الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من مستقبل الثقافة إلى ثقافة المستقبل

سامي نصار

2020 / 11 / 8
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


تتجدد ذكرى طه حسين بتجدد ما نواجه من تحديات ومشكلات، فما تركه لنا من مناهج ورؤى وأفكار لازالت تسطع في سمائنا، وتحثنا على إعمال العقل في تجديد الفكر الديني، وتطوير مقارباتنا لتاريخنا وثقافتنا ولغتنا، والكثير من جوانب حياتنا. ولا زال طه حسين بفكره يتحدى ما جمدت عليه عقولنا وعقائدنا، وما تقولبت فيه آراؤنا وأفكارنا، وانحصرت فيه مناهج تفكيرنا وطرائقه. وبقدر ما تنوعت إسهامات العميد فكرا وعملا بقدر ما تشابكت مع مشكلات وقضايا المجتمع المصري والعربي منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن. وكان التعليم هو قضية طه حسين الكبرى فهو السبيل إلى بناء " الحضارة التي تقوم على الثقافة والعلم" ويعكس كتابه الهام "مستقبل الثقافة في مصر" الذي صدر في ثلاثينيات القرن الماضي قدرة فكر طه حسين على البقاء والتجاوب مع كل ما يشهده التعليم في مصر والعالم من تطورات وما يواجه من تحديات. وأتوقف عند قضيتين هامتين في هذا الكتاب تعكسان تلك الرؤية الإنسانية والاستشرافية للتعليم والمرتبطة بما يموج في العالم الان من تغيرات.
أول هذه القضايا ما يحدث الآن من تداخل كبير وارتباط وثيق بل والتماهي بين التعليم والثقافة وهو الأمر الذي فرضته الثورات المعرفية والتطور في تكنولوجيا المعلومات والاتصال. فمن يطلع على الكتاب يكتشف أن الكتاب بأكمله كان عن مستقبل التعليم وإن كان عنوانه عن مستقبل الثقافة، ذلك لأن طه حسين كان يدرك أن لا فرق بين التعليم والثقافة والعلم، وكان يدرك أهمية دورهم في بناء الحضارة والقوة بأشكالها كافة، وهو يضع كل ذلك في سياق زماني ومكاني يربط ما بين ماضي مصر وحاضرها ومستقبلها، فمستقبل الثقافة في مصر لن يكون إلا امتدادا صالحا راقيا ممتازا لحاضرها.

ويؤكد طه حسين على التماهي بين التعليم والثقافة ودورهما في بناء الإنسان صاحب العقلية المتفتحة والقادرة على الإسهام في صنع الحضارة، والتجاوب مع متغيرات العصر والتفاعل معها والإضافة إليها عندما يقول إن علينا أن نختار " بين أن تكون المدرسة مصنعا تشتغل فيه آلات لتصنع آلات مثلها، وبين أن تكون المدرسة دارا تتفتح فيها عقول التلاميذ وقلوبهم لإدراك الطبيعة وفهمها" كما يحدد غاية التعليم في " إعداد الشباب للحياة الصالحة الكريمة المنتجة وتمكينهم من المضي في تثقيف أنفسهم وترقيتها" كما يرى أن الجامعة "بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفا بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة"
إن ثقافة المستقبل ستفرض علينا أن نعيش في محيط معلوماتي يتم من خلاله رقمنة كل شيء: الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، والتعليم والخدمات الصحية، وحتى الأعمال الفنية. وسوف يصبح المستقبل بداخلنا، ويبدأ بمجرد التفكير فيه، وذلك بفعل التكنولوجيا الآنية. كما ظهرت الإنسانيات الرقمية لتعبر عن التلاقح بين الثقافة وبين تكنولوجيا المعلومات، فأصبحت ساحة من ساحات التعبير الفني والإبداعي بمختلف حقوله وألوانه، ومصدرا للمحتويات العلمية على اختلاف تخصصاتها، وميدانا لاستعادة التراث الحضاري القديم من خلال رقمنته وتسجيله وإتاحته بمختلف الوسائط والأشكال.
إنها ثقافة المستقبل التي تمتزج فيها الثقافة والعلم والتعليم وتكنولوجيا المعلومات، وتسقط فيها الفواصل بين الإنسان والآلة. إن نجاحنا في أن نعيش ثقافة المستقبل رهن ببناء العقل النقدي القادر على التواصل والابداع والابتكار، وعلاج كل أشكال التفاوتات الاقتصادية في المجتمع وما ينتج عنها من حرمان فئات كثيرة من كل منجزات الثقافة الرقمية في إطار من حرية الفكر والتعبير، وتطوير المناهج الدراسية على نحو يواكب تسارع وتيرة الثورة المعرفية وحركة التاريخ.

وهنا، لابد أن نعيد التفكير في التربية من خلال بناء خطاب تربوي جديد يركز على الانتقال من توفير التعليم للجميع إلى إتاحة التعلم للجميع، وعلى اعتماد المدخل الإنساني وثقافة التعلم مدى الحياة التي تقوم على تكامل كل أشكال التعلم، فالتعلم – كما قال طه حسين-كالماء والهواء ضرورة من ضرورات الحياة التي لا يستغني عنها الفرد طوال حياته من المهد إلى اللحد.
والقضية الثانية التي لا تنفصل عن الأولى، بل تعتبر شرطا لتحققها وإنجازها على أرض الواقع، هي أن طه حسين يعتبر أن تحقيق الأمن القومي رهن بتوفير التعليم الجيد للجميع، حيث يقول: " وليست حاجة الشعب إلى التعليم الصالح بأقل من حاجته إلى الدفاع الوطني المتين، فالشعب ليس معرضا للخطر الذي يأتيه من خارج حين يغير عليه الأجنبي الطامع فحسب، ولكنه معرض للخطر الذي يأتيه من داخل حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه، ويجعله عبدا للأجنبي المتفوق عليه في العلم... ولابد إذا من نشر التعليم العام من جهة إلى أقصى حدود النشر، ولابد من حماية المدارس والمعاهد من هذا الازدحام الشنيع الذي يفسد التعليم إفسادا ولابد من أن تدبر الدولة ما يحتاج إليه ذلك من المال، كما تدبر ما يحتاج إليه الدفاع الوطني من المال"

ولا أستطيع أن أختتم هذا المقال دون أن أحلق مع العميد في حلمه عندما رأى " شجرة الثقافة المصرية باسقة، قد ثبتت أصولها في أرض مصر، وارتفعت فروعها في سماء مصر، وامتدت أغصانها في كل وجه، فأظلت ما حول مصر من البلد وحملت إلى أهلها ثمرات حلوة، فيها ذكاء للقلوب وغذاء للعقول وقوة للأرواح. وهم يسعون في هدوء واطمئنان وثقة إلى هذه الغصون النضرة الوارفة، فيستمتعون منظرها، ويأوون إلى ظلها ويستمتعون بثمراتها المتشابهة، لأنها تصدر عن شجرة واحدة هي ثقافة مصر المختلفة... وأرى مصر ... وقد إنجاب عنها الجهل وأظلها العلم والمعرفة وشملت الثقافة أهلها جميعا، فأخذ بحظه منها الغني والفقير والقوي والضعيف والنابه والخامل والناشئ ومن تقدمت به السن، وتغلغلت لذتها حتى بلغت أعماق النفوس، وانتشر نورها حتى أضاء القصور والدور والأكواخ"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله