الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنترنيت والنهاية السريعة لإحدى السرديات الكبرى للحداثة الفائقة

فارس إيغو

2020 / 10 / 24
العولمة وتطورات العالم المعاصر


حوار مع رومان بادووار أجرته آن ـ لورين بوجون، مجلة إسبري، تموز ـ آب 2019، ص: 70 ـ 76.
ترجمة فارس إيغو
ملخص للحوار
يتحدث كتاب الباحث الفرنسي رومان بادووار المتخصص في اقتصاد الإعلام في العصر الرقمي والاقتصاد الرقمي، وتاريخ المعلوماتية وشبكات الاتصالات، والمجتمعات والرقمانية. وفي كتابه ((نزع السحر عن الإنترنيت)) يتساءل المؤلف: هل أصبح الإنترنيت عدو للديموقراطية؟
إشاعات، أخبار كاذبة، تحرش، الدعاية المغرضة، الرقابة الشاملة. أما النقاش العمومي على شاشات التواصل الاجتماعي فقد تحوّل إلى ساحة للحروب الإيديولوجية. ومع ذلك، من عشر سنوات كنا نشيد بحفاوة بمثالية الإنترنيت باعتباره الأداة التي ستوصلنا إلى التجدّد الديموقراطي عن طريق توسيع النقاشات العمومية إلى أوسع شريحة ممكنة من المواطنين. كيف نفسر مثل هذا الانقلاب؟ هذا الكتاب يقدّم للقارئ أشمولة واضحة وتعليميّة حول الرهانات السياسيّة للإنترنيت. يبيّن الكاتب بأن السلطة تسكن في داخل هذه التكنولوجيات الجديدة. ويحمل الإنترنيت في تقنياته ذاتها النموذج الجماعاتي أو الطوائفي والنحلي، والذي يشجع على الإنقسامات الانكسارية أو الانشطارية. في هذا العالم الاصطراعي بصورة عنيفة، الرهان ليس في التواصل والتبادل، ولكن في استعمار الفضاء الافتراضي. إن غياب التنظيم والتشريعات الناظمة لهذا الفضاء الجديد سوف يحمل معه أخطار حقيقية على ممارسة حرية التعبير. إن الدفاع عن الإنترنت كصالح مشترك هو ما يحدث اليوم. ولأن التكنولوجيا الرقمية هي عمل الجميع، فإن مستقبل ديمقراطياتنا أيضاً على المحك.
يعتبر رومان بادووار كاتب مقالات ومحاضر في جامعة سيرجي بونتواز (في الضواحي الشمالية للعاصمة باريس) وباحث في مختبر أغورا. يركز في أبحاثه على حركات الرأي والتعبئة السياسية عبر الإنترنت. وهو رئيس تحرير مشارك لمجلة (المشاركة)، مجلة العلوم الاجتماعية حول الديمقراطية والمواطنة.
تذكرون في كتابكم ((نزع السحر عن الإنترنيت)) أو (النهاية السريعة لسردية الإنترنيت) (2) بأن المخيال الذي إنتشر في بدايات ظهور الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي كان يصور هذه المساحة الإعلامية الجديدة على أنها الآغورا المفتوح أمام الجميع والذي سيسمح الحركة الحرة والسريعة للمعارف والأفكار، النقاش الغني بالأفكار والديموقراطية الأكثر حيوية. اليوم، إنتقلنا الى رؤية أقرب الى الحلم المزعج حيث هيمنة التلاعب، التضليل الإعلامي والاستخدام التجاري للمداولات الافتراضية. كيف تفسرون ذلك؟
ر. بادووار: إن الآمال والخيبات فيما يتعلق بالإمكانية الديموقراطية للإنترنيت هما في الحقيقة الوجهين لنفس العملة. إن الإنترنيت كشبكة إتصالات مفتوحة وغير مركزية، خلقت غزارة هائلة من أخذ المبادرة للدخول في النقاش العام. إن شبكة الإنترنيت التي وفرت نفس الإمكانيات في النشر لكل مستخدم سبراني أو نتي أو شبكي، جعلت مرئية وبارزة العديد من وجهات النظر التي تتواجد في المجتمع.
في داخل الشبكة، كل واحد أصبح قادراً على أخذ المبادرة في الكلام من أجل التعبير عن وجهات النظر التي تخصه، ولعرض القيم التي يتبناها، وتثمين شبكته للقراءة فيما يخص المسائل التي تطرح للنقاش في المجتمع. الوجه الأول لهذه الإمكانية التداولية الأفقية، أن هذه الوسيلة المفتوحة على العدد الكبير من المتداخلين والتي تغني النقاش العام بتأمين نوع من التعددية الديموقراطية الراديكالية. الوجه الآخر، هو أن هذا "الإنبثاق أو الإنفراج أو التحرر للذاتيات"، لكي نأخذ بالتعبير الذي استخدمه دومينيك كاردون (3)، تأخذ أحياناً شكلاً غليظاً وقاسياً، متعصباً ومتحيزاً، صراعياً وحتى حاقداً. إن التنوع في وجهات النظر يتحول أحياناً الى خلافات حول أشكال العقلانية، الى درجة الى أن يغدو الأمر الى صعوبة للإتفاق حول ما هو معتبراً كـ "حقيقي" بين الجماعات التي لا تتشارك في نفس الإيبستمولوجيات. هذه التنافرات كانت دائماً تحصل، لكن، كانت في زمن الإعلام الجماهيري محصورة في الدائرة الخاصة وكانت تمحى في النقاش العمومي عن طريق مبدأ الأغلبية، مما يعني بأن الرأي العدد الأكبر يشكل المعيار الذي اعتباراً منه تُقيم دقة وحصافة وجهات النظر الأقلاوية. في الفضاء التعددي الذي يرسمه الإنترنيت، فإن وجهات النظر تزدهر بحرية والصراعات حول القيم تنفجر في عز النهار.
ما هي خصوصيات النقاش العام على الإنترنيت، وكيف تطور شبكات التواصل الاجتماعي، بالخصوص، الطريقة التي يتهيكل فيها هذا النقاش العمومي؟
ر. بادووار: في كتابي ((نزع السحر عن الإنترنيت)) ناقشت سبع تطويرات كبرى للنقاش العمومي على الإنترنيت، والتي تحول بعمق الطريقة التي نبني فيها "العمومي" اليوم في الديموقراطية. من بين هذه التطويرات، والأكثر جوهرية هي إعادة تشكيل "الحفاظ أو حراسة البوابات"، أي سلطة ترشيد أو ترشيح الإعلام والتي يتمتع بها الصحافيون في وسائل الإعلام الجماهيرية. إن الصحافيين المسؤولين عن وسائل الإعلام هم الذين يقررون في الواقع المضامين التي تستحق أن تقدم لكي يطّلع عليها المواطنين والمواطنات، وذلك في إختيار من يدعون للحوار في برامجهم الإذاعية والتلفزيونية، وكذلك على من يتكلمون في مقالاتهم في الجرائد والمجلات. وبعملهم هذا، هم يقررون من هم الفاعلون الشرعيون في المجتمع المدني الذين سيتولون الكلام في النقاش العمومي.
وإذا كان هذا العمل الذي يختار من يجب أن يظهر من الفاعلين على وسائل الإعلام المختلفة قد أصبح لاغياً عن طريق نموذج الاتصالات على الشبكة النتية، فإن "حراسة البوابات" لم تختف على الإنترنيت، إنها في المقابل قد أعيد تشكيلها، لصالح فاعلين جدد: وبالخصوص محركات البحث وشبكات التواصل الاجتماعي، التي ورثت إذن بسلطة سياسية مهمة واستفادت من مواقع للمراقبة والتي بواسطتها تمر المعلومات واعتباراً منها يمكن أن تنجز أشكالاً من الرقابة.
ومن التحولات الأخرى الكبرى، هي في إعادة تشكيل الكلام الذي يفرض حضوره أو سلطته، حيث يسمح الإنترنيت تقنياً لكل واحد بأن يعبر عن نفسه بوسائل متعددة تعود لقدراته اللدنية والمعرفية التي يتمتع بها، أي أنه يؤسس لمبدأ المساواة فيما بين مستخدمي الإنترنيت في مشروعيتهم لأخذ المبادرة في الكلام وبالتالي محاولة تثمين آراءهم بوسائل شتى (4). إن الأساتذة وطلابهم، والأطباء ومرضاهم، والخبراء والمبتدأين سيجدون أنفسهم كلهم في نفس المستوى (5). واعتباراً من اللحظة التي أصبحت فيها وسائل التواصل الاجتماعي هي الفضاء الرئيسي للنقاش العمومي، فقد عملت هذه الوسائل على تطوير تصور السلطة والحظوة في النقاش، من منطق الدقة والإقناع في إتجاه منطق الإنتشار والتأثير. على وسائل التواصل الاجتماعي كالفايس بوك والتويتر أو اليوتيوب، فإن مستخدمي الإنترنيت يتمتعون في الواقع بقوة ضاربة غير متساوية وذلك وفقاً لعدد الأصدقاء، وعدد المتابعين، وعدد المشتركين، والذين يشكلون كثير من الإبدالات والمتابعات عن طريق الحجج أو المواقف التي يتخذونها. إن مؤشرات السمعة تحل مكان الحجج القوية والراجحة وتشكل الرافعات الأساسية التي تسمح لمستخدم الإنترنيت أن يُستمع اليه.
في ما وراء منطق الشعبية هذا، فإن التحول الأساسي المحمول على وسائل التواصل الاجتماعي كان عن طريق إسقاط الحدود التي تفصل بين الحياة العامة والخاصة. في عصر الإعلام الجماهيري، كان الأفراد يحافظون على علاقات شخصية يستطيعون في وسطها أن يعبروا عن مشاغلهم اليومية ويتحولون بواسطتها الى مواطنين عندما يحشدون حول مواضيع المصلحة العمومية. هذا التمييز لم يعد له مكان على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أن أي رأي شخصي أو شهادة يمكن أن تتحول بسهولة الى سجال مفتوح، على العكس، فإن القضايا المجتمعية يمكن أن تشخصن وفقاً لتجارب ولمصالح كل واحد. إن حركات مثل: حركة إفضح الخنازير على الإنترنيت (6)، أو حركة وأنا أيضاً النتية (6)، هما من الأمثلة الجيدة على ذلك.
من النتائج الأخرى لهذا الإختلاط في الحدود بين الحياة العامة والخاصة هو، أن مشاركة المعلومات على شبكات التواصل الاجتماعي تميل الى أن تأخذ بعداً هوياتياً. في الواقع، عندما ننشر معلومة ما على هذه المنصات، نحن لا نعمل سوى ترحيل المعلومات، نحن نأخذ موقفاً أيضاً بالنسبة لها. هذا الموقف هو موقف صريح عندما نكتب حالة لمرافقته، أو موقف ضمني عندما تتسجل ضمن سيلان من المنشورات والتي تقول الكثير عن مركز اهتماماتنا وتفضيلاتنا. ما نشارك الآخرين به من معلومات أو تدوينات على صفحتنا يساهم في بناء هويتنا الرقمية، ويخدم أيضاً في تثبيت إنتماءنا الى جماعة من الأفكار، والقيم أو الممارسات. هذا العنصر هو مهم بالخصوص في إطار السجال الذي يخص القضية المثارة اليوم حول ما يُسمى بـ "الفاك نيوز أو الأخبار الكاذبة" كأحد الأمثلة، وليس الحصر. عندما ندرس محتوى "المعلومات الكاذبة" السياسية، ندرك بأن هذه تعبر بالأساس عن عدم ثقة وشك فيما يتعلق بالنخب السياسية والإعلامية، مع نبرة قوية "مضادة للنسق القائم" وأحياناً كارهة للغريب. على هذا النحو، إن المشاركة لهذه الأخبار الكاذبة على مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون مشابهة لشكل من التعبير السياسي الذي يتكون من عرض وجهة نظر حول الأخبار العامة اليومية، حتى اعتباراً من عناصر مخيالية، كما يشرح إيمانويل تايب في أعماله الفكرية حول نظريات المؤامرة (8).
كم من هذه التحولات (المقصود هنا بالتحولات العميقة التي حدثت في طريقتنا في بناء "العمومي" اليوم في الديموقراطية) يمكن أن يعزى إلى الاستراتيجيات التحريرية والتجارية لمنصات الإنترنت الرئيسية؟ وهل يمكننا اعتبارهم مسؤولين عن هذا الأمر؟
ر. بادووار: إن المسؤولية الأولى لهذه المنصات النتية هي في تصميم فضاءات النقاش والتي تقترحها على المستخدمين. إن النظام البيئي التشاركي المصمم من قبل الفايس بوك أو التويتر، مع نظام "اللايك" و " التويتات الثانوية"، هو بيئة للنقاش يحصر المستخدمين في وضعية تفاعلية ويستدعي إستجابات ثنائية بمصطلحات "أحب / لا أحب"، قليلة الملائمة لنقاش بَناء وهادئ. عنصر آخر لتصميم شبكات التواصل الاجتماعي والتي تؤثر في أليات المشاركة المُنتجة التي تملك ميزة تتعلق بهذه العمارة أو الهيكلية التصميمية، وخصوصاً على طريقة تنظيم الحسابات، وفرز وتراتبية المعلومات التي تدور على الشبكة النتية. لنأخذ مثال الفايس بوك، يجلب الى معرفة المستخدمين، في شريط أخبارهم، المعلومات التي يضعها أصدقاؤهم الأكثر صلة بهم، والحالة هذه، بكلام سوسيولوجي، نعرف بأن الصلات الذين هم قريبين جداً منا هم الأكثر قابلية لكي يشاركوننا آراءنا. ينتج عن هذا شكل من الانغلاق الإيديولوجي عن طريق تشكل "فقاعات للتصفية"، حيث المعلومات التي نستشيرها لا تعمل إلا على تقوية إعتقاداتنا، بينما من أجل أن ينعقد النقاش العمومي ويعمل بصورة صحيحة في الديموقراطية، من الضروري بصفتنا مواطنين، أن نكون في مقابل حجج مناقضة. هذه الظاهرة كان قد تم التنديد بها بصورة كبيرة في الافتتاحيات أثناء الحملة من أجل البريكسيت في بريطانيا، وكذلك أثناء الحملة الرئاسية عام 2016 في الولايات المتحدة الامريكية (9).
لكن، إن مسؤولية المنصات النتية لا تقف عند التكنولوجية والتصميمية، إن النموذج الاقتصادي لتلك الخدمات والتي تقوم على جعل متاحاً خدمة مجانية من أجل بيع زمن للإنتباه للمعلنين، تلعب أيضاً دور مهم في ظواهر الإعلام الكاذب أو لنشر الخطابات الحاقدة. لأن هذه المحتويات قد تعمل على إثارة ردود أفعال عند المستخدمين، وتجعلهم يمضون أوقاتاً إضافية في استعمال هذه الخدمات، وهي أيضاً ما تحقق الكثير من الدخول الدعائية لتلك المنصات النتية. إن حساباتهم (ألغو ريتم) يمكن أن تقوم بصورة ميكانيكية في تشجيع هذا النمط من المحتويات التي تعظم المنافع لهذه الشركات الكبرى.
إن مواقع التواصل الاجتماعي ليست الوحيدة المسؤولة: هناك القسم الدعائي لموقع غوغل، كمثال، قد أشير له بالأصابع، لأنه سمح لمواقع تحمل خطابات حاقدة أو تآمرية لكي تربح المال عن طريق استخدام الخدمات التي يقدمها موقع غوغل.
في مواجهة التلاعب بالمعلومات وانحطاط النقاش العمومي، هل تعتقدون أنه يجب التوجه نحو السلطات العامة؟
ر. بادووار: نعيش اليوم لحظة أساسية في تاريخ الديموقراطيات الغربية. حتى وقتنا الحاضر كانت المشكلة الرئيسة للسلطات العامة فيما يتعلق بالمحتويات الإشكالية التي تدور على الإنترنيت هي الضغط على الشركات الامريكية والتي لم تكن تستجيب للطلبات الأوروبية، في زيادة التنظيم للمعلومات التي تنتقل عن طريق مشغلاتها. هذه الشركات التي تربت على الأيديولوجية الليبرالية الليبرتارية لوادي السيليكون، كانت شديدة التحرج والتحفظ والممانعة بفكرة الرقابة على المحتويات، مفضلة أن تسلك مسلك "الإطفائي" في إدارة قنواتها، لكن إمتنعت عن التدخل حول السيلان من المعلومات والأفكار التي تدور على الشبكة.
لقد تغير الوضع اليوم: بعد عدة فضائح أصابت تلك المنصات إتخذت طوعياً وضعية أكثر قابلية لتفهم فكرة الضبط والتنظيم، والسلطات العامة فوضت تلك الشركات بمهمة وسلطة الرقابة والرقيب. السؤال هو في معرفة ما هي الإجبارات والقيود والتي تستطيع السلطات العامة أن تفرضها على هذه الشركات العملاقة التي تدير شؤون الشبكات النتية فيما يخص موضوع الشفافية والرقابة بما يتعلق بآليات فلترة المعلومات. من الواضح اليوم، أن موضوعة التنظيم تسير بصورة شديدة الضبابية والغموض مسببة أخطار كبيرة من نوع خصخصة الرقابة في الديموقراطية، وكما أشارت الباحثة البريطانية زينب توفيقجي في مجلة "وايرد" في شهر جونفيي من العام 2018 (10). إننا نعيش في عصر متناقض حيث شبكات التواصل الاجتماعي تجسد شكلاً من العصر الذهبي لحرية التعبير لكن، سلطة عدد من الفاعلين على حركة ودوران المعلومات والأفكار على الشبكة العنكبوتية لم تكن يوماً قوية الى هذه الدرجة.
إن العمل الحالي للإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي تشكل إذن تهديداً للديموقراطية؟
اليوم أيضاً، الإنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي تبقى أدوات في خدمة حرية التعبير والديموقراطية، لأنها سمحت بتحرير الكلام المواطني بصورة لم يسبق لها مثيل، وكذلك سمحت لأشكال من التحرك والتحشيد الغير رسمية للمجتمعات المدنية جعلتهم يملكون مزيداً من الثقل والأهمية في الحياة السياسية. بالرغم من ذلك، فإن التخلص من الأوهام اليوتوبية الذي نعرفه اليوم فيما يخص الآمال التي أثارتها التكنولوجيات الإعلامية المعلوماتية الجديدة في بدايات ظهورها يترك مجالاً لعدة مخاطر من طبيعة مختلفة. أول هذه المخاطر، هو هجر أو ترك أو التخلي عن الفضاء العمومي حيث نستطيع أن نتناقش في المسائل الكبرى في المجتمع، وبالرغم من أن هذا الفضاء العمومي لم يكن يوماً موجوداً بصورة حقيقية، يبقى بأن الميل الملموس في النقاشات الدائرة على شبكات التواصل الاجتماعي هو ميل نحو "بلقنة" الحوار (11)، حيث المستخدمين للشبكات النتية يتناقشون في زاويتهم المحددة مع أشخاص معينين يتشاركون معهم في الكثير من الإعتقادات، متجنبين بذلك صعوبة وإزعاجات النقاشات التناقضية أو التي تحمل معها آراءاً أو أفكاراً تناقض ما هو مطروح. الخطر الثاني، يتعلق بـ "وحشية" النقاش العمومي على الشبكة العنكبوتية. إن ثقافة الحوار التفاعلي على الشبكة الرائجة على شبكات التواصل الاجتماعي تهون (أو يجعلونها شائعة) وتشرعن من أشكال من التعبير العنيف ومن عواقبها توليد آليات من الرقابة الذاتية.
كثير من المستخدمين للإنترنيت يفضلون اليوم الإمتناع عن التعبير عن آرائهم بدلاً من تجشم مخاطر بأن يكونوا ضحايا حملات التحرش والمضايقات التي تهدف الى إسكاتهم. ينتج عن ذلك كله إفقاراً في النقاش وبرودة في العلاقات الاجتماعية.
إن المعلومات الخاطئة والمضللة مع تكنولوجيات الأخبار الغامضة والماكرة، تحمل أيضاً أخطار تتفاقم وتنتشر في السنوات القادمة، وعندما نكون غير قادرين عل معرفة إذا كان تصريحاً ما على اليوتيوب لأحد الشخصيات السياسية هو تصريح حقيقي وحدث أم تلفيق كاذب، فإنه سيكون من الصعب التحاور مع بعض لأننا لا نتشارك في نفس اليقين الذي يخص الواقعات التي نتناقش حولها. وهنا تظهر أهمية المفهوم الجديد ((ما بعد الحقيقة))، فهو يعبر عن هذه الحالة وعن طبيعة العصر القادم، حتى لو كان من المبالغة الكبيرة التحدث عن >، بقدر ما، لأن المشاعر والقيم لعبت دائماً دوراً هاماً في تصورنا للواقع.
هناك أيضاً المخاطر المتعلقة بالتدخلات، كما أظهرته قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الامريكية عام 2016. وأخيراً، هناك رهان لا نتكلم عنه إلا نادرا في النقاش العمومي، وهو أن الإنترنيت يمكن أن يكون شبكة سهلة أمام الأنظمة الطغيانية للرقابة على المعارضين وغير المعارضين.
إن الفضاء العمومي "الكلاسيكي"، من خارج الإنترنيت، لم يكن يوماً فضاءاً للحرية والتبادلات العفوية السلمية والديموقراطية...يوجد مجموعة من القوانين والمعايير التي تنظم وتسمح بتأطير الحوار، من حرية الصحافة الى معاقبة الخطابات التي تحمل عبارات الحقد، الى الحق في التشهير والقدح حتى تمويل الإعلام السمعي البصري العمومي. هل يمكننا أن نحاكي في تنظيم ورقابة الاتصالات الرقمية على النموذج المعمول به في الفضاء العمومي "الفيزيائي"؟
إن القوانين التي تنظم عمل الفضاء العمومي خارج الإنترنيت تصلح أيضاً في داخل الإنترنيت، لكن هذه القوانين والمعايير من الصعوبة أن تكون قابلة للتطبيق. وبالخصوص، أن القانون ليس هو المصدر للمعيارية الأكثر قوة على الإنترنيت، في المقارنة مع نماذج أخرى من المعايير مثل الهياكل التقنية. هذا يعني أنه في داخل الإنترنيت، ما نفعله ليس ثمرة ما يسمح لنا القانون بأن نفعله أو لا نفعله، بل هو ثمرة ما تسمح به التكنولوجيا أو لا تسمح به. وهذا ما أراد قوله لورانس ليسيغ مع صيغته الشهيرة: ((المدونة هي القانون)) (12). على منصات الإنترنيت، فإن الطريقة التي نتناقش فيها تنتج جزئياً من الإكراهات والإمكانيات المعروضة بواسطة الأدوات الموضوعة تحت تصرفنا. إن الأوهام حول النقاش العمومي على الشبكة النتية والتي إنكشفت اليوم يمكن أيضاً أن نتجاوزها عن طريق إنتاج فضاءات جديدة للنقاش والحوار، أكثر تضمناً وشمولية وتحترم المواطنين. وفي هذا الصدد، هناك الكثير من التطويرات التي يمكن العمل بها من أجل خلق تكنولوجيات بديلة، تقوم بإعادة الصلة مع قيم الإنفتاح والشفافية للترويج بواسطة المؤسسين للشبكة. إن ما يتوفر عند هؤلاء المؤسسين من أجهزة واستعدادات تسمح لهم في المستقبل في إبداع وخلق مزيد من المساحات والفضاءات والمنصات الشبكية التي تساعد في خلق الجمعية والمشترك. وإنه أيضاً في هذا المعنى، يكون فعل الإنتاج والخلق التكنولوجي سياسياً بعمق.
(1) رومان بادووار ((نزع السحر عن الإنترنيت: إعلام مضلل، إشاعات وبروباغندا)) (ليموج 2017).
كان من الذين إعتقدوا بأن الإنترنيت سيؤدي الى جعل عداد العالم الكوني يبدأ من الصفر. في كتابه ((اليوتوبيا التي سقطت: تاريخ معاكس للإنترنيت)) يشرح فيليكس تريغييه الأسباب التي تدفع الى خيبة الأمل.
هذه هي قصة الفشل الجماعي. فشل مجموعة من المثاليين الذين يعتقدون أن أجهزة الحاسوب والشبكة تطلق المعرفة بطريقة سحرية، أو وجدت قوى مضادة للدول، والقضاء على البيروقراطية وتعزيز الخصوصية. بعد عقدين من الفضائح التكنولوجية، فإن الخيبة هي قوية. يكتب فيليكس تريجر في كتابه ((تاريخ معاكس للإنترنت)) (فايار 2019):
"الى الحد الذي يجعل من المعقول الاعتقاد أنه كان من الأفضل لو لم يخترع الحاسوب مطلقًا".
إن المؤلفين الفرنسيين لا يمكن وصفهما بأنهما من المعادين للتكنولوجيات الرقمية الجديدة ولا من النوستالجيين مثال المفكر الفرنسي اليساري ـ المحافظ آلان فينكلكروت والذي رفض إقتناء السمارت فون وأصر على استعمال التلفون الثابت في اتصالاته، بالإضافة الى ذلك يعتبرا من الباحثين العاملين في المنظمات الرئيسة للدفاع عن الحريات في الفضاء الرقمي في فرنسا، وقد كانا من الذين إعتقدوا بالوظيفة التحريرية للكومبيوتر والشبكة العنكبوتية.
(2) كما إنتهت سريعاً نهاية أطروحة العولمة السعيدة عند آلان منك وآخرين.
(3) دومينيك كاردون ((ديموقراطية الإنترنيت: الوعود والحدود)) (من منشورات سوي، باريس 2010).
(4) يبقى مبدأ المساواة هذا في أخذ المبادرة للكلام في الإنترنيت هو نسبي لأنه لا ينطبق إلا على الكلام المكتوب في وسائل التواصل الاجتماعي ووضع الصور، أما الوسائل الأخرى كاليوتيوب فهي تحتاج لمقدرات ومواهب لدنية لن يتمتع كل مستخدمي الإنترنيت، لذلك لا يجب التسرع وتأكيد مبدأ المساواة على الإطلاق.
(5) يقول أمبيرتو إيكو: لقد ساوى الفايس بوك بين المتوّج بجائزة نوبل وبين سكير الحارة.
https://st.ilfattoquotidiano.it/wp-content/uploads/2015/06/eco905.jpg
(6) حركة "إفضح خنزيرك"، وهي ابتدأت بآشتاج على التويتر، حيث تمنح الصفحة الوسيلة لكل النساء الذين تعرضوا للتحرشات والاعتداءات الجنسية، والتي أطلقت الصفحة هي الصحافية الفرنسية ساندرا موللر التي تعيش في الولايات المتحدة الامريكية.
وقد جاء في هذا الهاشتاج الشهير: ((إفضحي الخنزير الذي تحرش بكِ أو اعتدى عليك. أنت أيضاً إحكي بإعطاء اسم وتفاصيل الإحتراش الجنسي الذي تعرضت له في عملك. أنا في انتظاركم)).
وقد أدت هذه الحملة الى إسقاط وزعزعة العديد من الرؤوس في هوليود، وبالخصوص المنتج الكبير هارفي فرنشتين.
(7) حركة مي ـ تو أو أنا أيضاً، التي أطلقتها الممثلة الامريكية أليسا ميلانو عن طريق تويت بسيط، وهي مماثلة لحركة إفضح خنزيرك. وكان من نتائج هذه الحملة فضح الممثل الأمريكي كيفن سباسي ووزيرين بريطانيين والمفكر الإسلامي طارق رمضان، والدكتور لاري نصار الذي حكم عليه بـ 60 سنة لإعتدائه على 265 ضحية، ثم الممثل الأمريكي بيل كوسبي الذي حكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.
(8) إيمانويل تايب ((المنطق السياسي لنظريات المؤامرة)) مصدر فرنسي، مجلة السوسيولوجي والمجتمعات، مجلد 42، رقم 2 خريف 2010، ص: 265 ـ 289.
هو من الباحثين الفرنسيين الذين إشتغلوا على تفكيك نظريات المؤامرة، وله أعمال أخرى حول العنف السياسي.
(9) يمكن التعرف على هذه الفقاعة أو الدائرة الأيديولوجية لكل مستخدم عن طريق التدوينات التي تقدم آراءاً حاسمة وغير توفيقية، عندها ينخفض عدد اللايكات الى عدد هؤلاء الأصدقاء القريبين منا أيديولوجياً، بينما في التدوينات التي تنحو نحو التوفيق نجد أن هذه الفقاعة تكبر لتصل الى حجمها الأقصى في التدوينات الاحتفالية أو المشهدية أو التأبينية، مثل تغيير صورة الصفحة أو عيد الميلاد إلخ.
(10) زينب توفيقجي ((إنها الـ "ديموقراطية ـ التسميم أو التسمم": الصر الذهبي للكلام)) (مجلة وايرد، 16/01/2018).
(11) مصطلح البلقنة: في السياسة، هو عملية تقسيم وتجزؤ السياسي لدولة أو بلد. أما في المعنى المجازي فهو تفكك وتفتت مجتمع ما وإنقسام الرأي العام الى جزر منعزلة غير قابلة للتحاور والتفاهم.
الهاشتاج أو الهاشتاج هي كلمة أساسية قابلة للنقر عليها. وهي تتألف من علامة مطبعية، تقاطع ("#"، تسمى التجزئة باللغة الإنجليزية)، مرفقة بكلمة واحدة أو أكثر (علامة أو علامة).
(12) لورنس ليسيغ ((المدونة والقوانين الأخرى للفضاء السبراني)) (نيويورك، باسيك بوك، 1999).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الصين تحذّر واشنطن من تزايد وتراكم العوامل السلبية في العلاق


.. شيعة البحرين.. أغلبية في العدد وأقلية في الحقوق؟




.. طلبنا الحوار فأرسلوا لنا الشرطة.. طالب جامعي داعم للقضية الف


.. غزة: تحركات الجامعات الأميركية تحدٍ انتخابي لبايدن وتذكير بح




.. مفاوضات التهدئة.. وفد مصري في تل أبيب وحديث عن مرونة إسرائيل