الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: مستهل الفصل الرابع عشر

دلور ميقري

2020 / 10 / 21
الادب والفن


1
عودة صالح نهائياً من الجزيرة، لم تكن مفاجئة بالنسبة لبيان، ولا أيضاً معرفة تعثّر أعماله في تلك المنطقة النائية من البلاد. أخوها ديبو، كان قد رجع قبل الأب بنحو ثلاثة أشهر؛ هوَ مَن عمل هناك على الحافلة الكبيرة، المسيَّرة بين القامشلي وحلب. أخبر أخته وقتئذٍ بموضوع بيع أبيه للحافلة الكبيرة، وأنه يبحث أيضاً عن ملّاك جديد لمزرعته في ناحية رأس العين. ثم أضاف الأخُ بعد وهلة وجوم، بنبرة متهدّجة: " إنه يعاني من تشمّع الكبد، ونصحه الطبيب بالمعالجة في دمشق ". ديبو، بقيَ متعلّقاً بشدّة بأبيه، على الرغم مما لاقاه وأمه على مر الأعوام من الظلم والاهمال.
عانقت بيان والدها عند عتبة الدهليز، ثم مشت أمامه باتجاه منظرة الحديقة. مع أن الإنارة هنالك كانت مقتصرة على مصباح كهربائي شحيح الضوء، فإنّ القادمَ دُهش مما حفلت به الحديقة من الأشجار والأزهار والعرائش. قالت له، مجاهدةً في خلقِ جوٍّ مرح: " كنتَ قدوةً لجمّو، لما فكّرَ بإنشاء الحديقة والمنظرة ". ثم أضافت، متسائلة: " ولكن أين والدتي وأخوتي؟ ". سألها بدَوره، وكأنما لم يسمع ما قالته: " هل زوجكِ في الدار؟ ". أخبرته بإيجاز عن ملاحقة السلطات لجمّو، بتهمة التحريض على الاضراب، وأنه يختبئ منذ فترة في بيت أحد أصدقائه. ثم عادت تستفهم منه، ما لو رجع لوحده من الجزيرة. رد عندئذٍ باقتضاب: " تركتهم قبل قليل ثمة، في منزل عمتك سلطانة ". ثم أخلد إلى الصمت، مطرقاً برأسه إلى الأرض.
نهضت بيان من مكانها، قائلة أنها ستعدّ له العشاء. لكنه أعلن عن نيته الاخلاد للفراش، كونه لا يشعر بالجوع. كان واضحاً، أن أحداً أزعجه قبيل وصوله لدار ابنته. لما ألحّت على معرفة ما يكدّره، فإنه زفرَ أنفاسه بحرقة: " حسنٌ أنكم رفعتم الجدران بينكم وبين الآخرين "، قالها ثم أضاف بنبرة مرتعشة: " منذ قليل، طرقتُ على باب سلو دونَ أن أعرف بموضوع تقسيم الدار. هل تعلمين كيفَ قابلني؟ قال لي، أنه ظنني في العتمة أحَدَ المتسولين أو المتشردين. الخسيس، المأفون! لقد نسيَ كيفَ كان ضيفاً دائماً على سفرتي، وكيف كان يشد وسطه ليرقص على أنغام الحاكي أو المذياع في خلال السهرة ". سكتَ لبرهةٍ، ثم استقام واقفاً بظهرٍ أحناه المرضُ والخطوب: " أرغبُ بالنوم حالاً، يا ابنتي ". فيما كانت بيان تردد الدعاوي على سلو وامرأته، كان والدها يسير أمامها وهوَ يتمتم: " ما ينتظرني غداً، في منزل شقيقتي، ربما سيكون أدهى وأمرّ ".

***
صدقَ حَدَسُ صالح، لأنه في اليوم التالي غادر دارَ شقيقته مع الأسرة، شبه مطرودين. كان قد طلبَ من سلطانة إعادة البيت له، بمقابل مبلغ يفوق ما حصل عليه عندما اشترته منه. " الهارون المسعور "، كما وصفها شقيقها، لم تكتفِ بالهزء به، قائلةً: " خسئتَ، يا هذا! ". لقد رفضت أيضاً دفعَ ما بقيَ بذمتها من ثمن منزله، مدعيةً أنها سددت كامل المبلغ قبل سفره إلى الجزيرة. لما شاءت تعزيز كلامها بشهادة رجلها، فإن هذا نهضَ للفور كي يغادر المجلسَ مدمدماً بحنق. هكذا آبَ صالح مع أسرته إلى منزل ابنته بيان، ركوباً في سيارته. تركهم هناك، وما عتمَ أن توجه ليقابل ابنَ عمه، آكو. هذا الأخير، نصحه على الأثر بشراء قطعة أرض لصق داره، تعود ملكيتها لقريبهما، المدعو " هُرّك ". استدعيَ القريبُ، وكان من الشهامةِ أن رضيَ بيع قطعة الأرض دونَ حاجةٍ لمساومة. مكث صالح وأسرته في ضيافة آكو لأسبوعين آخرين، لحين أن تم تعمير الجزء الحيويّ من منزله. كأنما انتقاماً من نفسه، كونه تخلى عن داره القديمة ذات الحديقة الساحرة؛ فإنه رفضَ زرعَ أيّ شجرة أو حتى شتلة واحدة من الأزهار. الخطوة التالية له، على هدي الانتقام الذاتيّ، كانت طرحه سيارته للبيع.
أمتلكَ صالحُ سيارةً من نوع " فورد "، بليت من كثرة الاستخدام طوال ما يقارب الثلاثة عقود، بحيث أن لونها الأسود أضحى رمادياً. لكنه لما اشتراها، وقادها عبرَ جادة الحي المكتظة بالدواب وعربات النقل البدائية، عُدت بمثابة المعجزة في نظر من رآها. في كل مرةٍ، وطوال سنوات، كان الأطفال يلاحقون العربة الحديدية، السحرية، التي كان ينقصها أجنحةٌ لتغذّي خيالاتهم، المتخمة بِسِيَر الجن والعفاريت. في البدء، كانت سرعتها لا تتجاوز الثلاثين كيلو متراً في الساعة. على مر السنين، أبدل الموتور أكثر من مرة، لتغدو سرعتها مضاعفةً. بسببها، دخل حجرة التوقيف وواجه المحكمة، لأول وآخر مرة في حياته؛ وذلك لما دهسَ طفلاً على طريق سوق الجمعة، وكان الوقتُ مساءً والظلمة مطبقة. تشاءم عندئذٍ من السيارة، وعرضها لمن يرغب بشرائها. لكنه سحبَ العرضَ، بناءً على ضغط حماته، المرحومة عايدة، وكان قد تعرّفَ عليها بفضل السيارة؛ عندما أوصلها لبيتها، ذات يوم، وعرفَ فيها أرملة صديق والده. ثم تكاثرت السياراتُ في حيّه الشعبيّ، وكان بعضها على أحدث موديل. فلما سار بالفورد القديمة لأول مرة في دروب الجزيرة، في مستهل عقد الأربعينات، استعاد بغاية السرور دهشةَ الناس وذهولهم لمرآها. يُقال في هذا الخصوص أيضاً، أنه أول من أدخل الحافلة الكبيرة، ( الأوتوبيس )، لتلك المنطقة النائية.

2
مع مرور الأيام، نهضَ صالح نوعاً ما من كبوة الاحباط والخيبة. من الناحية المادية، كان مؤمّناً من غدر الزمن. حصيلة بيعه المزرعة والأوتوبيس والسيارة، وفّرت له حوالي سبعة آلاف ليرة؛ وهوَ مبلغٌ جسيم في ذلك الوقت. موضوع مرضه، أضحى معروفاً من الجميع، وكذلك زياراته الدائبة لطبيب مختص في مركز المدينة. فضلاً عن ريما، نَهَدَت ابنتاه الكبيرتان إلى الاهتمام به. كلتاهما، كانت تضع عند الأخرى أطفالها وتمضي للعناية بالأب. رودا، كانت قد أنجبت صبياً عندما حملت أختها بطفلها الثالث. وما لبث بطنُ بيان أن انتفخ بحمل جديد، ما جعل زياراتها لدار الوالدين تقل رويداً.
في المقابل، نجحت بيان بحثّ الأب على قضاء ساعات من الصباح في المنظرة، يمتّع بصرَهُ بمشهد الحديقة وكانت ما تني على رونقها في خلال الخريف المبكر. شيئاً فشيئاً، وفي غياب جمّو بسبب الملاحقة الأمنية، راحَ صالح يولي عنايته للحديقة. صار يقلّم أفرع الأشجار وسيقان النباتات، ويفرغ البذور من الأزهار كي تستعمل في دورة جديدة من الحياة. لكنه، في المقابل، أضحى هنالك ضحيّة الذكريات، يستعيدُ غابرَ مجده جنباً لجنب مع تحسّره على لحظته الراهنة: لم يعبأ أحدٌ من أقاربه، أو جيرانه السابقين، بالسؤال عنه وهوَ في مستقره الجديد؛ ربما باستثناء ابن عمه، آكو، وابن عم بيروزا، علي.

***
الابنة الصغرى، تحيّة، وكانت قد بلغت سنّ الثامنة عشرة، تفتّح جمالها مثل أزهار الحديقة في أوان الربيع. أخذت عن أبيها اللون الأسود للشعر والعينين؛ ولكن دونَ طوله الفارع. أما الأم، فمنحتها لونَ البشرة الناصعة والقسمات المتناسقة. تربيتها، اتسمت بدلال مفرط من ناحية الأب بشكل خاص. لذلك نشأت على الترفّع والإباء، مع شيءٍ من الأثرة. لقد أُخرجت من المدرسة عندما كانت في المرحلة الإعدادية، مع أنها عُدّت من الطالبات المتفوقات. لم يبقَ لها سوى انتظار طالب القُرب، مذ أن أضحت في سنّ الزواج. في خلال العامين الأخيرين، رفضت عدداً من الخاطبين من أولاد الملّاكين في الجزيرة. كانت تضيق ذرعاً بالحياة في الريف، ولا غرو أن تُسعد بقرار الأب العودة إلى دمشق.
لكن الفتاة المدللة سرعان ما برمت بالعيش بين جدران المنزل الجديد، الكئيب والمنعزل. لذلك راحت ترافقُ الوالد في كل مرةٍ توجّه فيها إلى بيت بيان، وكانت في كثير من الأحيان تبيتُ هناك. أخذت على عاتقها أمرَ الاهتمام بأطفال شقيقتها، عندما تكون هذه منهمكة بأشغال البيت. مساءً، تقصّ للبنتين الحكايات الجالبة للنعاس، وتهدهد الصبيّ الرضيع حتى يغلبه الوسن. كانت تنام مع شقيقتها في حجرة النوم، لما علمناه عن اختباء جمّو في دار صديقه بديع في تلك الآونة. وجود تحيّة الدائب لدى شقيقتها، راحَ مع مرور الأيام يُدغدغ وساوسَ امرأة أخرى، تعيش في الجوار، وتكنّ أصلاً كراهيتها لنساء عشيرة رجلها جميعاً.

***
مزيّن، توهّمت أن بيان تعرضُ شقيقَتها الجميلة على أنطار فَدو. الأطباء، سبقَ أن أكّدوا لامرأته عدم قدرتها على الإنجاب، بسبب عائقٍ وراثيّ. ما جعلها عصبية ومتوترة، لا تطاق معاشرتها. وكان الرجل قد ورثَ وظيفة شقيقه الكبير، حسينو، كملاحظ لنواطير البستان. في غالب الأيام، كان يكتفي بالمرور مساءً على مرؤوسيه، ثم يمضي إلى السهرة عند أصدقائه؛ عقبَ انتهاء السهرة في ساعة متأخرة، يعود إلى البستان لتفقد الأحوال قبل ذهابه إلى منزله ليخلد إلى النوم حتى منتصف النهار. في حقيقة الحال، أنه كان يهرب من حضور امرأته ذات السحنة الكامدة والطبع الناريّ.
لم تكن مزّين، وهيَ في حالتها الموصوفة، تثق بزوجها أيما ثقة. نهاراً، عندما يتهيأ للخروج في شأنٍ ما، كانت تستجوبه عن مقصده. وعادةً ما يدمدم مغتاظاً، ثم يغادر الدارَ. تفتق ذهنها آنذاك على التجسس على حركاته، وفي هذا السبيل طلبت من إحدى الفتيات القيام بذلك. هذه كانت ابنة الجيران من آل حج عبده، وهيَ تصغر تحيّة بنحو العامين. والدها، كان آنذاك قد أضحى أرمل، يمضي النهارَ في مشغل خياطة يملكه بمركز المدينة. لذلك ألقى عبءَ البيت على كاهل ابنته الكبرى، وكانت هذه في عُمر رودا، علاوة على مساعدة من زوجتيّ شقيقيه.
ذات يوم، انتبه فَدو لتتبع سيره من لدُن فتاة صبية، تغطي هيئتها بملاءة سوداء. شاء عندئذٍ اختبارَ حَدَسِهِ، فترك طريق الجادة واتخذ درباً فرعياً يصعد إلى أعالي الحارة. وإذا بالفتاة تغذ الخطى خلفه. عمد على الأثر إلى انتظارها في مخبأ بين دارين، ولما حاذته خرجَ إليها ليقبض على يدها. حدّقَ فيها عن قرب، وكانت ترتجف هلعاً، فعرف فيها ابنة الجيران. اعترفت له فوراً بطبيعة مهمتها، وأنها تفعل ذلك لمجرد حبّ الفضول والمغامرة!

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث