الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خيانة جبل

عبدالرحمن حسن الصباغ

2020 / 10 / 22
الادب والفن


كلام الحجر فيه عبر
حدثنا حسون حسني المشخصاتي عن سي إسماعين ياسين عن شككو أفندي عن الشيخ الحالم قال قال جائتنا يوما إمرأة تعدت منتصف العمر ،قالت أنها من بادية كربلاء ولها أبن عاق يؤذيها ويعاملها بقسوة وهي لاتعرف أحدا ببغداد فطرقت أبوابا عدة تعرض خدمتها مقابل المأكل والمسكن وخلصت أخيرا لبابنا.كانت ملامحها وطيبتها الفطرية تدلل على صدق روايتها،فقررت والدتي مساعدتها وضمنت لها معاشا شهريا عادلا وعاملتها كواحدة من أهل الدار فعاشت معنا لسنوات عدة ليس كخادمة وإنما بمقام الجدة، حرة في تصرفاتها الى أن جائت يوما تريد السفر لكربلاء لرؤية إبنها فذهبت ولكنها لم تعد وما كنا نعرف لها عنوانا.كنا ندعوها بأم عباس وهو أسم ولدها الشاب ولم نكن نعرف لها إسما آخر.كانت غريبة الأطوار تعيش في عالمها الخاص الفطري المليئ بقصص الجن والأحلام العجيبة بعيدا عن ما يحيطها من رموز حضارية ملموسة كالتلفزيون والتلفون أو الراديو والسيارة أو المكيف وغيرها من الأدوات والأجهزة التي في تصورها أدوات تسيرها الشياطين والجان فكانت إذا جلست تتفرج على التلفزيون تلبس عبائتها الصوف وتضع خمارا على وجهها لكي لاتراها الجن كما تخمن التي تتنطط أمامها داخل صندوق السفتيون، هكذا كانت تسمي التلفزيون وأما التلفون فأسمه تلفتون...وغيرها من التسميات المبتكرة والكنيات لبقية الأجهزة والأشياء التي لم تعهدها من قبل تسميها بالأسماء التي تروق لها وكنا نطرب ونضحك لتلك التعابير الغريبة وياليتها كانت عضوة في نادي نحاة المصطلحات الجديدة والمترجمة .كانت تخرج في الضحى تدور وتدور في شوارع محلتنا وتعود بعد حين حاملة معها بعض الحصى المنتقاة بعناية وبألوان مختلفة كل مرة فلما سألناها عن سر ذلك أجابت بكل بساطة هي لتجهيز أحلام الليل، فأم عباس هذه لها تلفزيونها الشخصي فهي لاتنام إلا وعدد من الحصى تحت مخدتها تعمل كمولدات للأحلام المطلوبة لتلك الليلة أي بعبارة أخرى أم عباس هي من يختار البرنامج أو قصة الحلم وبمذا يتعلق الحلم فإن كانت تريد رؤية ولدها أو أقاربها في كربلاء أو مذا سيحصل لها في اليوم التالي... فسيتم ذلك من خلال أنواع الحصى وأشكالهن وألوانهن وترتيبهم تحت المخدة، هكذا تكلمت أم عباس وهي تشرح ميكانيكية إنتقاء الأحلام .أروي لكم هذه الذكريات التي مر عليها عهدا طويلا كمقدمة لحكاية خيانة جبل المليئة بالعبر لمن يقرأ ويفهم .ففي يوم من الأيام كنت في سوق شعبي للعنتيكة فلفت إنتباهي حصاة غريبة الشكل واللون كتب تحتها الحصاة الدامعة وسعرها خمسون أورو ،وعندما سألت البائع مالمقصود قال أنها تبكي قلت له كيف ذلك قال ضعها في راحة كفك وأطبق عليها وأنتظر قليلا فلما جعلتها في كفي شعرت بإضطراب خفيف داخل كفي ثم بحماوة متصاعدة فلما فتحت كفي رأيت إن الحصاة قد رطبت.إشتريتها دون تردد وأنا أعتقد أن الحصاة طليت بمادة تسخن متى ما مست الكف مما يؤدي لتعرق الكف .أنا أهوى التحف الغريبة فإشتريتها رغم غلاء سعرها.عند عودتي مساءا كنت جائعا فأسرعت للمطبخ لأسخن ماكنت قد طبخته ظهر ذلك اليوم ثم سارعت لخلع ثيابي فتذكرت الحصاة فأخرجتها ووضعتها على المائدة وجلست أأكل وأحدق بتلك الحصاة فتذكرت كلام البائع، إنها تبكي، فتبسمت وقلت في نفسي لو كانت حقا تبكي لوضع لها سعرا يعادل الخمسة آلاف وليس خمسين ولكني وأنا أتفحصها جائني بريق سائل يترقرق من نقطتين غامقتين على صفحة الحصاة لم أنتبه لهما في المرة الأولى رفعت الحصاة وفحصتها عن قرب نعم بالفعل كان على وجهها خطين رطبين ينبعان من بؤرتين، خضضتها قرب أذني فلم أسمع صوتا لسائل ما في جوفها ولم تفرز شيئا .....كانت دهشتي عظيمة ...عقلي يقول لي أن هنالك حيلة ما وعيني تكذبه فأيهما أصدق وفجأة خطرت ببالي فكرة إذ تذكرت أم عباس وديدنها مع الحصى.الجو خانق في غرفة نومي فتحت الشباك فجائني هواء لطيف ،وضعت الحصاة تحت مخدتي ثم أطفأت النور وقلت مخاطبا .... أيتها الحصاة الجميلة حلفتك بالواحد الأحد أن تخبرينا بقصتك وسبب نحيبك وحزنك.كنت على عكس المعتاد في تلك الساعة المبكرة غاية بالنعاس بالكاد أستطيع فتح عيناي فا لبثت بعد كلامي هذادقيقة أو أثنتين إلا وأنا في سابع نومة.........وإذا بي أسمع هاتفا يقول ,,,, لو سمعت وأدركت معنى قصتي تفهم محنتي......فياصديقي الذي يراني اليوم حصاة صغيرة بقدر ثمرة التين يستطيع وضعها تحت وسادته.... إعلم بإني كنت قبل هذا بحجم المخدة التي تضع عليها رأسك. وعلى الرغم من أني كنت مع بقية عائلتي الصخرية في قمة الجبل إلا أني كنت تواقة للأنفصال عنهم لأني نبذت العيش جامدة بلا حراك ،وفي ليلة ليست ككل الليالي واتتني الفرصة للهروب تحت جنح الظلام،فلقد كانت ليلة عاصفة راعدة على غير المألوف تحت وابل زخات مطرلم ينقطع لساعات طوال كنت فيها أرتعش ويهتز كل كياني مع كل ومضىة برق وقرقعة رعد ، وجائت اللحظة المناسبة حين ضربت الصاعقة رأس الجبل على بعد أمتار مني فإذا بي أقفز عاليا وأنحدر بجنون وعنف علىى سفح الجبل نحو الوادي السحيق.أول مرة أتحرك وأول مرة أتخلص من حكم قوانين الجماد يالها من سعادة ،أنا أتدحرج وأغتسل أتدحرج في ظلمة تشتعل ،كنت سعيدة وانا أرى صخورا أصغر مني تتحرر وتتدحرج هي الأخرى بفضل تحريكي لهن.تلك الليلة لن أنساها لقد كانت الفاصلة بين قبل وبعد.لم أكن أعلم ما يخفيه الزمان فلقد كنت في مقتبل العمر وتتنازعني رغبات مثيرة تعصف بي يمينا وشمالا.إنتابني الفزع وأنا أر ى أمواج النهر الفوارة وصوتها الهادر وهي تتقاذف وتصارع كل ما يخطر على بال من شجر وحجر وحيوانات فهل يمكن لصخرة كمثلي أن توقف إنحدارها نحو القاع علما إني قد فقدت توازني منذ اللحظة الأولى لأنفصالي وفقدت بعدها الكثير من هيبتي ووزني في طريقي للحضيض وكنت أقول في نفسي هذا هو ثمن لابد من دفعه لنيل حريتي فلا سبيل آخر غير التحمل والصبر فبعد هذا العناء لابد ستنفتح لي آفاق واسعة لن أستطيع تحقيقها لو بقيت ملتصقة بعائلتي وتحت وصاية الجبل الهرم جدي.ها أنا الآن في قاع النهر الوحش أنوء من ثقل وسحق الصخور فوقي وأذاها وتجريحها تحتي،لم اعد أعي ما يحصل لي من عذابات تحيط بي من كل الجهات وتحطمني نفسيا وماديا في كل دقيقة بل كل لحظة.بالرغم من أني من جنس الصخور ولا أتنفس لكني شعرت بالأختناق وأنا محشورة بين صخرتين والتيار فوقي مستمر بصخوره يسحقني فيتناوب تارة نحت ظهري وأخرى لبطني ففقدت الوعي أو ربما مت.هكذا بقيت حبيسة لسنوات لا أعرف عديدها حتى جاء اليوم الذي إنزاحت فيه الصخرة التي أمامي بقدرة قادر فتخلصت من حبسها وتحررت ولكني شعرت إني كنت خفيفة لم أعد أزحف على القاع وإنما أتنطط فأدركت أني فقدت من وزني الكثير الكثير أو قل فقدت قيمتي وتقديري فقيمة الصخور في وزنها فأنا لم أعد سوى حصاة صغيرة وسقيلة بما خبرته من معاناة وعذابات عاشتها تنوء وهي حبيسة في قعر النهر الذي يبدو أنه لم يعد بحاجة لها فلفظها على جانبه مع غيرها من الحصى من كل نوع وشكل ممن سولت لهم أنفسهم ترك أوطانهم .مرت الشهور والسنين وانا ملقاة على شاطئ النهر مهملة تدوسني أقدام المتنزهين دون رحمة فتزيد من غوصي في الطين حتى جاء من بعيدطفلا جميلا صباح يوم مشمس يمشي ببطء وينظر حوله بيده إناء فيه ماء وفي الأخرى كيسا فوقف فوقي وتأملني مليا فصب علي قدرا من الماء ثم أخرجني من الطين فصب علي الماء ثانية وفركني وغسلني ثم وضعني في راحة كفه ونظرني بعيون الأطفال الذين وجدوا على الأرض قطعة نقود فتبسم وجعلني في كيسه،انا طرت فرحا ففي النهاية تخلصت من الجمود والطين ودوس الأقدام ولكن فرحتي لم تدم طويلا ذلك ان الطفل عند وصوله لبيته صعد لغرفته وفتح درجا أخرج منه صندوقا ثم راح يضع في الصندوق ما جمعه في الكيس ثم أغلق الصنوق وأرجعه للدرج وهكذا أصبحت حبيسة سجن جديد وفي ظلام دامس هذه المرة لا أرى فيه أحدا، سوى الأحيان القليلة التي كنت أرى فيها النور كانت عندما يستدعي أصدقائه ليريهم مجموعاته من الصخور والحصى النادر.مرت السنون وأنا على هذه الحال وحياتي ظلام في ظلام أعيش فيها على ذكريات طفولتي وصباي وأبكي ندما وحرقة كلما تذكرت تلك الأيام الخوالي وأنا مع عائلتي في الجبل ومنظر العالم حولنا وتحتنا والهواء العليل والشمس والقمر ونجوم السماء اللامعة وأنوح حينما أذكر ماجرا لي عندما وصلت بقدري الى الحضيض ثم أبكي بغزارة لما ألت اليه في سجني المظلم هذا والذي حسبته آخر عذاباتي ولم أكن أتصور أن ماستحمله قادم الأيا م هو أتعس وأردأ ببعيد.كبر الطفل وأصبح صبيا يافعا فأنتقل للدراسة للمرحلة المتوسطة في مدرسة قرية أكبر تبعد مقدار خمسة عشر كيلو مترا عن قريته فطلب من والده مبلغا لشراء دراجة فأعطاه مبلغا يعادل ثلثي سعرها متذرعا بضيق الحال واقترح عليه شراء دراجة مستعملة ولكن الصبي يريدها جديدة مما إضطره لعرض كل مجموعاته من الصخور النادرة والحصى للبيع عند تاجر الأنتيكات في مركز المحافظة. بعد فترة وجيزة أتصل به تلفونيا صاحب المتجر وأخبره أن شخصا أعجب بمجموعته ويريد أن يراه غدا صباحا في العاشرة فإحزم رأيك وتعال .في اليوم التالي لاحظ الصبي أهتمام الرجل الأجنبي بمجموعته فبالغ بالثمن ولكن الرجل وافق بسرعة وأخرج من محفظته الثمن المطلوب وهويقول بالأنكليزية لكن عليك أن ترشدني بدقة عن المكان الذي وجدت فيه هذه الحصاة ذات اللون الأخضر الفاتح وهو يشير إلي بسبابته فعرفت أن لوني يدعى الأخضر الفاتح فوصف له الولد المكان بالضبط على خارطة كانت مع الرجل.أنا بالبداية فرحت أن الشاري تكلم عني دون باقي المجموعة فقلت بنفسي وأخير ستفتح أبواب السعد بوجهي إذ أن الرجل أعجب بلوني وشكلي ولهذا السبب لم يباليي بدفع ضعف القيمة ثمنا للمجوعة بغية الحصول عليّ، وربما سيهديني لزوجته فتصيغني بروشا يجمل صدرها وأخرج أنا معها للتنزه والتفرج في الحدائق والشوارع وأحظر الحفلات .. ولكن ...نعم هنالك ولكن ..لمذا طلب تحديد الموقع الذي وجدني فيه الصبي؟؟هنالك سرا ما.في اليوم التالي صحى الرجل الغريب مبكرا وبعد تناول الفطور سارع لأخذ آلة تصوير والخارطة ووضعني أنا في ظرف بلاستيك مربوط بخيط متين من الطرفين فعلقني برقبته ثم ركب سيارته وأتجه نحو قرية الصبي ومنها لموقع النهر ثم مشيا على الأقدام للمكان الذي عشت فيه مغموسة في الطين ثم سيرا على الأقدام بإتجاه معاكس لجريان ماء انهر، ورويدا رويدا صعودا نحو المنبع على سفح الجبل العظيم ثم أستمر بالصعود ببطء نحو القمة فأخذ يتجول ويلتقط الصور المختلفة لأنواع الصخور والطبقات الصخرية التي كان يفحصها بواسطة عدسة مضخمة صغيرة ثم وصل الى موقع هو بالتحديد مسقط رأسي فتناولني وقارنني بالصخور والطبقة التي أنفصلت منها وراح يهلهل ويردد عبارات فهمت منها ،،هذا هو حجر الجاد النقي ...وجدت الكنز في نهاية المطاف،،وأنا أسمع وأتعذب من شدة وقع المشهد عليّ وكدت أسقط وأفقد الوعي ذلك إني رأيت الموضع الذي كنت أشغله والفراغ الذي تركته بين الصخور في تلك اللية الشيطانية الحمقاء فحبست دمعي والعبرة تخنقني وقلت في نفسي هكذا إذن... فهو جاء لهاهنا ليرى المكان وينهبه بعد أن إشترانا بأبخس الأثمان وانا من دللته على الكنز ... ياللعار لقد خنت أصلي أهلي ووطني خنت الجبل الذي إحتضنني خنت أبي وجدي فيا ليتني مت قبل أن أولد وأتسبب في هلاك بيتي وأهلي.رجع الغريب للمدينة وأستصدر رخصة من المحافظ صديقه ،الذي كان يدرس من قبل في بلده، تمنحه حق التنقيب والأستغلال لمدة عشرون عاما وسيتم تخصيص حصة مناسبة ومعتبرة للمحافظ من أرباح الشركة الأستثمارية توضع في أحد البنوك الأجنبية.في الأسبوع الذي تلى جائت البلدوزرات والحفارات يصحبها جيشا من العمال وبدؤا بشق طريق يؤدي الى المنجم فقطعوا الأشجار وحولوا السفح الأخضر الجميل الى ساحة حرب تملؤها الخيام والحفارات واللوريات والدخان وأصوات الآليات يسمع ويرعب طيور الجبل وحيواناته. صحوت من النوم والأصوات المزعجة متواصلة وأبواق السيارات وزعيق أصحابها يمزق طبلة أذني .لقد كنت قد نسيت أن أغلق الشباك قبل النوم.قمت بصعوبة من فراشي الذي كان باردا كالثلاجة وأغلقت الشباك وأنا أعطس ،لقد زكمت حتما لعنة ألله على الزكام ومسبباته ومخرجاته وأخواته ، رجعت لفراشي وأخرجت الحصاة من تحت الوسادة لقد تغير لونها للرمادي .في عصر ذلك اليوم زارني صديق فحكيت له قصة الحصاة ولكني رأيته غير مقتنع بكلامي فقلت له إنتظر سأريك أياها جئت بها ووضعتها في كفه وطلبت منه غلقها فأغلقها وبعد دقيقة قال أنا لا أشعر بأي حرارة، فتح يده فرأيت الحصاة قد تغير لونها للرصاصي وليس عليها أي سائل ولا حتى أسم رطوبة فعرفت أن روحها قد فاضت بعد أن حكت قصتها ولكني أتسائل هل للجماد روح؟ وبالمقابل أليس هناك أنواعا من البشر تعيش حولنا يقال أن لها أرواح ولكنهم في الحقيقة أقرب للجماد من الجماد نفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت


.. اختيار الناقدة علا الشافعى فى عضوية اللجنة العليا لمهرجان ال




.. صباح العربية | نجوم الفن والجماهير يدعمون فنان العرب محمد عب