الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- نسّاي - يوسف المحسن تمحو ذاكرة النوع

عامر موسى الشيخ
شاعر وكاتب

(Amer Mousa Alsheik)

2020 / 10 / 30
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


سأزعم أولا ، أنني حاولت التوغل في عوالم " النســّاي " ، ووصلت إلى أطراف الخيوط الرابطة لها ، لأن الداخل إليها محكوم عليه بأنه سينسى !! ويصاب بعطب الذاكرة ، ليبحث بعد ذلك عن اكسير لإعادتها ، من أجل رسم خريطة الخروج من هذه العوالم .
لعلّ هذا التوصيف هو الأقرب ، لوصف حالة قارئ رواية " النسّاي " لكاتبها يوسف المحسن ، والصادرة عن دار سطور ببغداد 2020 ، لماذا هذا التوصيف هو الأقرب ؟ لأن النساي ، كما تقول الرواية : مرض أصاب المدينة التي كانت قرية ، ومن ثم تعطلت الذاكرة لدى الأهالي فيها ، وتكفلّ هذا المرض بمحو الذاكرة تماما ، كل الذاكرة ، حتى الغني فيها لم يعد يتذكر بأنه هل كان غنيا أم لا وكذلك الفقير ، الذي نسي إحساس الجوع ، أمام نسيان حالة الاشباع المتخم لدى الغني !! مرض ، ألغى خبراتِ الحياة السابقة ، و هذا الإلغاء ؛ يدعو لِابتكار حياة جديدة في هذا العالم الجديد المفترض داخل العمل ، الأمر الذي جعل العمل غير طيّع ، ويحمل مصادفات غير متوقعة ، لأن المحو ، سيجعل الانسان يتصرف ويفعل وفقا لمعطيات هذا العالم غير المعهودة .. وهذا الامر ما يستعدي القول : بأن الرواية تحمل دعوة مُضمرة لِنسف تاريخنا المملوء بالدمِ و القتل و الانقلابات و..... كُل المآسي التي جرت على الإنسان.
ببساطة أقول هذه ثيمة مهمة من ثيمات هذا العمل ، والذي يضم في تفصيلاته العديد من المضمرات الفرعية التي تحاول خلق عالم مواز، غير معهود بالمرّة ، استطاع القيام بعملية محو الذاكرة عبر مرض جديد على الانسانية ، غير مألوف ، وغير موجود في قواميس العلوم الطبية .
تتمتع الرواية بميزات عديدة ، ليس اولها البناء الدرامي المقلوب ، أو الاطار العام أو شكل الرواية النهائي ، وليس آخرها التقسيم إلى فصول مرقمه تبدأ بالرقم النهائي و تنتهي بالرقم الاول (تبدأ بالرقم ١٠٠ و تنتهي بالرقم ١) اي إنها بدأت من نهايتها !!
ومن ثم فإن الرواية كتبت بتقنيةٍ الفصول المختزلة ، إذ حاولت إختصار الفصول إلى صفحتين أو صفحتين و نصف ، و هذه تقنية كتابيّة إعتمدها الكاتب ستُتيح للمُتلقي سهولة تناول العمل ، والاستمرار معهُ لأنه لم يستغرق كتابة الفصل الواحد ، بصفحات طويلة حتى لا يتحقق الملل ، لتأتي النُتَف المُتناثرة في حصيلتها النهائية لتحقق معنى تارة يستقل بمفرده داخل حدود الفصل ، وتارة أخرى يواصل الأحدث المتتابعة والمتداخلة بخيط خفي ، وهذا ما يتيح القول : بأن الرواية حققت شيء من أهدافها ، ومنها بأن لا فرق بين البداية والنهاية ، فهما واحد ، لأن هذا حدث بسبب محو الذاكرة !!
تحاول رواية " النـسّاي " التوغل كثيرا في المهمل و الهامشي وغير المرئي و المخبأ في تفاصيل الحياة ، لتُشيد من هذه الهوامش متونا ، وتجعل منها ركائز شاخصة في عالم الرواية ، بلغة عالية تقترب من الشعرية ، عبر صياغة استعارات وتشبيهات وكنايات تحقق المفارقة المعنوية واللغوية دخل حدود السطر الواحد ، والنسق ، والفصل ، والعمل كله !!.
فنجد هنالك احتفاءً كبيرا باللغة عبر التقرب إلى قضايا الطبيعة والبيئة التي تشكل الحياة المجاورة لحياة الانسان ، لتفترض عالمها الخاص السابح في كون مفترض ، وجعلت منهُ موازياً للكون المعيش ، والذي نعيشهُ نحنُ في الحياةِ الطبيعة .. فثمة حيوانات، ومناخات، وأمكنه.... وأمكنة هامشية ، و أشياء لا تُرى في الحياةِ الطبيعة ، إنتقلت من العالم الموضوعي الحقيقي و تسللت إلى عالم الرواية على هيأة غير معهودة وغير معروفة في الحياة ، لاسيما في مشهدها الأول :
" بعد ليلة على دفنها غادرت ذلك القبر بقبته الزجاجية ، كانوا قد دمسوها به وأغلقوا عليها وسط بكاء وعويل ، كان لحدا ضيقا وموحشا أضج روحها بأصوات مجللة لا وجهة لها ، بحثت عن سدادتي الأذن الكبيرتين بين مقتنياتها التي تركت في القبر ذي القبة الزجاجية ، ابتعدت بخطوات حذرة ، دن الالتفات إلى الوراء ، وقد عقدت العزم على الإنسلال بعيدا والخروج من المقبرة " الرواية ص (9) .
في هذا المقطع تبدأ الرواية هنا من حيث نهايتها ، خروج البطلة " جنة " من القبر بعد ليلة دفنها ، لتبدأ الحكاية بسرد كل ما حصل بعد الموت وقبله في المدينة ، وتعود إلى لحظة موتها ، لكن الموت هنا قام بفعل المحو ، محو الذاكرة ، لتأتي ملامح الحياة وعناصرها مغايرة تماما عما هو معهود مسبقا .
كل هذه المتناقضات والمتغييرات ، التي صنعها عالم الرواية تسير بالتوازي مع ثُريا كُبرى ، توازي المرض الذي أصاب المدينة ، وهي ثُريا قصه الحُب الموجودة بين "البطل النباتي حاء نون و الطبيبه البيطرية جنة " وهذا ما ولد توافقا بين الشخصيتين ، بين النباتي الذي يرفض أكل الحيوانات و البطلة الحبيبة التي تُسهم في معالجة الحيوانات. و هذا الخيط الرابط بين الشخصيتين خلقَ مَناخاً اخرا لها.
إضافة إلى ذلك إن العمل يحتفي بالطبيعة و يدعو إلى محبتها من خلال الانتباه إلى هذه التفاصيل المضمرة .
هذه الرواية تضمر أيضا دعوةً تربوية لِإلغاء تاريخ الحروب و كتابة تاريخ الإنسان المندمج مع الطبيعة.
قد يجد المتلقي غير المُحترف صعوبةً في التناول لكنها بالتراكم ، بالاستمرارية ، بالصبر عليها سيجد المتلقي لذةً معينةً مع عوالم هذا النص .
من وجهه نظري – القاصرة - استطاع " يوسف المحسن " في كتابهِ هذا أن يخرج عن الكلاسيكيات القديمة للروايات ، التي تتسم بوصف الأمكنة والشخوص ورسم الصراعات التي تستمر مُتنامية إلى آخر الأعمال ، إلا أن "يوسف" هنا جعل الأمر مختلفا تماما ، إذ جعل هذه العناصر تسير خفيةً داخل العمل ، و ليبتكر عالماً خاصاً ، يحملُ دعوةً للتصالحِ مع الطبيعة مع الكون عِبر كون و عالم "النساي ".
نستطيع القول أن هذه رواية " النساي" خلقت عالمها الخاص ، وحفرت حقلها خارج حدود النوع الأدبي الروائي ، ومحت إلى حدّ ما بعضا من الذاكرة المعهودة في الأدب الروائي ، وزحزحت الاستقرار الذي عهدناه في هذه الكتابات ، لتأتي باحثة عن قارئِ خاص بها ، وهو الذي بدوره سيشكل معناه الشخصي ، وقد تنجح عند متلقٍ ، و تفشل عند متلقٍ آخر!! ، لكنّها في نهايةِ الامر نص سيصمُد و يسير إلى الأمام ، و سيجد قُرّاءهُ الخاصين به عبر الزمن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل