الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أشهد أني أموت

محمد علاء الدين عبد المولى

2006 / 7 / 12
الادب والفن


منذ أكثر من ثلاثين عاماً قال نزار قباني
( أصبح عندي الآن بندقيّةْ
إلى فلسطين خذوني معكم ) .
وأقول خارج الإيقاع : أصبح عندي الآن تسع مجموعات شعرية فإلى الجحيم خذوني معكم ... وإذا كنتُ لم أستخدم الشعر يوماً كبندقيّة ، فلا شكَّ أنَّ فلسطين وسَّعَتْ من وادي الجحيم في شِعري ، وفي داخلي . حيث نشأتُ منذ سنواتي الأولى على نكسة حزيران . وبدأ وعيي يتفتَّح على حروب الطوائف في لبنان وغيره ، وعندما بدأتُ بلعثمة القصيدة الأولى ، فوجئتُ بالعدوّ التّاريخي " إسرائيل " يجتاح لبنان وتسهر دباباته وطائراتُه في مقاهي وفنادق بيروت عاصمة الحرية والثقافة . وما أن بدأ عود قصيدتي يشتدّ ويكتسبُ اخضراراً جديداً ، حتّى شهدتُ حرب الأرض جميعها ضدّ العراق ثمّ الحصار على أنهاره ومستقبلِهِ ، فكان حصاراً على أمّة كاملةٍ .
أكلُّ هذا الاحتلال للأرض والروح والحلم يا إلهي ؟ فكيف يتنفّس الشّاعر ؟ أيُّ قدرٍ للشاعر العربي هذا ؟ . هل أحصيتُمْ عدد الجثث في قصائدي ؟ هل شاركتُمْ في تشييع كل الجنازات التي أقمتُها في مجموعاتي ؟ هل تلمَّستُمْ مدى العجز والشّيب الكونيّ في عروق كلماتي ؟ .
هو ذا أنا الشاعر من جيلٍ لم يعش يوماً واحداً حقيقيّاً . ولا مشروع فرح ، ولم ينتظر صباحاً مفاجئاً تعود فيه العدالة الضّالَّة من غيابها ليجدها على الباب تعلن توبتها الأبديّة من شرودها عن أرضه ووجدانه .
كُتبَ عليَّ أن أحسّ أنّ الوطن ليس جغرافيا ولا سياسة ولا انقلاباً ، وحسب ، بل هو شكل القلب ، حرائق الروح ، يدخل في العلاقة بين النّبضة والنّبضة ، يستشعر تاريخه البعيد الممتدّ من سومر وبابل والفينيق والأهرام حتى يسوع ومحمدَّ وعليّ والحسين ، وانتهاءً بآخر جنازة شهيدٍ يحضّرها أهلُه في نابلس أو غزّة أو بيت جالا ... ما أوسَعَ هذا الوطن وما أدماه ... أردتُ أن أستند إليه في القصيدة ، فكسرني عشرين قطعةً ، لكني بقيت مصرَّاً على وحدة قصيدتي فحاولتُ جاهداً عدم انكسارها وسقوطها . فهي وطني ثانيةً وهي مجالي الحيويُّ الذي ألعَبُ فيه مع الوجود ، أطارد أسراره ، وأتسلَّق أسوار كواكبه ، أريد القبض على معناه ، فتفرّ منّي المعاني ، ليبقى لي أنَّ المعنى هو ما استطعتُ نزفَهُ من حلم وألم في مطاردتي للوجود . فآمنتُ أنَّ المعنى عندما يكتمل ، يعلن عن موته ، وليس للشعر أن يحتفل بالمعنى الميت ، لهذا تبقى قصيدتي تلهث وراء ظلال الوجود ، وراء أقاويله اللاّنهائيّة ، ظنّاً مِنْها أنّ النّهائيّ لا عمل للشعر به ، فليبق اسم الوجود أشباحاً غير متعيّنة ، وليبقى الجوهرُ غزالةً نافرةً متكوّنةً من نور يتلألأ ، كلما ضمّنَ الصّياد أنه قاب قوسين منها ، انفلتَتْ إلى البعيد مرةً جديدة ، وفي سياق هذه الرحلة اللاَّنهائية من المطاردة والمداورة ، يكون الشاعر قد كتَبَ ما يظنّهُ الآخرون قصائد ، وما يعتقد هو أنَّه أوراق نعيٍ تتضافر فيما بينها لتؤلّف في النّهاية نسيجاً لكفن الشاعر ...
لا تعجَبُوا من هذا الموت الذي أنباهى به . فصدِّقوني ، منذ رأيتُ في حلم يقظةٍ ، وأنا طفلٌ ، كفناً محمولاً على الأكتاف وقرأتُ عليه اسمي مكتوباً بخطّ واضح ، وحتَّى الآن ، لم أكتب شيئاً خارج الإحساس الذِّئبيِّ بأني سأموتُ بعد قليل ... ويوميّاً أدخلُ لعبة الخوف من الموت ، فأصرخ كل نهارٍ منذُ الصّباح : لماذا ولدتُ أصلاً إن كان الموتُ مصيري ؟ ... أيّها العَدَمُ ، لو لم تقذفني إلى الوجود ، فإنَّ الوجود ما كان له أن يثير فيَّ كلّ هذا الرّعب ...
وطالما أنّ الموت خاتمتي ، فلأعشق بجنونٍ ، ولتستلم المرأةُ معظم شعري ، وليأخذ جسدُها حضوراً لا محدوداً . إذا كان الموتُ مهووساً بي ، فلأكن مهووساً بالجمال . وإذا كان مآل جسدي حفرةً ترابية ، فلأخلق فردوساً على أرضي أزرعه بوجوده النّساء وجمالهنّ الخلاّق .
وهكذا ، قدّمتُ ردّي على الحروب والانكسارات والخرابات ، بأن صلّيتُ طويلاً في معبد المرأة ، آخذاً علاقتي معها إلى الكشف الجارح ، إلى إباحة المستور وإشاعة أسرار الظّلام الشّبقيّ .
كان الشعر والمرأة جناحين من ذهب أحلّق بهما ضدّ تيّار الدمار . ولكني لم أخلق بديلاً في المرأة ، فلم أعتبرها مخدّراً ولا تسليةً ، بل هي كانت انفتاح هاوية أُخرى ، فقد آمنت أنّ اكتشاف الجمال لابدّ له من قرابين ... نذرتُ نفسي لتقديمها الواحدة تلو الأُخرى ...
الآن ، بعد عشرين عاماً من الشّعر ، تحوَّلتُ إلى كائنٍ على أهبة الانفجار كلّ لحظةٍ ، تتعَبُ منّي ذاتي ، وأزدادُ ضجراً منها ، تستنجدُ منّي القصيدةُ لأرحمها من البكاء والعويل ، فأرى أنْ أنكأ جراحها جميعها لأكون أصدق معها ومع ما أشهد عليه ... فماذا نشكّل أنا والقصيدة ؟
لا أعتبرُ القصيدة – في أي حالٍ من الأحوال ومهما كانت عوالمُها – شأناً خارجيّاً بالنسبة لي . ولا أحوّل ذاتي إلى شأن خارجي بالنّسبة لها كذلك . نحن نتحرّك بقوى غامضة لا يمكن تحديدها عبر الأسماء ، لكنها جميعاً قوى تكمن في الداخل العميق .
تريد منّي القصيدةُ أن أحرّرها من ماضيها ورتابةَ وقائع تاريخها . وأن أشعل في أطرافها لهب التّحوّل . وأنا أريد منها ألاّ تتّخذَ منّي شاعراً مُملاً يتشابه في خطاه مع الآخرين. أنا والقصيدة فاعلّيةٌ مشتركة تتناول من الذّات والعالم والذاكرة والمستقبل ، عناصرَ محرِّضةً على اقتحام المجهول ، والتّحرّش بالمحرّم . ونسهى معاً لتثبيت ما جرى وما نرى ، في لحظةٍ من الزمن لا تدخلُ في علاقة اعتياديّة مع اللّحظات الأخرى .
أرى في القصيدة الحريةَ الحقيقيّة التّي تحوَّلت لدينا نحن شعوب العالم المتخلّف والمكبوت، إلى مجرّد نوعٍ من حياة داخل الوجود اللّغويّ الملتهب . وهي – القصيدة – ترى فيَّ كذلك حلم حرّيتها وتريد مني ألاّ أجعلها تابعاً لا لماضيها ولا لحاضرها . لهذا ، نحن نتّفق فيما بيننا بقدر ما نحقّق الحريّة ، ونبتعد عن بعض بقدر ما يخونُ أحدنا الآخر ... ولكنّا حتّى الآن مصرّان على مواصلة العهد لأنّنا سنختنقُ إن مارسنا الخيانة ...
فاعذروني إني كنتُ بدوتُ في الظّاهر غزير الإنتاج ، فصدّقوني ، إني لا اشعر أنّ ذلك ( إنتاجٌ ) بقدر ما هو بياناتُ رفضٍ في وجه القُبح والبشاعة ، القبح المتجسّد في انحلال الوجدان ومرضه ، في تفسّخ الرّوح وتحوّلها إلى زئبقٍ ، في عالمٍ عليَّ حرباً لا يشبع فيها من التهام الياسمين والأنهار وأسرّة العصافير ... القبح الموضّح في طائرات تدّمر العشب والزّيتون المقدَّس ، القبح المتمّثل في مواتِ القيم الإنسانيّة في ( بني قومي ) وهم يتفرّجون على شعبٍ يُبادُ كل يومٍ ... قبحٌ أيّها السادة ملأ حتَّى فناجين قهوتي الصّباحيّة ... وأنا ليس لي إلاّ القصائد أحارب بها هذا القبح ... فهل تسمحون لي بذلك ؟ .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع