الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: بقية الفصل السادس عشر

دلور ميقري

2020 / 10 / 30
الادب والفن


4
كان من نتائج حرب السويس، أن التيار القوميّ استمد قوة كبيرة، تجلّت في الجيش. التجاذبات كانت محتدمة بين ذلك التيار والمجموعة اليسارية، بقيادة عفيف البزري رئيس الأركان. وقد تمت إجراءات أخيراً، لعدم حصول الصدام؛ من ذلك تسريح البعض من الضباط أو نقلهم لمراكز غير حساسة. معلّم جمّو السابق، الزعيم بكري، أُبعد إلى موسكو كملحق عسكريّ في السفارة السورية. في أول زيارة لها للوطن عقبَ انتقالها للعاصمة السوفييتية، استعملت بديعة، زوجة الزعيم، السفينة للوصول إلى ميناء اللاذقية إنطلاقاً من ميناء أوديسا على البحر الأسود. سببُ تجشمها الرحلة الطويلة، أنها حملت معها نفائس ومقتنيات نادرة؛ كالسجاد العجمي والثريات الكريستال والمعاطف المبطّنة بالفرو. لقد وضعت هذه الأشياء، كالعادة، في عُهدة صديقتها القديمة، هَدي، وذلك تحوّطاً لضربات القدَر، الغادرة: رجلها الزعيم، مثلما سبقَ وذكرنا أكثر من مرة، كان مبتلياً بإدمان المقامرة، وكانت تخشى أن يخسر باللعب أملاكها أيضاً.
هَدي، برغم طبيعتها العدوانية، كانت ترتاح كثيراً لصُحبة بيان، كونها تجدها امرأة ودودة ومسالمة. غبَّ مغادرة ضيفتها، عالية المقام،، استدعت امرأةَ جمّو: " سأريكِ شيئاً عجيباً، كالسحر "، قالتها مبتسمة. ثم كشفت غطاءً كتانياً عن صندوقٍ معدنيّ ذي إطار من الخشب الأنيق اللامع، تتوسّطه بلورة ضخمة. ثم عادت هَدي لتقول لبيان: " هذا الجهاز، يسمونه التلفزيون. إنه سينما، ولكن بشاشة صغيرة. لا يكتفي بعرض الأفلام، حَسْب، بل وأيضاً كل ما يخطر في البال من طرائف وأخبار وأغاني وموسيقى "
" شيءٌ عجيب، فعلاً. ألا يمكنك تشغيل الجهاز الآنَ؟ "، تساءلت بيان بنبرة متشكّكة. ابتسمت الأخرى، متكلّفةً مظهرَ العارف، وأجابت: " في روسيا، كل مواطن يملك هذا الجهاز، والدولة تبث الصورَ المطلوبة من خلال محطة إرسال تغطي البلاد كلها. أي مثل محطة الإذاعة "
" ولكنك قلتِ أن هذا الجهاز مثل السينما، فكيف سيدخل الممثلون فيه وهو بهذا الحجم الصغير؟ "
" كما فهمتُ من بديعة، أن الصورَ تأتي إلى الجهاز بنفس الطريقة، الذي يأتي فيها الصوتُ إلى جهاز الراديو. عندما تقوم الدولة عندنا مستقبلاً ببناء محطة إرسال تلفزيونية، سيمكنُ عندئذٍ تشغيل هذا الجهاز "، ردت المضيفة. بقيت بيان حائرة، لا يستوعب ذهنها هذه المعلومة، الجديدة والغريبة.

***
حماسُ مرتادي صالات السينما، وغالبيتهم من الرجال، تماهى مع فهمٍ طريف لحقيقة الشاشة الكبيرة. ينبغي التنويه أولاً بحقيقة أخرى، وهيَ أن أغلب صالات السينما كانت مسارحَ. على ذلك، ندرك لِمَ كان مشاهدو الأفلام يعتقدون أنهم أمام عالم واقعيّ مجسّد كما كان الامر مع فصول المسرحية. وإذاً، توهموا أن كل شيء يجري حقاً في الشاشة الكبيرة، سواء أكان المشهد يُجسّد لقاءً بين أبطال الفيلم أو ينقل سيرَ الناس في سوق من الأسواق. وقد جرت حوادث مضحكة، على خلفية تلك الأوهام.
في إحدى المرات، كان جمّو مع أصدقائه في صالة السينما، وكان بعدُ عازباً. لعلها كانت المرة الأولى، يدخل فيها إلى هذا العالم المسحور. أطفئت الأنوار، وما لبثت الشاشة الكبيرة أن أضيئت وتم تسجيل أسماء أبطال الفيلم وكأنها على لوحٍ مما يستعمله شيخ الكتّاب مع الأطفال. على الأثر، توالى المشهد تلوَ المشهد من الفيلم الناطق باللهجة المصرية. على حين فجأة، ظهرت سيارة من بعيد وكانت تجري بسرعة جنونية. لما اقتربت من مقدمة الشاشة الكبيرة، ما كان من جمّو ورفاقه، الذين جلسوا في الصف الأمامي، إلا القفز من أماكنهم، هاربين مرعوبين، وهم يرددون: " وَلْ، ول، ول..! ".
وهوَ ذا " علي "، زوج ابنة عيشو، يلجُ في يوم آخر إلى صالة السينما بمركز الشام. جاء برفقة زملائه من سلاح الدرك، وكانوا يتبخترون بملابسهم الرسمية، المهيبة والأنيقة. الموظف داخل الصالة، رافقهم إلى أماكن شاغرة في الصف الثالث. لكن عقبَ ذهابه، أدلى احدهم بحكمة: " علينا أن نأخذ الصف الأمامي في هذا التاترو، مثلما كنا نفعل في الملهى ". هكذا اندفعوا إلى الأمام، ليطردوا الجالسين هنالك وياخذوا أماكنهم. بعد قليل، وفي أثناء توالي المَشاهد، إذا ببطل الفيلم يظهر على الشاشة الكبيرة ليتكلم كأنه يخاطب المشاهدين، قائلاً باللهجة المصرية: " هل ثمة من يتحداني، لكي تبكي أمه عليه؟ "
" أنا أتحداك، يا هذا..! "، صاحَ علي بالبطل المفترض وهو ينهض واقفاً. ثم ما أسرع أن رمى ذلك البطل بخنجرٍ، استقرّ بأعلى الشاشة.

5
عيشو، كانت قد عادت إلى حياة العزلة عقبَ رجوعها من حوران؛ ثمة، أينَ حملت الرفشَ لتعمل في الأرض مثل الرجال. صلتها بالعائلة، انقطعت تقريباً غبَّ وفاة السيّدة سارة قبل نحو خمسة أعوام. صراخ ابنتها، المقتولة ظلماً وجهلاً، بقيَ يرن في سمعها مثل عويل قاطرة لا ينتهي صداه. تفرّغت تماماً لرعاية أسرة ابنتها، " خالدو "، التي بقيت لها في هذه الدنيا. أفراد الأسرة، كانوا يزدادون كل عام حتى بلغ عددهم سبعة في سنة أزمة السويس. في المقابل، لم يشأ أخوة عيشو معاملتها بالمثل؛ حفاظاً على صلة الرحم، على الأقل. جمّو من ناحيته، أخذ يستقبل زوجَ ابنة أخته، وذلك في أثناء وجوده بمنزل بديع؛ وكان هذا الأخير يقضي أشهراً كل عام في أوربا الشرقية، لمتابعة أعماله التجارية. علي، كان في ذلك الوقت قد تسرّحَ من سلاح الدرك. ثم أمكنه، على الأثر، الحصولَ على وظيفة مستخدم في أمانة العاصمة بوساطة من جمّو مع أحد المعارف.
مأساة " كَولي "، ابنة عيشو، تجددت بشكل آخر بعد نحو عقدين من الزمن. ابنة خالدو البكر، وتُدعى " حَسْنو "، اختلط عقلها نتيجة الخوف من أن تلحق بمصير خالتها، المغدورة. ذلك جرى، لما ذهبت سراً إلى صالة السينما، برفقة ابنة سلو، خال والدتها، لحضور فيلم مصريّ رومانسيّ. بمجرد علم الأم بالأمر، حبَست الابنة في حجرة المؤونة وكانت ترد على صراخها بالقول: " أعلمتُ أخوالي بما فعلتِ، وهم قادمون لذبحك ". كانت الأم تبتغي بثَ الخوف في فؤاد ابنتها، لكي لا تكرر الذهاب إلى صالة السينما. حينَ أُخرجت هذه الأخيرة من محبسها، في اليوم التالي، آلت إلى شخص آخر. منذئذٍ، صارت النوبات العصبية تنتابها بين حينٍ وآخر. النوبات، كانت تتوافق مع فصل قطاف الباذنجان وإعداده لتحضير المكدوس؛ أي حشو الثمار المطبوخة بالجوز والفليفلة ومن ثم حفظها في وعاء زجاجي مملوء بالزيت، لمدة أسبوعين، قبل أن تصبح جاهزة للأكل.

***
" محمد ولاتي "، كان شاباً أسمر، متين البنية، يعمل بالنول، المملوك من لدُن سلو. لقبه، " ولاتي: المواطن "، كان بسبب مجيء أسرته من موطن الأسلاف إلى الشام في وقت متأخر. موطنهم الأول، لم يكن سوى بلدة ديريك في منطقة مازيداغ، التي تقطنها عشيرة معلّمه سلو. هذا الشاب، كان من مريدي جمّو، متأثراً بافكاره كما ويكن له احتراماً كبيراً. كان هوَ الآخر يثيرُ معلّمَهُ، بأحاديثٍ عن حقوق الطبقة العاملة لناحية الأجر وتحديد ساعات الدوام. المعلّم، كان يعلٌّقُ ساخراً على أناقة أجيره واعتداده بنفسه، قائلاً بنبرة ساخرة: " يجب أن يُدعى محمد باريسي وليسَ محمد ولاتي! ".
ذات يوم، كانت حسنو تمر من أمام مشغل النول في طريقها إلى دار جدّة والدتها. تصادفَ آنذاك أنها كانت هادئة ومتّزنة، لمواظبتها على تناول الحبوب المهدّئة. رآها محمد، فأعجبَ بسمرتها ورشاقتها وملامحها اللطيفة. انتبه المعلّم لنظرات أجيره، المتعلقة بالفتاة، فما لبثَ أن تكلم معه على انفراد: " إذا أعجبتك، فأنا مستعد لمساعدتك لو شئتَ خطبتها. والدتها، هيَ ابنة شقيقتي ". تلجلجَ لسانُ الشاب، خجلاً، معرباً عن امتنانه للمعلم. هذا الأخير، عندما عاد إلى المنزل فإنه نقل الخبرَ إلى امرأته مقهقهاً، مختتماً بالقول: " سيأكل الولدُ مقلباً، بزواجه من تلك المجنونة ". فيما بعد، لما تقدّم محمد لخطبة الفتاة، بادرت جدّتها عيشو بشكل نزيه إلى وضعه في الصورة بشأن حالتها المرضية. مع ذلك، لم يتراجع الشابُ عن عزمه الزواج بحسنة. تقرر موعدُ حفل الزفاف في أول الصيف، على مألوف العادة في الأعراس.

***
الأفكار، الممقوتة من قبل سلو، وجدت طريقها إلى منزله في آخر الأمر. ابنه حسينو، ما لبثَ أيضاً أن صارَ من مريدي العم الصغير. لكنه لم ينتمِ للحزب رسمياً، مفضّلاً أن يبقى صديقاً يحصل على نشراته ويشارك في اجتماعاته الجماهيرية. عندما أعرب الأبُ عن سخطه إزاء هذا التطوّر الخطير، طمأنه الابنُ بالقول: " كوني صديقاً لن يعرضني لأي محاسبة، ما لو مُنعَ الحزبُ مجدداً وتمت ملاحقة منتسبيه. لكن الحزب في طريقه للسلطة، على أغلب التوقعات، وقد أرتقي بفضله إلى وظيفة مدير المدرسة ولعله يرشحني أيضاً لعضوية البرلمان ".
علاقة جمو بابن أخيه، بقيت وثيقة لحين صدمته بحقيقة خلقه ومسلكه. حسينو، كان ممن يحملون مفتاح منزل بديع في غياب هذا الأخير في أوروبا. ذلك كان يخفف من أوقات وجود العم في الدار ليلاً، الضروريّ كيلا يستغل اللصوص غيابَ صاحبه. لكن ما لم يكن يعلمه، أنّ ابن الأخ أخذ يدعو إلى المنزل عصبةً من أصدقائه، أكثرهم من المعلمين في مدرسته، وذلك للعب القمار في كل ليلة تقريباً. عدا عن حصته من الأرباح، كان حسينو يبيعُ المشروباتِ الروحية للزبائن بضعف ثمنها. صادف يوماً مرور جمّو بالمنزل، ليتفاجأ بروّاد المائدة الخضراء. لما تكررَ الأمرُ، بادرَ فيما بعد لأخذ المفتاح من ابن أخيه: " بديع، طلبَ مني أن أعطي المفتاح لأخيه محمد "، قالها عندئذٍ مضطراً للكذب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب


.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا




.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ


.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث




.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم