، واحاسيسي ، وابثها حبي ، ولوعتي ، واعبر لها عن اشواقي ، وهيامي بالاوراق التي امامي لابعثها صباحا بيد شقيقتي الصغرى بعد ان اوصيها ، وافهمها كيف تعطيها الرسالة ، واذا كان هناك من رد تاتيني به على الفور …
فقد كان مجتمعنا محافظا لا يجروء احد منا على اخراج لحظات عشقه للعلن … وانما كان كل شئ يجري تحت ستار من السرية التامة …
وبما انني كنت شابا مستقيما مجتهدا في دراستي … احقق نتائج ممتازة … فقد تخرجت من الاعدادية بمعدل ممتاز … ساعدني على الحصول على بعثة الى المانيا لدراسة الملاحة البحرية لاربع سنوات لاتخرج كابتن بحري … كانت فرحتي باهتة بالبعثة على الرغم من انني كنت محسودا من الكثير من اقراني ، وزملائي في الدراسة …
كيف لي ان اتحمل فراقها كل هذه السنين ، ومن يضمن لي ان لا يخطفها احد غيري … حتى اصابني التعب ، وكنت على وشك البكاء عندما التقيتها في لقاء اخير مدبر من قبل قريبتي … وكان لقاءً لاتزال رائحته ، وعذوبته ، ومرارته على لساني ، وروحي ، وعقلي حتى اللحظة على الرغم من مرور عشرات السنين ، وكانه قد حدث بالامس …
وعرفت بعد ان سافرت الى المانيا ان ابن عمتها الذي كان يكبرها بعشرين سنة ، وهو رجل قد فاته قطار الزواج لكنه يحتل منصبا اداريا جيدا في الدولة اخذ يحوم حولها يروم الزواج بها ، ولكنه فشل في اقناعها في البداية ، وبسبب ضغوط تعرضتْ لها من قبل اهلها ، وما قدموه لها من مغريات ، وضمانات زائفة جعلها تستسلم دون شروط …
وهكذا قضت المقادير بان تتزوج وان تتركني وحيدا اعيش هذا النوع الجديد من الالم … تالمت وانا ارى حلمي يُشيع الى القبر … وآمالي في حياة جميلة تتبخر كالحلم …
وعلى الرغم من النجاح الذي كنت احققه في دراستي الا انني كنت اعيش في جو من الصمت ، والقلق ، والضمأ … لم اكن استطعم شيئاً ، ولا اتذوق للحياة نكهةً رغم جمالها ، وروعتها في ذلك البلد الجميل ، وناسه الرائعين …
واستمرت عجلة الحياة بالدوران رضينا ام لا … ولكنني لم ابرء من جروحي ، ولم اعود الى كامل توازني … فقد كنت تائها فاقدا جزء لا يعوض من كياني ، وشخصيتي … وانتهت السنين ، وعدت الى ارض الوطن ، ولم اجروء ان اتقدم خطوة واحدة باتجاه رؤيتها ، او التقرب منها لانني كنت مؤمناً ، ولا ازال … بانها اصبحت محرمة علي ما دامت ملك رجل اخر … فقيمي لا تسمح لي بهدم شئ قد بناه غيري ، واعتقد باننا متقاربان في هذا الرأي … فنحن من جيل واحد ، ومفاهيمنا تكاد تكون متطابقة … !
وتمر السنين ، واسافر سندبادا اتنقل من ميناء الى آخر ، ومن بلد لاخر ، وكانت حياتي لمن ينظر اليها بمنظار آخر غير منظاري سيجدها من اجمل ما يكون … لكنني لم اكن اتذوق منها الا ما يسد حاجتي الضرورية فقط على الرغم من ارتمائها تحت اقدامي … تتوسل ان آخذ المزيد ، والمزيد منها لكنني لا ادري اهو غباء مني ، ام زهد ، ام شئ آخر لا ادري سمه ما شئت … بقيت زاهدا اقنع باقل من القليل منها … عندما اتذكر تلك الايام … يغمرني احساس غريب يقول بأن الحب عندما يكون بالغ القسوة … يقتل فينا جزءً من الروح ، وربما يؤثر على العقل ايضا … !
وجاءتني الاخبار من الوطن بان حبيبتي قد تركها زوجها بعد ان اصبح عندها ثلاث بنات جميلات مثلها كما يقول ناقل الخبر … ويقال بان زوجها لسبب غير معروف قد ادمن الخمر ، وترك وظيفته حتى افلس ثم تاه بين الحانات يستجدي جرعة من هذا ، وجرعة من ذاك بعد ان سقط في وحل الادمان ثم اختفى ، ولا احد يعرف له مصير … اما حبيبتي ، وبناتها فقد عدن الى حضن البيت الكبير مع بقية الاسرة مع زيادة ثلاثة انفس …
ولم احاول تجديد ما انقطع بيننا ، وبقيت منكفأ على ما تبقى من جروحي مقتنعا بما رسمته الاقدار لي … وواصل كل منا حياته … قاطعته متسائلا : الا يمكن ان يكون عملك كربان باخرة كان سيشكل عائقا في زواجك منها لو قُدر ، وانها لم تتزوج من ابن عمتها مثلا ؟
قال وهو يسحب نفسا عميقا من سيجارته : قد يكون ، ولكن القفز على هذا الاحتمال لم يكن محالا … فانا كان بامكاني ان اتحول الى عمل اداري على الارض كأن اكون مستشارا ، او مدرسا في الاكاديمية البحرية ، او حتى كنت استطيع الزواج بها ، واصطحابها معي في رحلاتي على الباخرة … فانا الكابتن … والكابتن على سفينته الاه ، او كرئيس الجمهورية … وهذا ما فعله الكثير من زملاء المهنة …
اما ، وبعد ان فقدت الامل بها قررت ان لا أسيم نفسي مزيداً من العذاب ، والذل … فكرست حياتي ، او ما تبقى منها لعملي ، ولحياتي المليئة بالمخاطر ، والمغامرات ، ولا اخفي عنك انني كنت استمتع بها غاية الاستمتاع … !
وتفلت منا السنين ، وكانها حفنة ماء على راحة اليد فوجدت نفسي ، وقد شارفت على المعاش ، والحياة مهما امتدت ، يا صديقي … فهي مشرفة على المغيب لا محالة … وهي قد تتركنا وراءها … ماضيةً في مشوارها ، وجلبتها دونما توقف ، وكأن شيئاً لم يكن … !
هل تدري بانني لم احاول يوما ان ارى حبيبتي على الرغم من انني كنت استطيع ذلك ، وبكل سهولة … لماذا ؟ حتى لا تتغير صورة تلك الفتاة التي احببتها يوما ، لتبقى هي هي في نظري ، وخيالي دون تغيير … بعيدا عن عبث السنين ، وآثار الزمن كما فعلت بي بالتاكيد …
واليوم … اعيش وحيدا في شقتي … في زي جديد من ازياء الحياة … مودِعا مرارة الالم التي ذقتها قبل اوانها … لا ينقصني شئ من مباهج الدنيا ، ولم يبقى من ذكرى حبيبتي ، واحلام الايام الخوالي الا الشذا … هكذا هو حال الدنيا على كل حال … !
ثم اشعل سيجارة اخرى ، واخذ منها انفاسا متلاحقة ثم دعاني الى شقته … بعد ان حرّك فيَّ حنين الذكريات انا الآخر … لنمضغ معا احاديث زمننا الجميل ، ونكمل اشجان الماضي على ايقاع الكأس ، ورنين الذكريات … !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا