الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما الثورة؟ ( قراءة في كتاب : في الثورة والقابلية للثورة للدكتور عزمي بشارة )

أنجار عادل
طالب

(Adel Anejjar)

2020 / 10 / 30
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


بعد الحراك الشعبي بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط فيما عرف بالربيع العربي، وما خلفه من أسئلة كثيرة لدى مختلف الفاعلين والباحثين في الحقل السياسي و الفكري على حد سواء، صدر للدكتور عزمي بشارة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة2012 ، كتاب من الحجم الصغير في 104 صفحة في طبعته الأولى، يهدف إلى صوغ نظرية نقدية لمفهوم الثورة وتعريفها تعريفا علميا معاصرا، فقد أعاد مناخ الفعل الإحتجاجي الذي بدأ بتونس ليشمل بعد ذلك دولا عربية آخرى و ما أسفر عنه من تهاوي بعض الأنظمة السياسية كنظام الرئيس زين دين العابدين بن علي في تونس ونظام حسني مبارك في مصر إلى فضاء النقاش العام مفاهيم غابت أو بالأحرى أغيبت مع تغلغل الأنظمة الإستبدادية لعقود عدة، من قبيل السياسة نفسها و الإنتقال الديمقراطي و الدستورانية... ولعل كلمة الثورة أقوى وأهم وبحاجة أكثر إلى الإحاطة والتدقيق والنظر، قصد تجاوز الأحكام المسبقة عن المفهوم، التي قد تعيق اليسر نحو تحول ثوري إيجابي يحقق أمال الشعوب و يساهم في بناء المؤسسات الديمقراطية والهوية الوطنية بدول العالم العربي، ويقطع مع طول الإستبداد.
ينتمي هذا الكتاب إلى ميدان الفكر السياسي ويندج ضمن إنشغالات الدكتور عزمي بشارة بالتنظير للتحول الديمقراطي وحقوق المواطنة ومقاربة القضايا المركبة مثل الحرية والمجتمع المدني والعلمانية والقومية وغيرها... بمنهج بحثي فلسفي و تحليل عابر للتخصصات في العلوم الإجتماعية، وقد جاء مقسما إلى ستة عناوين وهي كالتالي : في مفهوم الثورة؛ الجدة والتجديد؛ الحرية والثورة؛ في الحالة الثورية أو القابلية للثورة؛ الثورة كحالة قابلة للإنتشار؛ الثورة الديمقراطية والإيديولوجية، غير أنه يمكن تقسيمه إلى جزئين أساسيين، يحيط الأول بمفهوم الثورة وسياقاتها التاريخية و الفكرية والمفردات والظواهر الأخرى القريبة منها، أما الجزء الثاني، توقف الكاتب من خلاله على القضايا والعناصرالمرتبطة بالمفهوم وهي الديمقراطية والقابلية للثورة، في محاولة للإمساك بأسباب وعوامل الإنتفاض وعلاقة الثورة بالديمقراطية على ضوء أحداث الربيع العربي ونقد الخطاب الأيديولوجي السائد، كما لا يخفى الإرتباط الوثيق بين أجزاء الكتاب الستة وتشابكها وإختيار بشارة أحيانا الإختصار و الإشارة عوض الإسهاب و إصدار مواقف قد تكون متسرعة في ظل التحولات التي لزالت تتفاعل في المجتمع العربي.
أولا : حول مفهوم الثورة
يبدأ بشارة بحثه عن فكرة الثورة من الفكر اليوناني وبالضبط بكتاب السياسية لأفلاطون وعند تمييز هذا الأخير بين أنماط الحكم الممكنة ( الأولكارشية؛ الديمقراطية؛ الأرستقراطية )، التي تعتبر كلها معرضة لخطرالثورة ككل النظم السياسية، ففي الديمقراطيات ينحصر الصراع بين الشعب والطبقة الحاكمة، بينما يفترض الوجهاء أنهم مميزون، في حين يتساوون مع من يفوقونهم فضيلة وأهلية، والجماهير في ظل الأولغارشية تنتفظ وتفترض شعورا مسبقا بالتساوي بين البشر في إطار جماعة محددة قائمة على العضوية المتساوية، وبالتالي السعي لإقامة نظام ديمقراطي، هذا الإفتراض المسبق بالتساوي سيشكل المرجع المعنوي للديمقراطية الحديثة التي أعلنت عنها الثورة الفرنسية الوطنية والديمقراطية، بعد أن نجحت في تحويل التوق إلى الحرية إلى ديمقراطية، وأنشأت أمة مواطنية كجماعة قومية لحملة الحقوق السياسية، في حين يهدد الإنهيار الكيانات الوطنية، لاسيما إذا كانت الدولة متعددة الهويات، ولم تنشئ الثورة دولة أمة مواطنية بعد إنهيار النظام القائم.
بعد ذلك، يتسأل الكاتب ببعض من الإستنكار، هل هناك تحديد علمي للثورة ؟ قبل أن يقر بصعوبة القول بعلمية ما كتب في ذلك، ويواصل مهمة الإمساك بالمفهوم كما أعلن بداية، حيث أطلقت الكلمة على عدد كبير من الظواهر المختلفة في شدتها وسياقاتها ومضمونها من إنتفاضات شعبية وتحركات مسلحة وغير مسلحة و حملات إسقاط النظام، لكن تخصيص اللفظ لتلك التمردات الشعبية ظهر خلال القرن العشرين بفعل الحضور الإيديولوجي الثوري، و إتخاد المفهوم في أدبيات مثقفي اليسار معنى رفض ومقاومة النفود الرسمالي الأمريكي والأنظمة الإستبدادية (الثورة الكوبية ؛ الثورة الصينية...)، وبالمقابل نجد مرادفات في الثرات العربي والإسلامي، إستخدمت لوصف مظاهر متعددة من الصراع والفعل الجماعي، مثل الفتنة التي تحمل معاني معيارية سلبية وتحيل على الفوضى والخصومة، نظرا لمركزية الجماعة ووحدة الأمة في المرجعية الإسلامية وإعتبارالخروج عن الإجماع تفرقة وخراب للعمران، لكنها بعيدة عن الثورة بمعناها الحديث، فالفتنة صراع أهلي يمس بإستخدام العنف التوازن السياسي الإجتماعي القائم بين جماعات أهلية.
تعد كلمة الخروج في التاريخ الإسلامي حسب بشارة الأقرب إلى المفهوم، من حيث الإشتراك في فعل المطالبة بحق ماعادا تحقيقه ممكنا في ظل النظام القائم، فالخروج في هذا السياق كما إكتسب معناه مع أبي ذر الخفاري، يحيل إلى اللجوء إلى المجال العام لطلب الحق أو دفع ظلم، من البيت إلى الشارع أو الميدان، أي من المجال الخاص إلى العام، والقيام بفعل سياسي خارج النظام والشرعية القائمة، لكن رغم هذا التقارب لا يشكل الخروج والغلبة أي نظرية للثورة، لأن الفكر الإسلامي الفقهي في أغلبه، ظل يبرر الخضوع والقبول بالسلطان الجائر ويرفض الخروج عنه، كما يقول ابن عبد الوهاب الذي حرم بشكل مطلق الخروج على ولاة الأمر برهم وفاجرهم أو حتى توجيه النقد والنصح إليهم، أوابن تيمية الذي ذهب إلى أن السلطان ليس مصدر الشرعية بل العمل بالشريعة، فهو لم يقل بعدم الخروج عن السلطان وإنما بعدم الخروج عن الدين، فما يهمه هو الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية التي تسير بموجب شريعة الله، مما قد يمكن من فهم موقف الكثير من السلفيين المعارض للثورات العربية.
من أجل مزيد من التدقيق والتمييز لمفردة الثورة، وقف بشارة عند الدلالة اللغوية، فوجدها تتضمن معنى الغضب والهيجان، الذي ليزال قائما في الثقافة العربية والإستخدام الشعبي للكلمة، كما تشير شعارات بعض الحركات الشعبية إلى ذلك (إئتلاف شباب ثورة الغضب)، مما جعل كلمة الثورة ترتبط بالحركة السريعة مثل الهبة والإنتفاضة، فميز توفيق الحكيم في كتابه ثورة الشباب بين الثورة والهوجة، ووصف الأخيرة بإقتلاع الصالح والطالح معا كالرياح تطيح بالأخضر واليابس، أما الثورة فهي تبقي النافع وتستمد منه القوة وتقضي فقط على البالي المتهافت المعوق للحرية.
إن هذا الغموض حول مفردة الثورة وإلتباسها وصعوبة الإقرار بتحديد علمي لها، وإستخدامها لوصف ظواهر مختلفة ومتشابهة، سهل إسقاط تعريفات إيديولوجية جاهزة ومتعالية على الثورات العربية، أدت إلى التشكيك فيها و إتخاد مواقف سلبية منها، أو إعتبارها خطرا داهما وجب ردعه وتجنبه أو حلا إيجابا كليا، فاقترح بشارة بدلا من ذلك تعريفا دقيقا للثورة في المجال السياسي : « المقصود بالثورة هو تحرك شعبي واسع خارج البنية الدستورية القائمة، أو خارج الشرعية، يتمثل هدفه في تغيير نظام الحكم القائم في الدولة » (ص 24)، مما يزيل اللبس ولو مؤقتا ويمكن من تمييزالثورة عن باقي المفردات الأخرى في المجال السياسي على الأقل.
من المفاهيم المرتبطة والمتداخلة بالثورة، ومن الظواهر المعنية كذلك بتغيير النظم السياسية : مصطلح الإنقلاب، الذي يحمل معنى التغيير الجدري للنظام السياسي أكثر مما تحمل مفردة الثورة، التي كانت حالة من الهيجان والغضب، إلا أن إستعمال العرب لهذه المفردة (الإنقلاب) إرتبط بمعناها الجزئي، فقصروها على الإنقلاب العسكري، لتدخل كمفهوم سلبي في العربية الحديثة، عكس إستخدام الفرس والترك للكلمة، حيث تعني التغيير الجدري للنظام السياسي.
إلا أنه على المستوى الواقعي، ترتبط الثورة بمنطلقاتها الشعبية و يجري الإنقلاب داخل النظام القائم على أيدي جزء من النخبة الحاكمة أو على أيدي جزء من المؤسسات الحاكمة، بما في ذلك الجيش أو قسم منه، وقد يؤدي إلى تغييرات و توزيع جديد للسلطة داخل النظام أو يحافظ على إستمراريته.
وفي هذا المستوى من التحليل، يفكك بشارة تنائية الثورة والإصلاح المتنازع عنها، والتي هيمنت على الخطاب السياسي في الشارع العربي، بل وإستعملت لتمييز المواقع و التصورات ومواقف المعارضة من الأنظمة السياسية القائمة، فيرفض التطرف في كلا الإتجاهين لأنه لا يقود في النهاية إلا إلى موالاة الأنظمة الإستبدادية والشمولية أو إلى بناء أخرى جديدة على أنقاظها، إذ لا يمكن فهم المقابلة بين المفهومين بإعتبارها متناقضين إلا داخل الإطار الإديولوجي للماركسية والسجال الفكري داخلها، خاصة مع مقالة روزا لكسبورغ : «الثورة أو الإصلاح الإجتماعي؟ » في ردها على إدوارد برنشتاين، فالثوري يبتغي إصلاحا في النهاية و الإصلاحي يمكن أن يقود تحولا ثوريا أو تتحول الثورة إلى عملية إصلاح أو يتتضمن هذا الأخير عناصر ثورية.
وأخيرا فإن الثورة الحديثة نظاما و شأن علماني داخل نطاق الحداثة ولا تقبل نمطا هرميا للحكم معطى كشأن طبيعي، بل تنزع الغطاء الديني المقدس عن الخطاب السياسي، حتى ولو أعيد صوغها دينيا.
ثانيا : في الحالة الثورية و القابلية للثورة
متى يتحرك الشعب ؟ وإذا فعل متى يتحول الإحتجاج الشعبي إلى ثورة تستهدف مجمل النظام السياسي؟
برأي بشارة لا يمكن وضع نظرية شاملة للثورة تتنبأ بشكل علمي بوقوعها، فالأمر لا يتعلق بقضايا نظرية يمكن صوغ معادلة لحها، بقدرما يتعلق بوقائع تاريخية تختلف من مكان إلى أخر، فالعوامل المحركة لإنتفاض الناس ضد الظلم كثيرة يصعب الإمساك بها كلها من دون تعسف، والكتابات النظرية المأدلجة التي حاولت صياغة تصور ثوري شمولي مشتقة غالبا من تحليلات لثورة تاريخية بعينها، في إشارة إلى الكتابات الماركسية، مثل تفكيك لنين للثورة الفرنسية وإتخاد بعض مثقفي اليسار ثورة أكتوبر نموذجا معياريا لفهوم الثورة، ورغم أن الأخير(بشارة) لا ينفي فائدة التنظير النظري في التنبؤ بالثورة، لكن دون تجاوز ذلك إلى الوتوقية اليقينية، فالدوافع نحو الثورة تتخدد أشكالا بسيطة وذات طبيعة أساسية يتفق الجميع عليها ولا تصل إلى درجة المطالب والتصورات الإيديولوجية التي تعتبر لاحقة عن الثورة، فقد تمت أدلجة الثوراث حتى تلك التي إنتهت إلى أنظمة ذات إيديولوجية رسمية ( الثورة الكوبية ؛ الثورة الإسلامية...) و إلصاق تصورات إيديولوجية بها بعد حدوتها، وهو ما أتبتته الثورات العربية التي لم تنشب بواسطة حزب سياسي منظم يسعى للوصول إلى السلطة، بل حركتها فئات شعبية غير مسيسة، إنتفضت ضد الظلم والنظام القائم دون أي برنامج سياسي أو تصور إيديولوجي مسبق، قبل أن تفسح المجال للمنافسة الحزبية و الإديولوجية على السلطة.
يؤكد بشارة ما سبق وأشار إليه أثناء حديثه عن الديمقراطية والمسألة العربية، من كون القوة التوحيدية للهوية العربية المشتركة قائمة وبقوة ولا ينبغي تجاهلها، وهو ما ظهر بوضوح في إنتقال أمال الثورة بين الأقطار العربية إنطلاقا من تونس لتشمل أقطارا عربية آخرى، على خلاف الثورة الأكبر في العالم الإسلامي في إدونيسيا التي لم تدفع أحد للتحرك.
وفي علاقة مطلب الديمقراطية بالثورة والتوق نحو الحرية، ينفي كون الديمقراطية وليدة الثورة وحدها كما يذهب إلى ذلك دعاتها من مشارب إيديولوجية ثورية مختلفة، بل الأمر أعقد من مجرد ثورة، « والديموقراطية كما نعرفها اليوم لم تقم من خلال ثورات، وإنما من خلال عملية إصلاح طويلة، وأحيانًا بدأ التحول ذاته من دون ثورة، بل من أعلى، وتخللت حالات الإصلاح انتفاضات عنيفة تبعتها إصلاحات ديموقراطية، وقلما بنيت الديموقراطية دفعة واحدة من خلال عمل ثوري واحد، أو من خلال ثورة أمسك في إثرها الديموقراطيون بالسلطة بفعل انقلابي » (ص 88-89) ،إنما غالبا عبرسيرورة طويلة ومعقدة من الإصلاح المستمر يقود إليه إلتقاء تغيير عناصر النظام القائم وعملية تجاوز كوارث الثورات ذاتها، كما عرفت التجربة الفرنسية ومراحل تطورها.

في خاتمة قراءة هذا الكتاب للدكتور عزمي بشارة، لا يمكن إلا إعتباره إضافة مهمة إلى المكتبة العربية التي تفتقر إلى كتب وأعمال أكاديمية رصينة تقوم على الدراسة المعمقة لمفهوم الثورة بالكثير من الموضوعية، لينضاف إلى أعماله الفكرية الآخرى، مع الإقرار بنسبية رؤيته للثورة مفهوما وواقعا أوتوصيفه لأوضاعا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين في تل أبيب يطالبون


.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين يطالبون بإسقاط نتن




.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين يطالبون بإسقاط نتن


.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية وأهالي الرهائن المتظاهرين




.. علاقة إيران والبوليساريو.. بدايات التضامن والدعم