الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الزمن في لوحات وقصائد روناك عزيز

حمودي عبد محسن

2020 / 11 / 6
الادب والفن


تعتبر الفنانة التشكيلية والشاعرة روناك عزيز من المحدثين في رؤيتها الفلسفية إلى العالم المعاش من خلال لوحاتها الفنية وقصائدها، إذ عندما نستغرق في تأملها، ونتفاعل معها ذهنيا نجد أن هناك عالم خفي وراء كل لوحة. هذا العالم قد يختفي وراء حدث ناطق رغم صمت اللوحة إلا أننا نستكشف أيضا أن موضوع اللوحة له قصة، وقصتها ربما تكون لغزا في عالم يعج بالصراعات والخلافات والخصومة خاصة وتكاد اللوحة تبهرنا بألوانها الصارخة التي تكاد تختفي فيها الظلال حيث تناسق ألوانها تتحدث إلينا سواء بإيماءة أو رمز مما يدعونا إلى الحدس، وليس مستغربا كذلك نجد أن حركة الأجساد سواء كانت حية أو ميتة تتحدث بصمت عن قصص في زمن ما، فلا غرابة في بعض لوحات روناك أن نرى الضوء ينبعث من الظلام. هذا، ونجد الخطوات تتقدم تارة إلى المجهول، وتارة أخرى دون هدف ملموس أو ربما مشاهد اللوحة لا يستطيع أن يمسك في جوهر الزمن لأن الخطوات تتقدم كما لو أنها تريد أن تلحق بالزمن كي لا يسبقها أو أنها تريد أن تسبقه بإرادة قوية. هنا يكمن مفهوم الزمن لدى روناك، فهو سريع خاطف يتسابق مع الوجود البشري كأن الحياة مهرجان وجود، فلذلك الزمن في لوحاتها لا يمكن رؤيته مهما كان حدسنا لكننا نحسه من خلال وجودنا نحن في عالم لم نفهم وضوحه بجلاء سواء أن أحسسنا سرعته أم بطئه أو قصره وطوله، فنحن البشر لا نعني أي شيء للزمن بقدر ما هو يعنينا لأننا نتحرك فيه مهما اختلفت الأماكن، ومهما كانت فترته، وفي نفس الوقت نحن كما نحن في مختلف الأزمان حتى لو تغيرنا، فالزمن لا يمكن الوثوق بمحدوديته، فهو خفي لا نراه بالرغم من أننا نحدده بين النور والظلام، بين النهار والليل، ونبتكر مسميات كشروق وغروب وهنا يكون اللون البرتقالي إثناء الشروق أو الغروب ما يحدد وجودنا في الزمن أما إذا ذهبنا بعيدا فنقول عن الزمن: مرحلة أو عصر أو ماضي سحيق أو حاضر راهن، فهو في لوحات روناك متستر في حقيقته سواء أراد الانسان تحديد بدايته الافتراضية أو نهايته الافتراضية، فهو لا نهائي، وهو لا يمكن بلوغ عظمته أو نيل سموه، فنحن لا نهتم عندما نرى تفاحة قد سقطت من غصنها على الأرض متى كانت بداية سقوطها وكم استغرق الوقت لتصل الأرض. أن رؤيتنا للتفاحة على الأرض يعني هذا أنها سقطت من غصنها لكننا قد نهتم حين نرى زهرة تفتحت من برعمها، ثم صارت زهرة جميلة تفوح عطرا ثم تذبل، ويختفي رونقها وعطرها، ثم تموت لتكون سمادا لزهرة أخرى، وهنا بودي أن أتناول لوحة (الانتظار) التي جعلتني استغرق في تأملها وأطلق عليها (وحش الزمن)، فروعة هذه اللوحة تكمن في كونها تدمج بين السريالية والتجريد لتكون انعكاسا زمنيا للواقع البشري أو كما يسميه جادامر الوجود التفاعلي سيما اللوحة تلغي ظلال الألوان لأن الفنانة التشكيلية (التصويرية) روناك أرادت أن تجعلنا نعيش لحظة الزمن كمشاهدين، بكوننا نحن في دائرة الزمن، وجزء من هذا الانعكاس الواقعي كما يسميه بافلوف. نعم، هذا ما يتجلاه المشاهد للوحة حين يغوص في تأملها وهو أيضا انعكاس شرطي يتأمل وجود المشاهد الذاتي، ويغوص في ماهيته هو لأن العالم أصبح من أحداثه فرضا لإعادة تأمل الذات برؤية متجددة مع تكونه وبنيته. نعم، أنه الأنتظار وهو الزمن كما لو أن هناك نبتة مائية ترقد في قعر نهر، والنهر يجري فوقها غير مبال فهي تتحرك في مكانها دون أن تنتقل إلى مكان آخر، فجريان المياه أشبه بجريان الزمن مهما كان إتجاهه، وهذا يتناسق مع زمن الأنتظار، فالزمن يمر ونحن في انتظار.
ثم فيما بعد أن هذا الوحش الجائر الزمن والمتأجاج الهابط من أعلى لإلتهام الشخص العاري المواجه له بإرادته البريئة ونظراته المرتعبة تجعلنا أن نعود مرة أخرى إلى جادامر في فلسفته كما وارد في محاضراته المتسمة بعنوان (الحقيقة والمنهج) والتي مبدأها (التفسير والفهم والحوار) أي لماذا هيجان هذا الوحش الزمني، ولماذا يريد الشر إلى إنسان طافح في المعاناة واللاقدرة؟ نعم، أنه الانتظار سيما وهناك بقع سوداء وحمراء وبيضاء تواجه هذا الشخص كما لو أنه يبحث في انتظاره عن منقذ أو ما يسمى مخلص في المفاهيم الدينية، وهذا هو الزمن الفرضي. نعم، اللوحة ركزت على تلك الألوان الصارخة الثلاثة، وركزت أيضا على حركة الشخص الذي هو بلا منازع جسد امرأة، ونلمس ذلك من صدر الجسد ومن تراسيم حركة الساقين.
وهكذا، أثار تخيلي هذا الهبوط لوحش الزمن مما جعلني أتسائل: أهو سماوي أم دنيوي؟ وفي نفس الوقت ذكرني ذلك بملحمة جلجامش حين صارع جلجامش الثور السماوي هو وصديقه انكيدو الذي توفي فيما بعد مما جعل جلجامش يبحث عن الخلود في زمن خالد، فهذه اللوحة لها أبعاد فلسفية مما أثار جدواها هو أن الفنانة روناك عزيز جعلت تخيلها يغوص أعمق وأعمق في زمنها، لفهم وتفسير ماهية الوجود في إطار الزمن. اللوحة قرأتها من نفس الفهم، وفسرتها بمخيلتي كلوحة مهمة جدا لها رونق فكري متجذر بالحماس والتأني والإنغماس في زمن عالم وجودنا.
هذا نلمسه كذلك ونكتشفه في قصائدها لأنها تماثل لوحاتها كأنها ترسم وتقول شعرا بالرغم من أن الرسام يشبه كمتصوف إذا كان في مرسمه، وتأملي إذا كان في أجواء الطبيعة الرحبة ثم أن الشاعر هناك من ينطق في أعماقه ويصرخ، فهذا التناغم الإيقاعي لشخص الرسام وشعره فيه سعة خيال خاصة وهو لا يستطيع أن يحدد الزمن إن كان مطلقا أم نسبيا، ذاتيا أم موضوعيا في شخصه، فالزمن موجود في فكرنا ما زال وجودنا حي وفي دائرته، فهو جديد وهو قديم في نفس الوقت، وهو أزلي ولانهائي، وندركه فقط من خلال وعينا وتجربتنا، لذلك تعطي روناك للزمن معنى في قصائدها كعملية متواصلة للديمومة البشرية لأن الزمن موجود خارج كينونتنا. هذا، وناخذ قصيدة بلا عنوان لكن فحواه يتماثل مع لوحتها (الانتظار) حيث هي تمتد، ثم تمتد إلى عالم خفي - سري لتصنع لغتها وبريقها عن عالم الإنسانية، إذ القصيدة لها جدواها الإبداعي المتميز خاصة وهي تمزج بين الخيال والواقع، وتعالج فلسفة الزمن الحاضر والأكثر تميزا هو كونها تقال في زمن كورونا الذي اخذ أكثر من مليون إنسان وحوالي أربعين مليون مصاب، ولا نعرف مداه وتأثيره المستقبلي في الوقت الحاضر.
القصيدة تعالج الزمن الذي رمزه القطار، وهذا الزمن له خصوصيته حيث كل شيء يتوقف على حركته، ولحركته بداية ونهاية كما وارد في جوهر القصيدة (يتوقف القطار ولا أراك) ثم تستكملها الشاعرة عن واقع الحياة في زمن الكورونا حين تقول : (القطار الذي يلهث مثلي تحت كمامة زرقاء) لذلك يقترب التوظيف إلى الحالة التي نعيشها بهذا الوباء إلى قصيدة (ارض اليباب) حين تعالج حياة الناس في ظل أوضاع مأساوية وقصيدة ارض اليباب تجعل من الأرض بكرا...هذا، وبما أن للقصيدة عمق فكري وجمالي في منظور فلسفي - حياتي لذلك نجدها تغوص في مفهوم الطبيعة التي لها علاقة بحياة الناس وهي الأشجار، فتقول الشاعرة: (تبكي بدموع صفراء أشجار اقتلعت الريح أوراقها).
نعم القصيد لها أبواب متعددة لفلسفة الزمن في الواقع المعاش لكنها انحصرت أيضا في النظرة الوجدانية - الحساسة، وتكاد تكون جياشة في انتظار المحبوب (الذي اتخذته الشاعرة منبرا للحياة) أو كما نحن نعرف الحياة بدون حب لا معنى لها بل يذهب الفلاسفة أن الحياة بدون حب تحول العالم إلى عبث وفوضى وخراب للحياة ذاتها، فأحسنت الشاعرة بهذا المدى الفلسفي بالنظرة إلى العلاقة بين الزمن والوباء الذي يطحن بالبشر بينما جعلت الحب كما أرادت أن تقول : (أن الحب ديمومة الحياة) ولذلك تشير القصيدة إلى سر جمالها بهذا المقطع :(احبك أقولها).
اجل، القصيدة تلقي ظلها على حياتنا نحن البشر بكوننا مرتبطون بمشاعرنا الإنسانية، بكوننا نحن نذرف الدموع على أحبابنا الذين نفارقهم في زمن الكورونا، بكوننا نعشق الحياة السعيدة التي جوهرها الحب.

نعم، القصيدة متميزة، وذات معاني ودلالات ورموز وربما - لها قصة وحكاية - ولغة القصيدة شفافة أنيقة بترابط مفرداته ومقاطعها، لأنها صادرة من ذات وجدان الشاعرة، ولأنها أيضا استغراق تأملي في حدث تاريخي، ولأنها أصوات متنوعة تتداخل بصوت واحد يعزف لوحده على أنغام قيثارته بترنيم هادئً في صخب زمن وباء كورونا.
هذه نظرة سريعة عن فلسفة الزمن في اللوحة والقصيدة لدى روناك عزيز التي استطاعت أن توظف الزمن في إبداعها، وتجعل منه حسا جماليا، ومعرفة متناهية، وتخضعه إلى تأمل الوجود الإنساني مما يدعو لكل من يرى لوحاتها أن يستغرق في عمق مواضيعها، وكذلك يتطلب من كل قارئ قصائدها أن يحسن تفسير وفهم الصور الشعرية التي تتعدد المعاني فيها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس


.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد




.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا