الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 18

آرام كربيت

2020 / 10 / 23
الادب والفن


بعد لقائي مع الكاتب والمفكر موفق محادين بأسبوع واحد حصلت على الأقامة المؤقتة في منظمة الأمم المتحدة في الأردن.
ذهبت إلى مقر المنظمة في الشميساني وهي منطقة راقية في وسط عمان، أخذت بطاقة الهوية الجديدة التي تدل على قبولي فيها.
قالت لي المسؤولة:
ـ هناك دورة للغة الأنكليزية في أحد أحياء عمان، لم أعد أذكر أسمه، هل ترغب في الدراسة؟
ـ بالطبع أرغب.
وعملت مقابلة معي عن ظروفي وطريقة عيشي ومواليدي وحياتي السابق تدون كل شيء في جهاز الكومبيوتر، ثم وضعت اسم السويد، قلت لها:
ـ لماذا وضعت اسم السويد مباشرة دون أن تسأليني؟
ـ لأنه لديك أقرباء فيها، هذا سيسهل لك اللجوء.
ـ حسنًا، شكرًا لك. ولكن لماذا تعطون البعض بعض النقود ولا تعطونه لغيرهم؟
ـ في مثل وضعك، لديك أقرباء في السويد وبالتأكيد لست بحاجة للنقود؟
ابتسمت ابتسامة صفراء ساخرة، قلت:
ـ تقررون بالنيابة عن الأخر، من قال لك أنهم يرسلون لي النقود؟ لكن لا مشكلة.
شعرت بالارتياح، أنني لن أعود إلى سوريا أو إلى السجن.
وبمجرد أن خرجت من سوريا ذهب الأمن السياسي والعسكري إلى بيتنا في الحسكة، وسألوا والدي المسنين:
ـ من أين حصل آرام على الجواز السفر؟ من سهل له الحصول عليه؟
كانت لهجتهم عدوانية جدًا فيها غرابة كبيرة وحيرة. وكيف أنني خرجت بسهولة من سوريا دون أن يعرفوا.
في الحقيقة حصلت على الجواز في السادس من أيلول العام 2001، بقيت في بيت أهلي يومين، وزرت بيت أخواتي في القامشلي، ودعتهم، ثم عدت إلى الحسكة، وفي الثامن من أيلول اتجهت إلى دمشق، وفي التاسع منه توعدنا أنا وسمر على اللقاء في حديقة الجاحظ، في موقف الحجاز التقينا ثم ركبنا التكسي معًا باتجاه أبو رمانة، وقبل أن ندخل الحديقة اشترينا فنجانين من القهوة، ودخلنا إليها وأخذنا مقاعدنا، ننظر إلى بعضنا دون أن تعلم أنني حصلت على الجواز، ولم اتصل بها أخبرها مخافة أن يكون هاتف بيتنا مراقبًا.
بعد أن استرخينا قليلًا، وفنجان القهوة والسائل يتحركان في يدي، قلت لسمر:
ـ لقد حصلت على جواز السفر وسأسافر قريبًا!
ـ ستسافر، متى؟
ـ غدًا.
ـ ماذا.. ماذا تقول، كيف ستسافر وتتركني.
ـ تحدثنا حول هذا الموضوع مرات كثيرة، وقلت لك سأسافر بمجرد حصولي على جواز السفر. سأرحل عن هذا البلد نهائيًا، ولن أعود إليه مرة ثانية. الذين يحكمون هذا البلد همج برعاية دولية همجينة. إن السجون فيه سيستمر ما دام هناك الولايات المتحدة مهيمنة على النظام الدولي. أريد أن نرحل معًا، أن أسبقك أولًا ثم تلحقين بي، ونصل معًا إلى السويد ونبدأ حياتنا هناك.
قالت لي:
ـ لن أترك سوريا، هذا وطني ولن أبدله بكنوز الأرض كلها. أبق معي يا آرام لا ترحل، الغربة عالم الموات والقهر والعزلة.
ـ ليس لي مستقبل في هذا البلد. لقد اكل لحمي وعظامي. لقد شوهني وقتل الجمال والحرية في داخلي وحولني إلى كائن منفصل عن عالمي. لا أحد يعرف مأساة السجين كالسجين ذاته. ماتت الحياة في حياتي، في هذا المكان اشعر بالقرف من كل شيء، الصنم ذاته، أي النظام في مكانه ولن يرحل، الفتور ذاته في عيون الناس.
بكت صديقتي، وجهها الأبيض الجميل المورد بان آية في الجمال، قالت:
ـ هل ستتركني وحدي للوحدة والفقد والغياب والانتظار؟ أبق هنا نبني حياتنا معًا. أنا في الثامنة والعشرين، ما زال الوقت مفتوحًا لنا أن ننجب طفلًا ونبي بيتًا وأسرة
ـ الموضوع لا علاقة له بما تقولين، هذا الوطن لم يعد وطنًا، أنه وطن المخبرين والمخابرات، وأنا لست على استعداد أن أذهب كل يوم إلى فرع المخابرات عندما يتم استدعائي، لقد ملت ذاكرة بل تعبت من الأقنية المعتمة والأقنعة والروائح النتنة ووجوه الأمن القبيحة والقذرة.
لا أريد العودة إلى السجن، اسمي أسود وملفي في بطاقتهم أسود وسأبقى منتظرًا طرق الباب علي وعلى أطفالنا بعد منتصف الليل. لا أريد لأطفالنا ان يعيشوا في جو مضطرب وحزين وفي حالة خوف وانعدام الأمان والأمن.
وفي حال قيام أية حركة اجتماعية قادمة سأكون أنا والذين مثلي أول من يتم استدعاءهم، ثم في الزنزانة. لست مستعدًا للمغامرة مرة ثانية، وأن أكون كبش فداء لمجتمع غير جاهز في الدفاع عن نفسه.
لست ملائكة يا صديقتي، السجن الطويل روضني وقلم أظافري وقصقص أجنحة الطيران في جسدي. أنا اليوم عاري أمام نفسي وزمني. لم يعد لدي وطن احتمي به ولن يكون في المستقبل. مات الوطن في ذاكرتي وعقلي. وطني اليوم هو سقف وخبز وبقايا بقاء على قيد الحياة. الوطن يموت بوجود دولة ميتة. الدولة هي البناء الناظم لحياة الإنسان المعاصر، فإذا ماتت مات الإنسان في هذه الحضارة بعد أن ماتت الطبيعة وبراءتها قبل هذا.
كان الحزن الكبير مخيمًا على كلينا، كانت عيني على الطريق القادم من المستقبل محفوفًا بالمخاطر والحاضر مضطرب وغامض، وصديقتي الجميلة واقفة تنظر إلي بحسرة. كانت لحظة الحسرة، ونقطة افتراق رهيبة، أخر كلمة قالتها لي، لا تذهب. أبق هنا. لن تعرف لك حياة في الغربة.
قلت:
إن من يحكم سوريا مجرد غزاة يا حبيبتي، والغزاة لا يستولون على الأرض بالقوة فحسب, أنما على الدين والأخلاق والأغاني والموسيقى وآلات العزف والرقص, ومجمل الثقافة والتراث. من قال أن الغزاة لا يبدعون؟ إنهم يستولون على كل شيء, بيد أنهم لا يضيفون لنا إلا الخراب.
إن الانحطاط صفة كاملة ستمتد إلى عالمنا كله، لكنه بدأ في بلادنا برعاية عائلات ميتة مقيمة في أبراج عالية لديها همًا واحدًا هو التدمير الممنهج للأرض والسماء والماء. وإذا بقوا بقيت الحياة ميتة.
حضنا بعضنا وانفصلنا أمام أنظار المارة في الحديقة العامة الجميلة في وسط النهار في أرقى أحياء دمشق على مسافة واحدة من أبنية السفراء الأجانب.
كانت الدموع تملأ عينها وقلبها، وكان الافتراق، ومشى كل واحد في طريق مخالف للطريق الذي كان.
ذهبت إلى المحل الذي كنت أحاول العمل فيه، والذي خاب بالكامل أملي منه وإحساس مركب بالحزن مما آل إليه الأمر، وشعور مرير أن صاحب المحل، الرفيق والصديق طعنني في صدري من الخلف.
في المساء ذهبت إلى غباغب برفقة الصديق والرفيق المرحوم حمزة حبوس، سهرنا معًا ولعبنا مع طفليه الصغيرين وتعشينا وضحكنا، وحضرنا حفلة عرس مع أبناء القرية، دبك فيها حمزة كما لو أنه لم يدبك سابقًا مع أهل القرية، ثم عدنا لبيته ونمنا.
حمزة كان معي في السجن، ولا يوجد من يحن على السجين كالسجين نفسه، لدينا شعور مشترك أننا أولاد محنة واحدة.
لقد خرج من السجن قبلي بتسع سنوات، عاش في ضيعة أهله وناسه.
في الصباح حملت حقيبتي الصغيرة، بضعة ثياب بسيطة، وخرجنا من البيت بعد أن ودعت أولاد حمزة وزوجته، وذهبنا باتجاه الطريق العام ووقفنا ننتظر، وبمجرد رأينا المكروباص ودعنا بعض، وفي هذا الوداع كنت واصل لقناعة تامة أنني لن أرى حمزة بعد اليوم.
وحمزة توفي في العام 2008، بكيته كما أبكي نفسي يوم موتي.
نزلت في مدينة درعا في العاشر من أيلول وكان يوم الأثنين، اتجهت نحو موقف سيارات الإجرة، سيارات قديمة جدًا شبه مهترئة، وكل سائق بالقرب من سيارته، اتجهت نحو إحداها، وطلبت من السائق الأنطلاق نحو الرمثا في الأدرن.
على الحدود وقفنا، كنت خائفًا إلى حد كبير أن يوقفوني، بيد أني كنت متسلحًا بشيء واحد أنه لا يوجد إنسان يعرف عن فكرة سفري إلا من قبل القلة القليلة جدًا من الأصدقاء الموثوقين بهم جدًا، بيد أن المونولوج الداخلي يفعل فعله.
وقفت السيارة على الحدود وبيني وبين الوطن الأخر مئة متر، فيها حياة أخرى مختلفة عن السابق. اقتربت من دائرة الهجرة قدمت الجواز السفر وعيني مركزة على ملامح الموظف، قسمات وجهه، على يده وقلمه وحركاته وسكناته، وكل شيء فيه كان مثيرًا في هذه الدقائق السريعة القلقة. ختم الجواز، وقال لي:
ـ مع السلامة.
في الوسط، وسط الطريق كان حافظ الأسد والملك حسين ورائي، والملك عبد الله وبشار الأسد أمامي، كلاهما يرمزان إلى مرحلة صراعات عبثية قديمة كانت وتبخرت، والصراعات العبثية القادمة قادمة، أنها بلادنا اللامنطقية، بلاد العمليات العبثية لإدارة أزمات النظام الرأسمالي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع