الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة23

محمود شقير

2020 / 11 / 5
الادب والفن


وحينما أرسلتني بعد ذلك بأسابيع، لشراء السكر من حانوت القرية البعيد، شعرت بالمسؤولية وأنا أعود بالسكر إلى البيت. بدأت أولى قطرات المطر تتساقط. أدركت ما الذي سيحدث لي لو انهمر المطر بكثافة، فأعود إلى البيت وقد ذاب جزء من السكر الذي أحمله. سرت مسرعاً، ولم يسقط المطر إلا على شكل رذاذ عابر، ثم انقطع، فلم يحدث لي ما ينغص علي يومي ذاك.
وبالنظر إلى سوء الأحوال، كان سوق الباشورة، الواقع في البلدة القديمة، محطّ أنظار الكثيرين من أبناء قريتنا والقرى المجاورة. هناك، يعثر المرء على كميات لا حصر لها من الملابس القديمة التي تباع بأسعار رخيصة، وبوسعه أن يختار قطعة الملابس التي تلائمه. ومع ذلك، فلا يندر أن يشتري الأهل لأولادهم معاطف كبيرة الأحجام، فتظهر حقيقة مصدرها، إلا أنها كانت مصدر مباهاة، وبخاصة أمام أطفال اعتادت أمهاتهم أن "يسكّجن" لهم معاطف من البطانيات القديمة ذات اللون الرمادي الكئيب.
لا أذكر أنني زرت هذه السوق في سنوات الطفولة المبكرة، ولا أذكر أن أبي اشترى لي ملابس منها رغم أن حالتنا لم تكن تسر البال.
أما حالة جدي لأمي فلم تكن سيئة؛ غير أنه لم يفارق البرية طوال حياته، يسكن في بيت من الشعر، ينصبه على رؤوس الجبال صيفاً، وفي سفوحها البعيدة عن مهب الرياح شتاء. وقد كان سريع الانفعال، شديد الغضب، لا يرحم أحداً من أبنائه الذين كانوا جميعاً في خدمته. كانت جدتي مكلفة بحلب الأغنام والعناية بها كلما عادت من المرعى. غير أن قسوة جدي اضطرتها إلى هجره، فارتحلت إلى حي الصلعة، لتقيم بالقرب من ولديها اللذين هربا من قبل.
أول الهاربين، كان خالي الكبير، لأن جدي كان يعاقبه، كلما ارتكب خطأ أو اشتكى عليه أحد. يربط حبلاً طويلاً على وسطه، ثم يدليه في بئر مهجورة خالية من الماء، ويحبسه فيها، فيظل أياماً لا يأكل ولا يشرب إلا ما كانت جدتي تستطيع بالخفية أن تهرّبه إليه من خبز وماء، ثم يفرج عنه جدي، وينتشله من البئر، ليعود إلى حبسه بعد ذلك من جديد. وأنا أختزن في ذاكرتي كل هذه الوقائع والحكايات، وجدي لأمي كانت له حياة بدائية بكل المواصفات.
***
أصبح أبي مختاراً للعشيرة بعد أبيه، ولم ينقطع عن العمل في دائرة الأشغال كلما وجد فرصة سانحة لذلك، وكان في الوقت نفسه يزرع أرضنا الواقعة في حي الشيخ سعد، قمحاً وشعيراً، يحصده هو وأمي، ثم يدرسه ويذريه، ويجمعه في أكياس. كان يصاب بالمرض بين الحين والآخر، لكثرة الجهد الذي يبذله، ولقلة الاحتراس، فيمضي في المستشفى عدة أسابيع، أشعر أثناءها بالوحشة والفراغ، فليس معي في البيت سوى أمي وأخواتي وأخي الصغير، فينتابني إحساس غامض بأنني مسؤول عمن حولي وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري بعد.
آنذاك، تزوّجت عمتي للمرة الثانية، بعد طلاقها من زوجها الأول بسنوات، من رجل يكبرها في العمر، فلم يرق ذلك جدي وبقية الكبار في العائلة، ولم يحضر زفافها إلا أحد أعمامي. وخطر ببالي -احتفاء بالمناسبة- أن أقلد الكبار، فحملت المسدس الذي يقتنيه أبي، فلم يلتفت إلي أحد، ما جعلني عرضة للارتباك. وانتقلت عمتي للإقامة مع زوجها في حي الشيخ سعد، وظلت تعيش فيه حتى ماتت بعد عودتي إلى الوطن بخمس سنوات، فلما حاولنا نقل جثمانها، من بيتها الواقع في الضفة الغربية، إلى مقبرة القرية الواقعة داخل حدود القدس، التي أعاد الإسرائيليون ترسيمها بحسب رغباتهم التوسعية، رفض ذلك، جنودهم المرابطون غير بعيد عن المقبرة.
تحاورت معهم وبرفقتي اثنان من أبناء عشيرتنا هما الشيخ محمد حسين، إمام المسجد الأقصى (المفتي العام فيما بعد)، والكاتب جميل السلحوت، ولم ينقذ الموقف سوى ضابط يعرفه الشيخ محمد، بحكم عمله في الأقصى، فسمح لنا بدفنها في المقبرة، وشدّد على ضرورة الحفاظ على الهدوء ومغادرة المكان، لمن لا يحملون هوية القدس من المشيعين دونما إبطاء.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع