الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراسمالية مستنبت الفاشية-الحلقة الأخيرة

سعيد مضيه

2020 / 10 / 31
مواضيع وابحاث سياسية


الخلاص في ثقافة الأمل.. ثقافة الديمقراطية

علينا ان نؤمن بمبدأ الأمل . الماركسي لا يملك الحق في التشاؤم- إيرنست بلوخ

مضت الليبرالية الجديدة شوطا واسعا في توحيش البشر عن طريق إشاعة ثقافة القسوة. ابتكرت في هذا المسعى وأشاعت مفهوم "الفضلات البشرية". وتشيع دول الثالوث الامبريالي، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان ، بين جمهورها أفكار العنصرية والتفوق العرقي – الابارتهايد- تجاه بقية شعوب الكرة الأرضية. كما يدمن اليمين الفاشي سياسات قومية البيض والتطهير العرقي. قطِعت الذاكرة وتم نسيان تضامن الفرنسيين والفرنسيات وشعوب أوروبا والولايات المتحدة مع نضال فييتنام والجزائر وبورسعيد ضد العدوان الأمبريالي؛ فبات موضع السخرية والإدانة التضامن مع ضحايا نشاط الرأسمال عابر القارات ، اولئك المنكوبين بالفقر والتهميش، او المشردين من ديارهم أو يعيشون تحت حكم الأبارتهايد مثل الشعب الفلسطيني. يهلك الملايين في صراعات عرقية او طائفية في إفريقيا وأسيا تذكيها الاحتكارات كي تسطو في العتمة لنهب الثروات الوطنية فلا تبرز حركة تضامن او استنكار في أوروبا واميركا .على نقيض التضامن شاعت أفكار التدجين الأخلاقي من خلال تقديم وشرعنة ما لا نهاية له من الصور المحقرة والمهينة لفقراء ومهاجرين ومسلمين وآخرين يعتبرون فائضين عن الحاجة ، أو حيوات مبتذلة مقضي عليها بالإقصاء في نهاية الأمر.
من يجهل هذه المكائد في أوساط الشعب الفلسطيني وأصدقائه بستغرب غياب التضامن معه في محنته الراهنة.
في جحيم الليبرالية سقطت فكرة التضامن الدولي والاجتماعي، وأعفت الدولة نفسها من وظيفتها الشكلية، وظيفة توفير خدمات التكافل الاجتماعي الأساس تجاه من أفقرهم نشاط الرأسمال المفتون بتعظيم الأرباح بالمليارات، وتضخيم الرأسمال؛ رافق ذلك التوجه إشاعة سيطرة السوق، ليتحكم بالاقتصاد وبالتعليم والطبابة وبشتى أوجه الحياة الاجتماعية. كل شيئ في ظل الليبرالية الجديدة تحول سلعا قابلة للبيع؛ تم ابتذال التعليم ومفهوم الدين لإشاعة العنصرية والفاشية. إحدى السمات المركزية للكتب المدرسية هي انكماش التفكير المعقد والنقدي.
نشاط الاحتكارات يعود بفوائد مركبة : تنهب الثروات الوطنية وتغرق البلاد بالدماء وتعطل تطوير الإنتاج الوطني ، فيدفع اليأس من الخلاص من السيطرة الأجنبية وعملائها الحكام المحليين الى هجرات جماعية بدل النضال للإطاحة بحكم عملاء الاحتكارات الدولية .غدا المضطرون للهجرة والبحث عن أوطان جديدة عناصر تأجيج عنصرية اليمين المتطرف والفاشية والنازية الجديدة في بلدان الرأسمالية المتطورة. في ذات الوقت أشاعت الليبرالية مفهوما للتدين يمجد القوة، وشأن التدين في المجتمعات الخارجة من العصر الوسيط ، إذ أعفى الحكومات من أي مسئولية تجاه مجتمعاتها، اعتُبِر الفقرُ والتخلفُ والانتكاساتُ السياسية عقابا من الرب على ترك الدين.الرب لا يعاقب سوى الفقراء المنكودين في نظر فقهاء الليبرالية الجديدة؛ بينما القوة والثراء مكافأة من الرب على طاعته!!

تصدى مثقفون كبار وخبراء تربية وفنانون يدافعون عن إنسانية البشر بغض النظر عن المكانة الاجتماعية أو العرق او اللون أو الدين. وعلى نطاق واسع في جميع القارات اخذوا يفضحون ويعرّون لا إنسانية ثقافة الليبرالية الجديدة ونهجها التربوي. إزاء موجات التجهيل باتت مهمة التحرر الإنساني ثقافية بالدرجة الأولى، وبات النشاط الثقافي لتعرية ثقافة الليبرالية الجديدة ومكافحته أحد أركان المقاومة دفاعا عن إنسانية البشر وعن أهلية الكوكب الأرضي لحياة البشر. وهذا ما يكرس أكاديميون وكتاب وصحفيو تقصي ومثقفون وفنانون حياتهم المهنية للنهوض بأعبائه. وهذا مضمون الجزء الثاني لبحث الأكاديمي غيروكس:

مركب الجهل والسلطوية

يقدم باول غيلروي سببا آخر لحث التربويين لزيادة الجرعة- جرعة التربية في السياسية وجرعة السياسة في التربية ؛ وزيادة جرعة السياسة في التربية تحتفظ بأهمية حاسمة لكي نقر ، كما ذكّرنا باول فريري، ان التربية هي دوما نضال حول حرية الإرادة، والهويات والرغبات والقيم؛ بينما نقر أيضا ان للتربية دورا حاسما تلعبه لدى تناول القضايا الاجتماعية الهامة وفي الدفاع عن التعليم العام والعالي باعتبارهما مجالي ديمقراطية عامة. تنطوي زيادة جرعة السياسة في التربية على أهمية استثنائية ، حيث أن إنتاج أنماط معرفية وممارسات اجتماعية لا تؤكد فقط العمل الثقافي المعارض والممارسات التربوية ، بل وتهيئ أيضا الفرص لتعبئة حالات من الغضب الجماعي المرفق بالنشاط الجماهيري المباشر، ضد رأسمالية الكازينوهات شديدة القسوة والسياسات الفاشية البازغة. يتوجب على تلك التعبئة معارضة الجور المادي الصارخ وتنامي الاعتقاد الساخر بأن الديمقراطية والرأسمالية صنوان. على أقل تقدير تقترح التربية النقدية أن التعليم أحد أشكال التدخل السياسي في العالم وان بمستطاعه إنشاء إمكانات التحول الفردي و الاجتماعي. الجهل يسيطر الآن على أميركا، ليس الجهل البسيط، ان كان الجهل البريء الناشئ عن غياب المعرفة؛ لكننا إزاء الجهل الخبيث المتولد عن صلافة رفض التفكير الجاد في القضية، والعزوف عن تشغيل اللغة في البحث عن العدالة. وقد أصاب جيمز بالدوين بتحذيره الصارم في كتابه "لا اسم في الشارع" بأن "الجهل إذا ما تعزز بالسلطة يشكل أخطر عدو متوحش يمكن للعدالة ان تواجهه." حاليا ينظر الى التفكير نمطا من الغباء، وعدم التفكير يعتبر فضيلة. ان جميع آثار التفكير النقدي لا تظهر إلا في هوامش الثقافة، حيث غدا الجهل المبدأ المنظم الرئيس للمجتمع الأميركي. فكما هو معلوم فإن جهل الرئيس ترمب يتكشف كل يوم. لا يكتفي بالأكاذيب تصدر تباعا حلقات في سلسلة ممتدة، بل إن جهله غدا إحدى أدوات السلطة ، لكي يمنع وضع السلطة أمام مسئولياتها. يضاف لما تقدم فالجهل عدو التفكير النقدي، وللمثقفين المنخرطين بالمجتمع وللأشكال التحررية للتعليم. الجهل ليس بريئا، خاصة عندما يملأ فراغ التفكير السليم ويصف التفكير بالخطورة ، بينما يبدي ازدراءه للحقيقة وللبينات العلمية والحكم العقلاني.

مهما يكن، فهناك ما هو على حافة خطر أعظم من إنتاج نمط سامّ لأمية يجري الاحتفاء به تفكيرا سديدا ، ومن التطبيع مع الكذب وانكماش الآفاق السياسية؛ هناك أيضا إغلاق آفاق السياسي مرفقا بتعبيرات واضحة للقسوة و " غلاظة مباحة على نطاق واسع"(9).
يضرب طوق من الحصار الخانق على نفس الظروف التي تمكن الناس من إصدار قرارات مرشّدة بالمعرفة، وذلك مع تخفيض مخصصات المدارس، وتعاظم مركزة الميديا في شركات كبرى، وحيث يجري اغتيال الصحفيين المعارضين؛ تلفزيون الحقيقة غدا نموذجا للتسلية الجماعية. نحن الآن نعيش في عصر جديد من القسوة، حيث نجد من يبلّغنا ان المؤشر المركزي لحرية إرادتنا اشتباكنا يكمن في حرب مع الآخرين، نطلق العنان للجانب الأشد قسوة ومناكفة فينا، ونتعلم كيف نبقى على قيد الحياة داخل ما دعته نعومي كلاين[كاتبة تقدمية كندية] "غابة صراع الحياة أو الموت للراسمالية المتأخرة." في ظروف كهذه يتصاعد لأقصى طاقته الهجوم على التفكير العقلاني والعطف والتخيل الحنون. تشبه ديكتاتورية الجهل بطرق معينة ما دعاه الكاتب جون بيرغر "إغتيال الأخلاق"، وحسب تعريف جوشوا سبيرلينغ " شذوذ الحواس؛ تفريغ اللغة؛ قطع العلاقة مع الماضي ،مع الأموات، والمكان والأرض، ومع التربة؛ ربما، كذلك، مسح حتى بعض العواطف، الشفقة، التعاطف، المواساة، الحداد والأمل".(10) جرى تشويه كلمات مثل الحب ،الثقة، الحرية، المسئولية والاختيار من خلال منطق السوق الذي يضيّق معناها إما ضمن علاقة مع السلعة او فكرة اختزالية لمنفعة ذاتية . فالحرية تعني الآن الابتعاد عن أي إحساس بالمسئولية الاجتماعية بحيث يستطيع المرء التراجع الى أفلاك مخصخصة للانشغال بالذات. وهكذا تمضي الأمور. إن الشكل الجديد للأمية لا يشكل ببساطة غياب التعلم او الأفكار او المعرفة؛ ولا يمكن ان تعزى فقط الى ما بات يدعى" مجتمع الهاتف الذكي "(11)؛ بالعكس من ذلك فالأمية ممارسة وهدف اختياريان يسخّران لإبعاد الناس عن السياسة وتحويلهم الى متواطئين مع القوى التي تفرض البؤس والمكابدة في حياتهم.

لا سياسة ثورية بدون تربية نقدية

في ضوء الأزمة الراهنة للنشاط السياسي وحرية الاختيار والتاريخ والذاكرة يحتاج المربون الى لغة سياسية وتربوية جديدة لكي يخاطبوا السياقات والقضايا المتغيرة التي تواجه عالما حيث الرأسمال يلهف خليطَ مواردٍ لم يسبق لها مثيل – مالية ، ثقافية، سياسية، اقتصادية ، علمية، عسكرية وتقانية – وصولا الى قدر عظيم من السيطرة متعددة الأشكال والنماذج . إذا قدر للمربين وغيرهم التصدي لقدرة الرأسمالية العالمية المتعاظمة على فصل المجال التقليدي للسياسة عن امتداد السلطة العابر للقوميات فمن الملح تطوير المقاربات التربوية الرافضة لتداعي التمييز بين حريات السوق والحريات المدنية، وبين اقتصاد السوق ومجتمع السوق. والمقاومة لا تبدأ بإصلاح الرأسمالية، بل بإلغائها. في هذا المطلب تغدو التربية النقدية ممارسة سياسية وأخلاقية في الكفاح من أجل إحياء الوعي المدني، والثقافة المدنية وفكرة المواطنة التشاركية. النشاط السياسي يفقد إمكاناته التحررية ان لم يزود شروط التعليم اللازمة لتمكين الطلبة وغيرهم من التفكير خلافا للمألوف، ويتيح للطلبة تقييم ذواتهم، مواطنين مطلعين نقديين ومنخرطين في مجتمعهم . فما من أنشطة سياسية راديكالة تقوم بدون تربية قادرة على إيقاظ المدارك ، وتحدي الإدراك العام، تربية تخلق أنماط تحليل يكتشف الناس من خلالها لحظة اعتراف تتيح لهم إعادة التفكير في الظروف المشكّلة لحيواتهم. إنها لحظة الأمل.
كقاعدة عامة يتوجب على المربين تركيز الجهود على ما هو أعظم من خلق شروط التفكير النقدي وإنعاش إحساس بالأمل لدى الطلبة؛ فهم بحاجة أيضا الى الاضطلاع بمسئولية التربية المدنية ضمن سياق اجتماعي ، والرغبة في مشاركة آرائهم مع مربين آخرين ومع الجمهور الواسع من خلال الاستفادة من تقنيات ميديا جديدة. إن التواصل مع جمهور متنوع من المتلقين يفترض الاستفادة من فرص الكتابة ، مخاطبة الجمهور والمقابلات عبر الميديا التي توفرها الإذاعات والانترنت والمجلات البديلة وتعليم الصغار والكبار في مدارس بديلة، وكل هذه ليست سوى البعض من الأساليب الممكنة. ان تراث فريري ضروري للغاية في دعوته للأخذ بالتربية النقدية باعتبارها ممارسة سياسية وأخلاقية، وذلك لكي يبعثوا الحياة في الإدراك المدني، والثقافة المدنية وفكرة المواطنة التشاركية. يقوم التعليم في العالم المعاصر بدور موقع حاسم للسلطة. وإذا اهتم المعلمون حقا بحماية التعليم، فعليهم أن يلموا بجدية بالكيفية التي يؤدي التعليم دوره على المستويات المحلية والعالمية. فالتربية النقدية تؤدي دورا هاما لفهم، ومن ثم تحدي، الكيفية التي يتم من خلالها تموضع السلطة والمعرفة والقيم وتأكيدها ومقاومتها ضمن النقاشات التقليدية والمجالات الثقافية وخارجها . وفي سياق محلي تغدو التربية النقدية أداة نظرية هامة لإدراك الظروف المؤسساتية التي تضع العراقيل أمام تقديم المعرفة والتعلم وتعطل العمل الأكاديمي والعلاقات الاجتماعية والديمقراطية بالذات. والتربية النقدية تقدم أيضا خطابا بالا شتبك مع ومقاومة بنية الهيراركيات الاجتماعية والهويات والإيدلوجيات، وهي تجتاز الحدود القومية. يضاف لهذا كله فالتربية كأحد أشكال الإنتاج والنقد توفر خطاب الاحتمالات – طريقة لتزويد الطلبة بفرصة ربط الإدراك بالالتزام، وربط التحول الاجتماعي بالسعي من أجل أعظم عدالة ممكنة. وهذا يفترض أن أحد أعظم التحديات الجادة التي تواجه المعلمين والفنانين والصحفيين والكتاب وكل شغيلة الثقافة يكمن في مهمة تطوير خطابات وممارسات تربوية تربط القراءة النقدية لكل من العالم والكلمة بأساليب ترفع القدرات الإبداعية للصغار وتوفر الشروط لكي يتحولوا الى عناصر نقدية. يتوجب على المربين وآخرين غيرهم ، إذ ينهضون بعبء المشروع ، أن يحاولوا خلق الظروف اللازمة لإعطاء الطلبة فرصة التزود بالمعرفة والقيم والشجاعة المدنية التي تمكنهم من النضال من أجل ان يحيلوا الخراب والارتياب في الجنس البشري موضع تشكيك، يستبدلونه بالأمل واقعيا وعمليا.

ثقافة الأمل

الأمل قيمة تعليمية في هذا المقام، إذا جرد من الفانتازيا والمثالية، كي يعي العوائق المضادة للنضال من أجل مجتمع ديمقراطي راديكالي. الأمل المكتسب عن طريق التعليم ليس دعوة لتجاوز الظروف الصعبة التي تشكل المدارس والنظام الاجتماعي الأوسع ، ولا هو الدليل المرشد المقطوع عن السياقات والنضالات المحددة. بالعكس من ذلك، فالأمل هو الشرط المسبق لتصور مستقبل لن يكرر كوابيس الحاضر، وللحيلولة دون استمرارية الحاضر في المستقبل. الأمل المكتسب عن طريق التعليم يوفر القاعدة لتمجيد عمل المعلمين؛ إنه يزود بالمعارف النقدية المرتبطة بالتغيير الاجتماعي الديمقراطي، ويؤكد المسئوليات المشتركة، ويشجع المعلمين والطلبة على الإقرار بان التناقض واللايقين بعدان جوهريان للعملية التعليمية. ان أملا كهذا يوفر إمكانية التفكير في ما وراء المعطى. وبقدر ما قد تنطوي عليه المهمة من صعوبة على المربين، ان لم يكن الجمهور الأوسع، فإنها نضال يستحق الخوض فيه.

في عصر رأسمالية النهب الضاري وسياسات الفاشية البازغة يواجه المربون والطلبة وغيرهم من المواطنين المعنيين تحدي تقديم لغة تحتضن طوباوية مكافحة ، بينما تعير انتباهها باستمرار لتلك القوى الساعية لتحويل الأمل الى شعار جديد أو لإنزال العقاب وطرد كل من يجرؤ على النظر ما وراء الأفق المنظور. الفاشية تلد السخرية وهي عدو الأمل المكافح والاجتماعي. ينبغي للأمل ان يتصلب بالواقع المعقد للأزمنة وينظر اليه مشروعا وشرطا لتوفير قدر من الإرادة الحرة الجماعية ، المعارضة، والمخيال السياسي والمشاركة المنخرطة بالعمل. بدون الأمل، حتى في أشد الخطوب قتامة، تنعدم إمكانية المقاومة والنضال. الإرادة والتصرف بحرية شرط للنضال ، والأمل شرط للإرادة والتصرف بحرية. الأمل يوسع حيز الممكن ويتحول الى أسلوب للتعرف على وتسمية طبيعة الحاضر غير المكتملة. والأمل هو الشرط المسبق الفكري الفعال للنضال الفردي والاجتماعي. الأمل ، وليس القنوط، هو الشرط المسبق المشجع للنقد من جانب المثقفين داخل الحرم الأكاديمي وخارجه؛ حيث الأكاديميا توظف المصادر النظرية لدى مقاربة المشاكل الاجتماعية. الأمل هو أيضا جذر الشجاعة المدنية تترجم النقد الى ممارسة سياسية. والأمل باعتباره رغبة في مستقبل يوفر ما هو أوفر من الحاضر، يغدو في أقصى حدته حين لا تعود حياة المرء امرأ مفروغا منه. وليس بغير التمسك بكل من النقد والأمل في هذا السياق يتاح للمقاومة تجسيد احتمال تحويل النشاط السياسي الى حيز أخلاقي ونشاط عام. إن تشييد مستقبل أفضل من المستقبل الذي نتوقع أن تتكشف معالمه سوف يتطلب ما لا يقل عن مواجهة تدفق التجارب اليومية وأعباء المعاناة الاجتماعية بقوة المقاومة الفردية والجماعية ومشروع التحولات الاجتماعية الديمقراطية المتواصل أبدا. وفي ذات الوقت لكي تنهض المقاومة في الصمود بوجه تحديات بروز سياسات الفاشية، فإن عليها أن تطور إيقاظ الرغبة. هذا الشكل من الرغبة المتنورة متجذر في حلم الوعي والتخيل الجماعيين، تغذيه النضالات من أجل أشكال جديدة للمجتمع تتأكد فيه قيمة المساوا ة الاجتماعية والاقتصادية وقيم الميثاق الاجتماعي والديمقراطية والعلاقات الاجتماعية.

للثقافة النقدية لغتها

إن الكفاح الدائر ضد الفاشية الوليدة في عموم العالم ليس نضالا حول البنى الاقتصادية أو الشواهق المسيطرة لسلطة الاحتكارات فحسب، بل هو أيضا نضال حول الرؤى والأفكار والوعي وسلطة تحويل الثقافة ذاتها. وهو أيضا ، كما أشارت حنة آرندت ، نضال مناهض ل" خوف واسع الانتشار من الحكم العقلاني"(13) ؛ فبدون القدرة على الحكم العقلاني تستحيل استعادة كلمات ذات معنى، وتصور مستقبل لا يحاكي الزمن المعتم الذي نعيشه، وخلق لغة تغير أسلوب تفكيرنا بأنفسنا وتغير علاقاتنا بالآخرين. إن أي نضال من أجل نظام اشتراكي ديمقراطي راديكالي لن تقوم له قائمة إلا اذا " تعلمنا دروس حاضرنا المعتم وحولناها الى قرارات بناءة، وحلول لنضالاتنا وإقامة مجتمع ما بعد الرأسمالية".(14)
في النهاية لا ديمقراطية بدون مواطنين متنويرين بالمعرفة، ولا عدالة بدون لغة العدالة النقدية. تبدا الديمقراطية بالتراجع والحياة السياسية تصاب بالهزال إذا غيبت تلك المجالات الحيوية العامة مثل التعليم العام والعالي، تزود بالقيم المدنية والتعليم الجامعي العام والانخراط بالنشاط الاجتماعي وتكوين تصور يقبض بقوة أعظم على مستقبل يأخذ بجدية مطالب العدالة والمساواة والشجاعة المدنية. يتوجب أن تكون الديمقراطية أسلوب تفكير حول التعليم ، ديمقراطية تنمو بتعلم قيم الأخلاق وحرية الإرادة لمستلزمات المسئولية الاجتماعية والمصلحة العامة. رأسمالية الليبرالية الجديدة تجرد الأمل من إمكاناته الطوباوية وتنمو على فكرة اننا نعيش في حقبة أمل متنام ، وأي محاولة للتفكير عكس ذلك يسفر عن كابوس. ومع هذا، تبقى حقيقة أنه بدون أمل لا إرادة حرة وبدون عناصر جماعية لا أمل في مقاومة. في عصر الفاشية الوليدة لا يكفي أن نربط التعليم بالدفاع عن العقل ، والحكم المتنور والإرادة الحرة النقدية؛ يجب ان يتوافق التعليم مع قوة المقاومة الجماعية وقدراتها. نعيش أياما محفوفة بالمخاطر، وبالنتيجة توجد حاجة ملحة لأن يأتلف المزيد من الأفراد والمؤسسات والحركات الاجتماعية ، يحدوها الإيمان ان أنظمة الاستبداد الراهنة يمكن مقاومتها ، وان احتمالات مستقبل بديلة ممكنة، وان العمل بموجب هذه المعتقدات من خلال مقاومة جماعية سيجعل التغيرات الراديكالية واقعا متجسدا.
هوامش:
9-بانكاج ميشرا:موقف غاندي ضد ثقافة القسوة- ذا نيويورك ريفيو اف بوكس، 9مايو / أيار 2018.
10-جوشوا سبير لينغ في ليزا ابيغنانيسي" أسلوب بيرغر في الوجود"- ذا نيويورك ريفيو اف بوكس 9أيار 2019 .
11-نيكولاس آسكوف:"مجتمع البيليفون الذكي"-جاكوبين إيشيو17(ربيع 2015)
روث لافيتاس:"مقدمة الفكرة المراوغة لليوتوبيا" تاريخ العلوم الإنسانية 16:1 ، 2003، ص4
12-حنة آرندت:المسئولية الشخصية تحت الحكم الديكتاتوري- نيويورك- شوكين بوكس 2003
13-نيقولا بيرتولدي: "هل نحن نعيش "حقبة وايمار" جديدة؟:قرارات بناءة لمستقبلنا"- ديمقراطية مفتوحة ،
3يناير/كانون ثاني2018 [ المقصود حقبة ما قبل النازية في ألمانيا]
14- هنري غيروكس.إرهاب المخفي- لوس أنجيلوس ريفيو او بوكس،2019








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية؟ • فرانس 24


.. إدانات دولية للهجوم الإيراني على إسرائيل ودعوات لضبط النفس




.. -إسرائيل تُحضر ردها والمنطقة تحبس أنفاسها- • فرانس 24 / FRAN


.. النيويورك تايمز: زمن الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران لن




.. تجدد القصف الإسرائيلي على مخيم النصيرات وسط قطاع غزة