الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حلم بورجوازي سخيف

حامد تركي هيكل

2020 / 10 / 25
الادب والفن


السنوات الأولى

قرر أن يعمل أثناء العطلة الصيفية، فهذه هي آخر عطلة صيفية له. العام القادم سيكون هو في المرحلة النهائية من دراسته الجامعية، وبعدها سيتخرج، وسيلتحق بالخدمة العسكرية. ليس لديه وقت كاف. هذه هي السنة الأخيرة وعليه أن ينفّذ ما كان قد خطط له.
السنوات الماضية مرت بسرعة. اذ كان عليه أن يكتشف ماذا تعني الدراسة في القسم المعماري. وكان عليه أن يتدبر أمر الحصول على سرير في الأقسام الداخلية، وكان عليه أن يتعلم شيئا فشيئا كيف يمكنه أن يتدبر أموره مع بعض أساتذة القسم الذين كانوا ينفرون من طلبة المحافظات، أو من أبناء الطبقات الكادحة. قالت له أحدى المدرسات ذات يوم:
"القسم المعماري في خطر بسبب قانون التعليم المجاني! ذلك القانون الذي سمح لغير أبناء الذوات من الوصول الى القسم!"
وكان عليه أن يتدبر أموره التي بدت له معقدة وخطيرة. مرت السنوات الثلاثة الأولى بسرعة فائقة، ثم ما لبثت أن نشبت الحرب قبيل بداية السنة الرابعة ، تلك الحرب التي غيرت وجه العراق الى الأبد.
لم تسعفه ظروفه لارتداء ملابس تليق به، ولم يكن قادرا على توفير المال لشرائها. ولكن الوقت بدا ضيقا. لأن العام الدراسي القادم هو فرصته الأخيرة ليظهر بأفضل مظهر. وهو الآن يشعر بالأمان لأنه فهم قوانين الدراسة وتخلص من القلق بشان النجاح أو عدمه. وكذلك شعر بالأمان من ناحية وضعه السياسي، فلم يتعرض له أحد طيلة السنوات الأربع الماضية ، يبدو أن نشوب الحرب، وانشغال أجهزة الدولة بملاحقة من تعتقد أنهم أسلاميين أجبرتها على غضِّ الطرف عمَّن تعتقد أنهم يساريين، اذ لم يعد يسبب وجودهم صداعا لرأس الأجهزة الأمنية!

قائمة مشتريات

مرَّ على محلات بيع الملابس في شارع الرشيد، وشارع السعدون، والكرادة. ومرَّ على محلات بيع الأحذية، وتأكد من وجود زوج أحذية فاخر معروض في معرض زبلوق. الا أنه تردد أيضا على محلات أحذية أخرى مثل حرّاق، الكاهه جي ، الحذاء الأحمر، أحذية الشرق الأوسط، ومحل 21 في شارع الرشيد. المشكلة الأكبر هي كيف تستطيع أن تقرر ما الذي ستشتريه بعد ثلاثة أشهر من الآن. وثمة سترة قطيفة زرقاء انجليزية لونها الأزرق النيلي أخاذ، وقد ثبت رسم علم بريطانيا على البطانة الداخلية بألوانه الزرقاء والحمراء والبيضاء معروضة في حسّو أخوان. يا ألهي ! كم هي جميلة! سيشتري منها اثنتين على الأرجح.
يوجد أيضا عدد من البناطيل الراقية ماركة كاسكا معروضة عند محلات داوود أخوان في شارع السعدون، وسيضيف على القائمة بضع قمصان بيضاء تناسب الزي الموحد لطلبة الجامعات ماركة ألفا من محلات المغازه جي في الكرادة.
ماذا بعد؟ ها طبعا سيضيف نصف درزن من الغيارات الداخلية الشتوية التي تساعده على البقاء دافئا، مع نصف درزن من الجوارب. وسيضيف الى القائمة قنينة أو اثنتين من أفخر العطور الفرنسية التي لابد له أن يحصل على استشارة من خبير بهذا المجال. اذ أنه غير متأكد ما اذا كان عليه أن يشتري قنينة ماركة بروت أو بويزن أو ماركة أخرى. لم يسبق له أن أقتنى واحدة في الواقع.
حفظ بشكل تفصيلي مواقع كل المحلات التي تعرض قطع الملابس التي سيشتريها للسنة الأخيرة، سيعوض ما فاته، سيتحرر من سترته القديمة التي تشبه الى حد كبير قمصلة فاحص التذاكر في القطار. وسيتخلص من بنطاله الصيفي الذي كان عليه ارتداؤه في شتاء بغداد القارس. ويستخلص من حذائه القديم غير المريح ذي الكعب العالي جدا والذي تورط بشرائه ظناً منه أنه مريح .
سيضيف للقائمة أيضا ماكنة حلاقة كهربائية ممتازة، ومجفف شعر. رغم أن قلقاً كان يساوره بخصوص مسألة صمود شعره حتى بداية السنة الأخيرة، فقد لاحظ ان كثافة شعره بدأت تخفّ عند منطقة الهامة، وربما لن يكون بحاجة لشراء ذلك المجفف ذو البدن النيكلي اللامع، والمقبض الأحمر من ماركة هيتاشي، كم كان مدهشاً! أو ذلك الأسود والأبيض من ماركة سوني المعروض في واجهات محلات بيع الأجهزة الكهربائية في شارع الرشيد، أو في شركة الأجهزة الدقيقة. سيقرر لاحقا ما اذا كان سيشتري واحدا من أورزدي باك الواقع في شارع الرشيد قرب سيد سلطان علي. فذلك يعتمد على صمود شعره حتى نهاية العطلة الصيفية.
ماذا بعد؟ نعم تذكر ان كاميرا يابانية من ماركة ياشيكا أو كانون ، أو روسية من ماركة زينيت ستكون ضمن قائمة مشترياته فضلا عن بضع كتب أنيقة. خاصة ذلك الكتاب الرائع الكبير ذي الورق الصقيل الذي يتضمن أعمال المعمار ريتشارد نيوترا، كم هي جميلة وشفافة ومختزلة تصاميم نيوترا.
نعم سيشتري أيضا حقيبة كبيرة يمكنها أن تستوعب كل تلك الأشياء. فكر أن ماركة الحقيبة لن تكون مهمة. يكفي أي حقيبة من سوق السراجين الواقع عند جسر الشهداء قرب سوق السراي.
تخيَّل كل تلك الأشياء الجميلة، وتخيَّل نفسه شخصاً آخراً، شخصاً برجوازياً تماماً، فانتبه. كيف ساقه الخيال لكي يصبح الشخص الذي طالما كرهه؟ أين هي أفكاره؟ أين هي مبادئه؟
ولكنه فكر مرة أخرى، لا بأس أن يمتّع المرءُ نفسَه في السنة الأخيرة من سنيّ دراسته الجامعية. بعدها ستأكل ملابس الجندية جلده، وسوف يستولي البسطال على قدميه مدة لا يعلمها الا الله. ومن يدري فقد يموت مرتديا بسطاله. فقد نشبت الحرب منذ عام ولا يعلم أحد متى ستنتهي.

فرصة عمل

كانت فرصة عمله ماثلة أمام عينيه، بل لقد زحفت اليه برجلها وتسللت الى قاعة المحاضرات. فبات يعرف المدة التي سيعمل بها، ومقدار الأجر الذي سيتقاضاه، والمبلغ الذي سيوفره. لم تكن أحلامه بما سيقتنيه في السنة الأخيرة هي التي قادته الى فرصة العمل، بل العكس تماما. فقد حضر الى القسم المعماري قبل مدة مدير عام دائرة الآثار والتراث وألقى محاضرة في القسم المعماري، وأعلن عن مشروع كبير هو مشروع إحياء مدينتي سامراء والمتوكلية، وفي نهاية المحاضرة طلب ممن يجد في نفسه الرغبة والامكانية للعمل في المشروع من الطلبة أن يلتحق بالمشروع، وسيدفعون له أجراً مقداره ستين دينارا في الشهر الواحد مع توفير السكن والطعام!
حسبها جيدا، فالعطلة الصيفية ثلاثة أشهر، وبذلك سيجمع مائة وثمانين دينارا بالتمام والكمال، وهكذا فقد تكوَّنت لديه في النهاية لائحة بالمشتريات وأسعارها والمبلغ الكلي، وهو أقلُّ بكثير من المائة والثمانين دينارا التي سيتقاضاها من مشروع آثار سامراء.

الى سامراء

ما ان انتهى من امتحانات نهاية السنة الرابعة، وبدلا من أن ينحدر جنوبا الى بيت أهله في البصرة، وجد نفسه يستقل باصاً من ساحة العلاوي متجهاً الى سامراء التي لم يسافر اليها من قبل قط. وما ان وصل حتى التحق فورا بالمشروع الذي كان على وشك أن يبدأ أعماله.
كانت أياما جميلة، ففضلا عن أحلامه التي ما انفكت تراود مخياله بخصوص المبلغ الذي سيجمعه، والأشياء التي سيشتريها، والحقيبة التي سيحملها معه ليواجه بها سنته الأخيرة في الكلية بكل عنفوان وشموخ، فضلا عن أحلامه البرجوازية السخيفة تلك، فها هو يتعرف على سامراء، ويحبُّها، ويحبُّ أهلها، ويغوص في تاريخها، ينقب مع المنقبين، ويرسم ما تظهره الحفريات من جدران تعود الى زمان غابر. يتتبع الكهاريز المخفية في باطن الأرض حيث كانت فيما مضى تنقل ماء النهر لريّ البساتين، ويتفحص جدران حير الوحوش، ويقف على المكان الذي كانت يوما ما تحتله بحيرةٌ رائعةُ الجمال تترقرق مياهها كما وصفها الشاعر البُحتري.
ويُكلفُ برسم خان الصعيوية في الضلوعية، ذلك الخان الذي تحيطه البساتين، حيث كان الفلاحون الكرماء الطيبون يجلبون للفريق السعيد المشغول بأخذ قياسات جدران الخان كل يوم حملَ حمار من الرقّي اللذيذ، وقدراً من اللبن الطازج، ورزمةً من خبز التنور المعدّ للتو.
مرت تلك الأيام بسرعة البرق. فقد تم إسكان الطلبة المتعاقدين وهم أربعة فقط، مع المنقبين في فندق سامراء السياحي وكان في أوج تألقه وجماله. كانوا يتناولون الافطار في الفندق، أما الغداء فيقدم لهم في المقر. كانت وجبات فاخرة .أما المساءات فيتم قضاؤها على الملويّة، أو في سوق المدينة، أو في السباحة في نهر دجلة، أو التسكع على السدّة .

العودة الى بغداد

ما ان انتهت تلك الأشهر الثلاثة حتى عاد الى بغداد مسرعا، وقصد المحلات التي احتفظ بمواقعها في مخيلته، واشترى الأشياء جميعها كما كان قد خطط تماما. وفي غضون يومين كانت السترات الانجليزية القطيفة نيلية اللون رائعة الملمس تستقر في الحقيبة الكبيرة الى جانب الملابس والأحذية وكل الأشياء الأثيرة الأخرى.
انتظري أيتها السنة الأخيرة، سوف نلتقي قريبا. وسأريك من أكون. انتظري يا جمجمة السنوات السابقة، انتظري سأريك كيف أقتصُّ منك جزاءً وفاقاً لما قامت به أخواتك اللواتي سبقنَك. وتلك الأيام يداولها الله بيننا يا سنتي الأخيرة. انتظريني فقط، سأجزيك عن الذي مضى وانقضى.

في البصرة

بقي لديه أسبوع. سيذهب الى بيته في البصرة، سيرى أمه وأباه، وسيقضي معهم تلك الأيام وسيريهم محتويات الحقيبة العزيزة، وقريبا سيعود بحقيبته الثقيلة الى القسم الداخلي ليبدأ السنة الأخيرة. وهكذا فعل. فقد عجب كل من رأى محتويات تلك الحقيبة الكنز من أهله. كم هي كثيرة كل تلك الأشياء! وكم هي جميلة. أما هو فقد وجد نفسه مضطرا لاعادة ترتيب محتويات الحقيبة مرة بعد أخرى، كل مرة احتاج أن يعرض محتوياتها على أحد. حتى أنه سأم ذلك. ولكن الأيام مرت سريعة. في اليوم الأخير قدم الى محطة القطار ليشتري تذكرة قطار.
وجد المحطة منذ الصباح الباكر مكتظّة بالجنود. كانت البصرة جبهة قتال في تشرين الأول من عام 1981. وقف في الطابور حتى الظهيرة. لم يتحرك الطابور قيد أنملة. لذلك قرر أن يعود الى البيت لتناول الغداء، ثم يعود الى المحطة مصطحباً حقيبته معه هذه المرة، فهو لا يعرف متى سيحصل على تذكرة وعلى أيِّ قطار، ربما لن يكون الوقت كافيا للعودة الى البيت لجلب الحقيبة. لذلك ودّع أهله، وحمل الحقيبة الثقيلة. ولم يكن متأكدا ما اذا كان أحد قد سكب ماءً خلفه أم لا.
وقف في الطابور الذي رفض أن يتزحزح أيضاً. كانت القطارات تنطلق محملة بالجنود. بعضهم قد حصل على تذاكر غرف منام! وبعضهم على كوشيت، والبعض الأخر على تذاكر سياحية، والمئات من الجنود كانوا يصعدون القطار غير آبهين بحصولهم على تذكرة، فهم يستطيعون أن يناموا في الممرات، وعلى رفوف الحقائب، ولا يستطيع فاحص التذاكر معاقبتهم فهم جنود، والحرب مستعرة على الجبهات.
يشعر بإعياء، رجلاه تألمان، ظهره يؤلمه. فقد وقف في الطابور طيلة ساعات على مقربة من شباك صغير لم يُفتح قط. تعجب! ترى من أيِّ شباك حصل كل هؤلاء على تذاكرهم وصعدوا على متن قطار الساعة الخامسة، وقطار الساعة السادسة ، وقطار الساعة السابعة ، وقطار الساعة الثامنة؟
كانت المحطة رديئة التهوية منخفضة السقف مكتظة بأناس يتذمرون. هوائها فاسد مشبع برائحة الأجساد ودخان السجائر. وبين الفينة والأخرى تتسلل من خلال الأبواب المفتوحة نسمة هواء خريفي باردة. تذكر أنه قد دسَّ دفتر الخدمة العسكرية في جيب الحقيبة، وبحركة لا إرادية قرر أن يلتقطه ويضعه في جيب البنطال. في تلك اللحظة اقترب منه زميل هو أيضا طالب في القسم المعماري دخل المحطة للتو، سأله عن الوضع، تكلما قليلا، وسرعان ما قرر ذلك الطالب أن يذهب الى ساحة السيارات ليجرب حظه هناك. وجد صاحبنا الفكرة سليمة، فلا أمل في الحصول على تذكرة الليلة. قرر أن يسحب حقيبته ويذهب الى ساحة السيارات هو أيضاً. عندما مد يده ليمسك الحقيبة، لم يجدها. أختفت تماما بلمح البصر، والى الأبد.
أصيب بصدمة. وقرر أن يسافر وقوفاً الى القسم الداخلي خالي اليدين، ومن دون تذكرة، وأن يبدأ سنته الأخيرة بقميص وبنطال جينز، وجيب فارغ الا من دفتر الخدمة العسكرية الذي كان الاحتفاظ به نعمة ورحمة تستوجب الشكر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يتراجع 6 مراتب في اختبار إتقان اللغة الإنكليزية للعام


.. نابر سعودية وخليجية وعربية كرمت الأمير الشاعر بدر بن عبد الم




.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع