الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إياد الداوود في ضيافة البندقية

بشار إبراهيم

2006 / 7 / 13
الادب والفن


في جديده السينمائي، ينتهج المخرج إياد الداوود خياراً آخر، يختلف إلى حدٍّ كبير عمَّا سبق أن شاءه في أفلامه التي حقَّقها من قبل: «القدس وعد السماء» 1997، «دير ياسين.. الوجع» 1999، «مآذن في وجه الدمار» 1999، «عودة» 2000، «أعراس الزهور» 2001، «جنين» 2002، «فن الحياة» 2003، التي أسَّست بمجموعها لحضور مخرج سينمائي، من طراز خاص، يبني مدرسة متميزة في مجال الفيلم الوثائقي العربي.
هنا، في فيلمه الجديد «في ضيافة البندقية» 2006، يستعين المخرج إياد الداوود بما أمكنه من معارف متحققة في مجالات الفيلم الوثائقي، ويقوم بالبناء عليها، مضيفاً عليها مدماكاً جديداً، سوف يُحسب له آن يقوم النقاد بتأصيل ما، في هذا الصدد.
إنه لا يتوقَّف عند حدود استخدام القواعد الأصيلة، المُتعارف عليها، والمُتناقلة بين أجيال السينمائيين العاملين في الفيلم الوثائقي، منذ عقود من الزمن تكاد تقارب القرن، كما لا يكتفي باستخدام «الدوكيودراما»، كما كان قد فعل من قبل، في أكثر من فيلم له، خاصة فيلمه «أعراس الزهور»، ولا يعتمد أسلوب المراقبة أو التلصص.. بل يذهب أكثر باتجاه الغوص في الموضوع، من حيث المعايشة، والمحايثة «أي التواجد حيث يجب»، والدخول في ثنايا الحالة، ويتلبَّسها إلى أقصى ما يمكن، مُعيداً إنتاج حياة كاملة، بشخوصها، وتفاصيلها، وإيقاعها، دونما أي تدخُّل، محافظاً على المصداقية التامة.
هذه المرة يظهر إياد الداوود أمام الكاميرا، يُحدثنا عن الموضوع الذي قصد تصويره، ويفسح لنا المجال لرؤية ما يدور، في واقع أقلّ ما يمكن وصفه بالحذر. إنه يدخل إلى كواليس «كتائب عز الدين القسام»، هناك في قطاع غزة، ليس حيث يتدربون على الأعمال القتالية، ولا حيث يتسامرون، فقط، بل في أماكن لا نبالغ في القول إنها المرة الأولى التي تصل إليها الكاميرا، ومع أشخاص يبدو الوصول إليهم مهمة مستحيلة حقاً!..
محمد ضيف!.. هذا الرجل القسَّامي، المُطارد رقم واحد، والذي يتحمحم الجيش الإسرائيلي، منذ سنوات، للوصول إليه، والنيل منه، هو أحد الذرى «الدرامية» العالية التي يحقّقها الفيلم، حتى لو كان الرجل ملثَّماً لا تبين منه ملامح، فمجرد الوصول إلى حيث هو، واللقاء معه، والحديث إليه، ينبغي أن يكون على غاية من التقدير، وحده، فكيف إذا ما جاء ذلك مندغماً في نسيج الفيلم، الذي وضع لنفسه أعلى مهمات الفيلم الوثائقي، في الحديث عن «الآن»، و«هنا»، متكاملاً مع العناصر الفيلمية الأخرى.
فالقائد الأول في كتائب عز الدين القسام، «محمد ضيف»، ووسط كل ما يحيطه من حذر وخطر، لا يبدو وحيداً، على فرادته.. ولا فريداً، على تميّزه.. بل ستظهر وجوه أخرى، لها ما لها من نضالات وتضحيات، وتترقّب الحياة بين أنياب الموت المشرعة.. شخصيات تتمكن ببراعة من تقديم وجهات نظرها، ورؤيتها لمجرى الصراع مع العدو، ويكشف الفيلم عن أدوارها الهامة، في مواقعها المتميزة، بدءاً من ساحات التدريب، إلى مجالات التخطيط والتنفيذ، دون أن ينسى زيارة تلك الأماكن الغامضة، حيث يتم تصنيع صواريخ «القسام»، وقواذف «ياسين»، والقنابل اليدوية، والعبوات الناسفة، التي تمكنت ذات وقت من تحويل الـ «ميركافا» ذاتها أشلاء بيد أطفال غزة!..
هكذا، لا تبدو الزيارة التي قام بها الفيلم، والتي جعل من خلالها الكاميرا «في ضيافة البندقية»، زيارة عادية.. ليست هي زيارة دعائية، ولا تحريضية، وإن امتلكت الكثير من هذا بسبب طبيعة الموضوع.. إنها فرصة للمعرفة الحقيقية، المتوارية بعيداً عن متناول نشرات الأخبار، أو عنوان: «الخبر العاجل».
الفيلم، فرصة كي يتعرَّف المشاهد كيف تنبني هذه الأسطورة، التي تُدعى «كتائب عز الدين القسام»، ومن هم أولئك الرجال الذين يعِدون العدو بالمزيد من المواجهات، وبالأقسى من الضربات، والذين لا يفتُّ من عضدهم، كل الخسارات..
لا يكتفي فيلم «في ضيافة البندقية»، بالمألوف من المشاهد، إذا أنه يبني وثيقته السينمائية بنفسه، تلك المهمة التي انتدب المخرج إياد الداوود نفسه إليها، على الرغم مما فيها من خطورة، تكاد تمس حياته.. ليس فقط، وهو على مسافة قريبة من إطلاق صواريخ، وتفجير عبوات ناسفة، وإلقاء قنابل يدوية.. بل أيضاً عندما نراه يجوس في أحد الأنفاق التي تستخدمها كتائب القسام في عملياتها المقاوماتية، الأنفاق التي أثارت جنون شارون، فحاول إحراق الأخضر واليابس، وحرث البيوت والسهول، على امتداد قطاع غزة، للتخلُّص من هذه الأنفاق..
لن يُتاح هذا الأمر لمخرج بسهولة، ولا أعتقد أن السيناريو كان مكتملاً في رأس المخرج إياد الداوود، على هذا النحو، عندما بدأ التصوير، ولعله ليس من المبالغة في القول إن الدأب الذي يتميَّز به المخرج، وإصراره على تنفيذ عمله السينمائي بروحية المقاتل، الذي لا يتراجع عمَّا أراد وقرَّر، هو من وفَّر كل هذا التحقُّق، والقطف البكر لمشاهد، ولقاءات، وحوارات..
ولأن المخرج لم يرد من فيلمه أن يكون مجرد زيارة للمجاملة، فقد انتبه إلى شرطين أساسيين لا بد منهما في الفيلم الوثائقي: أولهما أنه لم يضع الكاميرا في خدمة من يزورهم، يتباهون أمامها، أو يستعرضون عضلاتهم، بل بقيت الكاميرا في موقع الراصد المراقب المتأمل، وهذا هو دورها، وتلك هي مهمتها.. وثانيهما أن المخرج لم يتورَّط في الموضوع، ولم يجعل الإغراءات تسوقه خلفها، نحو الوقوع في مطبِّ المديح «أو الإدانة»، بل بقي المخرج محاوراً على قدر من الرصانة، والاقتراب الذكي بأسئلته من حدود الاستفزاز، وإثارة الشخصيات، في مسعى لنيل ما يمكن من معلومات جديدة أو مفيدة، أجابات، وآراء.. تغني الموضوع، وتفيه حقَّه.
«في ضيافة البندقية»، فيلم المخرج إياد الداوود 2006، يعتبر نقلة نوعية في مسار هذا المخرج، على الصعيد الفني، من حيث قدرته على قيادة الفيلم بسلاسة ملفتة، بدءاً من اختيار الشكل الفني الجديد والمناسب، المتجلّي بظهوره على الشاشة متحدثاً عن التجربة، محاوراً لشخصياته، متجولاً في أمكنته، مروراً بالتصوير المتقن، خاصة التصوير الليلي، الذي تعامل مع مصادر الضوء الطبيعية، أو الاصطناعية، دون أي نشاز، وصولاً إلى المونتاج السلس، إلى حدٍّ لا يلفت الانتباه لوجوده، أصلاً..
أما على الصعيد المضموني، فهذا الفيلم الجديد يأتي استكمالاً لما كان قد بدأه إياد الداوود، في أفلامه السابقة، إذ نراه على غاية العناية بالكشف عن الجوانب الإنسانية للمقاومة، والمقاومين، وفضّ الاشتباك الدائر حول سؤال الحياة والموت، وهو ما كان قد أسَّس له في فيلمه «فن الحياة» 2003، الذي رصده للكشف عن الجوانب الإنسانية لدى الاستشهاديين، دون أي إدعاء أو فبركة، إذ تمكَّن من الدخول إلى غرفهم، الوقوف أمام طاولاتهم أو أسرَّتهم، والإطلاع على أوراقهم الخاصة، والإطلالة على التفاصيل الحميمية، في حيواتهم..
لم تظهر هذه الشخصيات مُستعارة من مجمَّع الملائكة، منقَّاة من كل رغبة أو شهوة أو هواية.. ولا هي شخصيات نابتة من عوالم الشياطين المردة.. ليسوا أصوليين متعصبين، ولا مهووسين بالموت أو القتل.. «وإلا لماذا نأخذ كل تدابير الحيطة والحذر؟..»، يقول أحد قادة كتائب عز الدين القسام.. وسنرى أن تدابير الأمن والأمان طافحة في الفيلم، منذ لحظاته الأولى..
وسيقولون لنا إنهم في غالبيتهم يستكملون تحصيلهم الجامعي، يخلِّفون في البيوت أبناء وبنات وزوجات.. أمهات وجدات، يغسلن الوقت بالدعوات والتضرّعات، بعد أن جهزن كل ما يحتاجه الرجال في ميدان الجهاد، وبتن لا يردن لـ «أم محمد فرحات» أن تكون وحدها، في امتيازها المشرِّف!..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دينا الشربيني: السينما دلوقتي مش بتكتب للنساء.. بيكون عندنا


.. كلمة أخيرة - سلمى أبو ضيف ومنى زكي.. شوف دينا الشربيني بتحب




.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في