الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الجانحون الصغار والمجتمع القاصر الضِنِّين
مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
(Mousab Kassem Azzawi)
2020 / 11 / 9
حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة
يشار بمصطلح اضطرابات السلوك الاجتماعي والتفارق عن الوسط الاجتماعي المحيط إلى مجموعة من الاضطرابات التي تنطوي على نماذج من السلوك الاجتماعي الذي يبديه الطفل ويميل من خلاله إلى كسر القوانين الاجتماعية المألوفة وبطريقة تفوق السوية المتوقعة من هذا الطفل من الناحية العمرية والمعرفية. ويمكن أن تبدأ هذه الاضطرابات بشكل مبكر قبل سن 10سنوات ويشار هنا إلى هذه الحالة بالبدء الباكر، ويمكن في أحيان أخرى أن يبدأ في عمر يتلو سن 10 سنوات ويشار إليها آنذاك بالبدء المتأخر.
ويشار في بعض الأدبيات إلى الأطفال الذين يعانون من هذا الاضطراب بمصطلح الأطفال الجانحين الصغار، وهو يمثل اضطراباً شائعاً نسبياً حيث يصيب وبشدات مختلفة وفترة زمنية متفاوتة نسبةً بحدود 5% من مجموع الأطفال في عمر المدرسة الأولى والثانية، وهو يصيب الذكور أكثر من الإناث بنسبة 9/1.
ويمكن أن نلاحظ عداءً غير مفسر عند هؤلاء الأطفال تجاه الأقران والوسط الاجتماعي المحيط الأكبر، والتعامل مع هؤلاء جميعهم وفق نموذج من السلوك يميل لأن يكسر وبشكل مستمر الشروط الأساسية للحقوق العامة للآخرين والمجتمع عموماً، في سياق يتفارق بشكل يكاد يكون كلياً لنموذج السلوك المتوقع من هذا الطفل وفقاً لعمره والخبرات التي تلقاها في حياته.
ونلاحظ أيضاً عدواناً تجاه الأطفال الآخرين والحيوانات أيضاً، ومحاولة اصطناع الصراعات وحتى القتال المتكرر معهم ومحاولة إيذائهم بطرق قد تكون ذكية وبشكل سلبي يميل إلى الخبث يفوق القدرات الاعتيادية للأطفال.
وإنّ تحطيم الممتلكات الشخصية وتلك العائدة للغير، وعدم الشعور بالارتباط والحميمية مع الأشخاص ومع المكان الذي يعيش فيه الطفل يمثل سمة إضافية في الأطفال الذين يعانون من اضطرابات السلوك الاجتماعي. وتعتبر وسيلة إشعال الحرائق من الوسائل المغرية لمثل هؤلاء الأطفال، لذا يجب الحذر من إمكانية تعاملهم مع الوسائل التي يمكن أن تؤدي لإشعال النار لما يعتور ذلك من خطر كامن مهول.
ومن الملامح المشاركة لتلك الاضطرابات، الإخفاق والتردي الواضح في الأداء الدراسي للطفل، والهروب المتكرر من المدرسة، واستخدام الكذب كوسيلة لتبرير الغياب المتكرر عن المدرسة. وغالباً يكون الطفل كثير الحركة لا يستطيع الاستقرار، ويتحدث بشكل فوضوي غالباً، ولا يستطيع التركيز والمتابعة في الأمور الدراسية لفترة مستمرة تزيد عن نصف ساعة، وتراه عديم الاكتراث بالمواضيع التي تهم الأطفال عادة ومهتماً بأمور أخرى قد لا تكون من المواضيع ذات الاهتمام لدى الأطفال.
ويشيع لدى هؤلاء الأطفال الإدمان المبكر على التدخين أو الكحول أو المخدرات، وخاصة عندما تبدأ تلك الاضطرابات بشكل متأخر بعد سن 10 سنوات كما ذكرنا آنفاً.
ويبدو لدى الطفل الذي يعاني من اضطرابات السلوك الاجتماعي عدم وضوح في رغباته وطموحه الشخصي، وعدم قدرته على توضيح ماذا يريد وماذا يكره، حيث يعتمد على السلوك العدائي أو عدم الإجابة على السؤال أو التهرب منه بشكل فظ عند طرح أسئلة تتناول مثل هذه المواضيع.
ومن العناصر المميزة لهؤلاء الأطفال سرعة تغير المزاج وتقلبه بشكل غير موضوعي وغير قابل للتفسير بشكل منطقي في غالب الأحيان.
ويجدر في هذا المقام الإشارة إلى أنّ اضطرابات السلوك الاجتماعي عند الأطفال تستدعي منّا رؤية شاملة تنظر بالمنظار الاجتماعي للمشكلة النفسية إذ أنّها تمثل مشكلة كبرى أخذت مظهراً موضعياً في الطفل، وبمعنى آخر تمثل مشكلة في المجتمع أنتجت فعلها السلبي في اصطناع نموذج قلق من السلوك عند الطفل أصبح هو ضحيته وجلاّده بنفس الوقت.
وهذا يستدعي منّا الإشارة إلى أن أس ذلك النموذج من الاضطرابات يمكن في العائلة ذات الأداء الوظيفي المشوه والمشوش أو البنية غير المستقرة بالتوازي مع الأوساط المدرسية غير المواتية وخاصة عندما يسيطر نظام قسري مضبوط بشكل صارم يحدد ويؤطر بشكل سلبي ميول وحاجات الطفل ويميل لأن يقولبه وفقاً لأنظمة ومعايير أخلاقية وسلوكية مسبقة وجامدة بنفس الوقت، فتكون عاقبتها الأساسية والأولى فقدان الطفل للشعور بحريته وقدرته على أن يكون عفوياً كما يشترط للطفل أن يكون، و تتردى بذلك قدرته على محبة الوسط المحيط به، لأنّ تلك المحبة تمثل مفتاح الولوج إلى تكوين الشخصية الصحي من خلال الحرية المُرَشَّدَة للطفل، و تعلم كيفية ممارسة تلك الحرية من خلال اللعب والعفوية أو حتّى محاولة خرق القوانين في محاولة لاكتشاف تفرد الذات ومن ثمّ تعلم القوانين الاجتماعية وتعلم الانضباط لاحقاً.
وما يستطيع أن يحمي الطفل من هذا الشكل الجامد من الحياة هو الثالوث التربوي المهم والمتمثل بالهدوء والعقلانية والمرونة، فالهدوء شرط أساسي للتعامل مع كل القضايا المتعلقة بتربية الطفل حيث أنّ الارتكاسات العنيفة التي يبديها المربي تعطي للطفل مثلاً سيئاً عن اتخاذ القرارات وتعلمه أن يكون بنفس الشكل ارتكاسياَ، وبشكل عنيف في بعض الأحيان.
أمّا العقلانية تقول بأنّ كل طفل يمثل حالة فردية تستدعي التبصر الجيد والبحث المدقق عن أسباب التطور الطبيعي للنضج النفسي عند الطفل، وما يمكن أن يعترض ذلك من إشكاليات، وكيفية حلّها بشكل يحمي الطفل من عقابيلها دون الوقوع في شرط العلاج التزويقي أو تغطية العيوب والإشكاليات بالترقيع القسري. إذ أنّ المطلوب هو التعامل مع الطفل بشكل يضع صحة الطفل النفسية بالمقام الأوّل، عبر النظر بمنظار شامل للتحري عن أسباب أي إشكالية نفسية لحلها بشكل جذري لضمان التطور العضوي والنفسي الصحيحين للطفل.
والمرونة تأتي كمكمّل ضروري ومهم للشرطين السابقين إذ أنّها تعطي المربي والطفل إمكانية التفاعل البنّاء بين الاثنين ضمن شرط المحبة المتواشج مع كل من تلك المداخل، وليس شرطي الرهبة والخوف، لأنّ هذين الأخيرين يمكن أن يقودا إلى الانصياع من قبل الطفل؛ ولكنه بالتأكيد انصياع آني ومحدود زمنياً إلى حين تقدم الطفل بالعمر إلى الحد الذي يصبح معه قادراً على ألا يهاب المربي وقادراً على معارضته.
وإنّ المؤثرات الشدية التي تؤثر على الطفل ومحيطه الاجتماعي وخاصة الأسري منه تلعب دوراً جوهرياً في تكوين مثل هذه الاضطرابات، وأشير هنا إلى أنّ الإفقار الذي تعاني منه الكثير من العائلات والإهمال الاجتماعي لها، الذي يتظاهر من ضمن ما يتظاهر به ببطالة رب الأسرة، وما ينجم عن ذلك من مفاعيل سلبية تتناول البنية التي يناط بها تنشئة الطفل والحفاظ عليه في الوقت الذي تعاني هي من الإهمال والإفقار، وهما كفيلان بجعل كل الشروط والمتطلبات الأساسية لتنشئة الطفل والعناية بصحته النفسية رهناً للسعي المحموم وراء اللقمة الكافرة.
وتتظاهر تلك المؤثرات الشدية بشكل صارخ في حالات العمل المبكر للأطفال قبل سن 14 سنة وما يترتب على ذلك من سويات ونماذج متدنية وظالمة من العمل المقرون بأجور زهيدة وضمن شروط سيئة من الاحترام لشخصية الطفل في هذه المرحلة العمرية التي تكون بها الشخصية أحوج ما تكون إلى الدعم والاحترام لضمان تكامل نضجها واتفاقها مع الوسط المحيط بها.
ويؤهب كل ذلك بدءاً من الإفقار والإهمال الاجتماعي للعائلة والعمل المبكر للأطفال وصولاً إلى كل أشكال الظلم وانعدام العدالة الاجتماعية لتشكل وجهات نظر وآراء عميقة الرسوخ في نفس الطفل تتركز حول ردود أفعال ارتكاسية عميقة وفق قانون الارتكاس النفسي للظلم القائل بأن (( الظلم يلد ويعيد إنتاج الظالمين من عديد ضحاياه)) ، ويكون ذلك من خلال التمرد على قوانين المجتمع عموماً والتخطيط المستمر المتمحور تجاه الدفاع الخاطئ عن الذات من خلال دفع الظلم بنفس الوسائل الخاطئة التي أنتجته. وبذلك تنتج الأرض محصولاً جديداً بائساً لتلك البذور العقيمة التي اغترست عنوة فيها فأخرجتها عن صيرورتها الطبيعية التي تميل إلى العطاء واستبدلت ذلك بعكسه.
وهذا جدير بأن يجعلنا نبحث أولاً ليس في إصلاح وعلاج هؤلاء الأطفال الذين يعانون من اضطرابات السلوك الاجتماعي، وإنّما يجب السعي بشكل علمي وعملي لعلاج واستئصال الأسباب الأولية التي أنتجت مثل هذه الحالة الاجتماعية البائسة جراء بؤس وقصور وضن المجتمع على أطفاله.
ويعزز الكثير من نماذج طيف اضطرابات السلوك الاجتماعي عند الأطفال حالة إعادة إنتاج نمط المثل الأعلى وخلق نموذج جديد له وبشكل لا يتوافق مع واقع الطفل اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، عبر وسائل الإعلام العولمية التي تقدم للطفل مادة معرفية تعيد تعريف القيم العليا للإنسان، وتشخص نموذجاً مستحدثاً للبطل الذي يناط به أن يحمي هذه القيم الجديدة البهلوانية، ضمن الثالوث المرعب لوسائل الإعلام العولمي الاستهلاكي المتمثل بالعنف قدوةً ، وتسليع الإنسان والقيم مبدأ، والأنانية والفردانية والانعزالية سلوكاً.
وإنّ نظرة متفحصة لما يقدم في وسائل الإعلام وخاصة التلفاز الذي يستورد معظم نتاجه المقدم للأطفال ودون مراعاة للشروط المتعلقة بملاءمته للصحة النفسية للطفل في مجتمعنا العربي، لا بد أن تصيب كل عاقل حصيف بالإحباط الممزوج بالحسرة العلقمية. إذ أنّ وسائل الإعلام الجديدة وخاصة التلفاز أصبحت الشريك الذي يقضي معه الطفل وقتاً قد يكون أطول مما يقضيه مع عائلته وأقرانه، و هو ما يعني ترك الطفل في تماس مع طوفان من المعطيات المعرفية المستحدثة و غير الموجهة تربوياً، و يتركه في حالة سكونية غير فاعلة أقل ما يقال عنها أنّها غير ملائمة للاحتياجات التربوية المطلوبة في تلك المرحلة العمرية التكوينية الحرجة للأطفال، والتي لا بد لشكلها السوي من أن يتمحور أساساً حول تنمية حس الجماعة والتعاون بحيث يصير التعاون و العمل الجماعي مفتاحي تحقيق المهمات المطلوبة من الطفل، وليس العنف والقوة العظيمة لذلك البطل في ذلك المسلسل والذي يستطيع ومن خلال القوة الفردية وحدها أن يحقق المستحيل، مصوراً القوة العارية مفتاحاً صالحاً لحل جميع المشاكل، لا حاجة في وجوده للتطرق لمبادئ العمل والدأب والصبر والاستعانة والتعاون مع الآخرين.
ومن البديهي القول بأنّ تنمية القيم النبيلة التي يكون الطفل بأمس الحاجة لرفده بها لتكوين منظومته القيمية التي تختص بالتمييز بين الخير والشر والصحيح والخاطئ، تمثل أساس اللبنات الأساسية لتربية طفل صحيح من الناحية النفسية. وهو ما يخالف النمط السائد في برامج وسائل الإعلام العولمي الجديد التي غالباً ما تجري في فلك تلفيقي مفاده أنّ الأحلام الكبرى للطفل والمراهق الكبير تتركز حول مجموعة من قضايا الترف السطحي كامتلاك سيارة أو ألعاب مترفة أو ثروات فياضة ، مقدمة بذلك القيم الجديدة للاقتصاد العولمي، الذي يقيس كل شئ بمعادله المالي، فيصير الإنسان قابلاً للتسعير، ويصبح الكل مادياً ومعنوياً سطحياً وقابلاً للبيع والشراء.
وإنّ الخطوة الكبرى التي يمكن أن نقوم بها هنا لتخفيف الأذى إلى حدّه الأدنى من طوفان المؤثرات السلبية التي تدفع أطفالنا في مسارب بائسة، هو محاولة استنفار جميع الطاقات العقلانية الموجودة عند الطفل، والتي يظنها الكثير من البالغين ضعيفة، ولكنها على العكس من ذلك فهي منفتحة وقابلة للتطور إذا استطعنا تنميتها من خلال شروط الهدوء والمحبة والمرونة والدخول في علاقة حميمية مع الطفل تفتح لنا طريقاً لتنمية قدراته على التمييز بين الخطأ والصواب من خلال توضيح سبب حكمنا المنطقي على هذا الموضوع أو ذاك حين يشاهده في التلفاز مثلاً، بأنّه خاطئ أو صحيح، ويجب أن يكون توضيحنا ملموساً و حسياُ و مبسطاً بأكثر ما يمكن وأبعد عن التجريد الذي يصعب على الطفل استيعابه، ويجب التركيز على عنصرين لتنمية العقلانية الوقائية لدى الطفل:
الأوّل : هو حس العقل الذي يستطيع حل الأمور بالتفكير وليس من خلال الانفعالية والعنف.
الثاني : هو حس الجماعة والتعاون حيث أنّ الأعمال الصعبة لا يمكن إنجازها إلاّ من خلال التشاور والتعاون مع الآخرين مقتدين بذلك الشيخ الذي علّم أولاده أنّ قوتهم في اتحادهم وتعاونهم حين يكونون كحزمة واحدة متآلفة متعاضدة:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحاداً
ويعتبر الإدمان على متابعة التلفاز والألعاب الالكترونية والحاسوبية، واحداً من أهم العوامل المؤهبة لاضطراب السلوك الاجتماعي لدى الطفل، حيث أنّ عملية الإدمان هذه تنقص من الوقت الذي يقضيه الطفل في التعامل مع الوسط المحيط به، والذي يعتبر المدخل الأول والأهم ليتعلم الطفل من خلال التفاعل و التآثر معه كيف يصبح كائناً اجتماعياً من خلال استشرابه لثقافة التعامل الاجتماعي في الوسط الذي ينتمي إليه، بالإضافة إلى بحثه عن استنباط وسائل جديدة للتعامل مع المستجدات التي يتعرض لها اجتماعياً ومعرفياً؛ حيث تمثل هذه المستجدات زناداً قادحاً يتطلب من الطفل إعمال عقله و استنباط الكيفية الأجدى لتنمية كينونته ككائن اجتماعي عاقل، و حافزاً للسعي لاستبصار مدخل صالح يمكنه من تكشف طاقاته للتأقلم والتفاعل مع الوسط الاجتماعي المحيط به. وهو التفاعل البناء الذي لا بد أن يترافق بإدراك شامل لدى المربين سواء كانوا آباء أو معلمين لحقيقة أنّ الابتعاد عن هذا الوسط الاجتماعي من قبل الطفل، والانكفاء على مشاهدة التلفاز والألعاب الإلكترونية، كما يفعل بعض الآباء لتسلية أبنائهم أو إلهائهم، بالتأكيد سيترك آثاره السلبية التي ستتجلى أولاً في نقص الخبرة الاجتماعية ونقص القدرة على استثمار المهارات الفردية في التعامل مع الوسط الاجتماعي المحيط وشروطه وبالتالي يشكل أرضية خصبة لنمو كافة أشكال اضطراب التواصل الاجتماعي عند هذا الطفل. وهذا دون أن ننسى ما نذكر به دائماً عن دور الألعاب الالكترونية في زيادة الاستعداد للإصابة بداء الصرع.
و هناك مجموعة من الألعاب التنافسية غير الجماعية والتي يمكن للطفل أن يشارك بها وخاصة في مرحلة الطفولة الباكرة و يمكن أن تؤتي نتائج سلبية على تطوره الروحي و الاجتماعي، وأخص منها نوعين اثنين: الأول منها هو لعبة الكراسي الموسيقية، والثاني: هو سباق الجري الجماعي، حيث أنّهما يعطيان مدخلاً للطفل للبحث عن وسيلة للتفوق في هاتين اللعبتين يكون أقربها إلى ذهنه وأسهلها تطبيقاً هو استخدام القوة الجسدية لدفع الشريك في اللعبة وإقصائه عن منافسته وهذا هو عكس الدور المنوط باللعب في هذه المرحلة، والذي يجب أن يكون مدخلاً لتعلم روح الجماعة والتعاون مع الآخر.
ولذلك فقد تكون أفضل الألعاب التنافسية هي التي تضع الطفل في حالة التنافس الإيجابي من خلال وجود فريق يمثل فوزه فوزاً للطفل، مع ضرورة تغيير عناصر الفريق باستمرار بحيث يتعلم الطفل ضرورة التلاؤم مع الآخرين على اختلاف طباعهم ودرجة كفاءتهم في اللعب. ومن الأفضل دائماً تحويل التنافس إلى حالة من الإبداع البنّاء من خلال نقل حالة التنافس المباشر ومفهوم الفوز والخسارة إلى الخلف قليلاً وإبداله بمفهوم المكافأة والإطراء الذي قد يحصل عليه الطفل جراء تقديم عمل بنّاء وجميل كرسم لوحة بالتعاون مع رفاقه أو كتابة قصة أو تمثيل مسرحية بشكل جماعي، وبحيث يكون هذا الإطراء المقدم من المربي أو الوالد مدخلاً لتفادي ثنوية الربح والخسارة حيث أثبتت الدراسات الحديثة في الطب النفسي عند الأطفال أنّ تلك الطريقة تمثل الوسيلة الأنجع في تشجيع الطفل على أن يكون اجتماعياً ومبدعاً.
وقد تكون النقطة الأولى التي يجب التوقف المتمعن عندها في سياق مقاربة المحاور الأساسية في علاج اضطرابات السلوك الاجتماعي عند الأطفال هي ضرورة التعامل المتأني مع هذا النوع من الاضطرابات لسببين:
الأول: هو شيوعها وتأثيرها على العنصر الأهم في تواصل الفرد مع محيطه الاجتماعي أي ما يبديه من سلوك حياتي يحكم علاقته وتعامله اليومي مع الآخرين وخاصة إذا كان المتأثر بها طفلاً يعتبر التواصل مع وسطه الاجتماعي مدخله الأهم والأول للنضج وتعلم كيفية الانتقال من سوية الكائن الحي الاعتيادي إلى سوية الإنسان المتكامل مع مجتمعه وبشكل فعّال.
والثاني: هو أنّ هذه الاضطرابات تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لتعديلها، وبالتالي يجب أن يكون الموجه الأول في أي خطة علاجية موجهة لهذه الاضطرابات هو العقلانية والهدوء وليس الانفعالية العشوائية (وحتى لو كانت حسنة النية في جوهرها).
ونركز بشكل مرهف على أنّ العقاب والعزل والسجن وغيرها من الوسائل العقابية السلبية التي اتبعت ولا تزال تتبع بحق الكثير من الأطفال لضبط اضطرابات السلوك الاجتماعي لديهم لم يثبت لها أي فاعلية في علاج هذا الاضطراب على الإطلاق، والتي لا بد من السعي بشكل دؤوب ومرشد لاستئصالها جذرياً من أي توجه تقويمي تربوي يتبع حالياً أو في المستقبل.
ونضيف إلى ما سبق، أهمية الابتعاد المطلق عن طرد الطفل الذي يعاني من اضطرابات السلوك الاجتماعي من المنزل أو التهديد بقطع المصروف المادي عنه لكونهما الخطأين الأكثر شيوعاً في سوق هؤلاء الأطفال إلى طريق الذي لا عودة منه. ويجب بدل ذلك التوجه وبشكل متروي إلى تفهم الوضع النفسي السيئ للطفل وتطبيق الإجراءات الرادعة له بالتدريج دون أي إجراء عنيف ( كالطرد من المنزل أو الضرب)، والسعي بشكل موازي لتفهم السبب الذي يقوده إلى ذلك مع محاولة تعديله وتفكيكه، وتجاوز آثاره التي يتركها على الطفل بالوسائل العلاجية النفسية المتنوعة والتي قد يكون أنجعها هو المعالجة النفسية الجماعية التي تستهدف خلق معنى جديد وهدف جديد للحياة عند هذا الطفل من خلال المشاركة في نشاطات جماعية ومجموعات عمل ولعب جديدة تعيد له الرغبة الطبيعية لدى الإنسان لمحبة الوسط المحيط به والعيش فيه ومن خلاله والاندماج عضوياً به. ويمكن لترسيخ نتائج ذلك السعي لاستدماج الطفل اجتماعياً استخدام وسائل العلاج السلوكي لتدريب الطفل على اتخاذ منهج سلوك جديد أكثر ملائمة لناحية اندماجه بالوسط الاجتماعي بشكل أكثر حميمية وفاعلية. والعنصر المشترك والأهم بين هذه الإجراءات كلها أنّها تحتاج إلى تعاون فعّال من الأهل وصبراً متأنياً وعدم استعجال لرؤية النتائج لتلك الإجراءات وذلك لأنّ سيرورة التطور العصبي لدى الطفل، و عملية نضج البنية النفسية الوظيفية لديه لا يمكن أن تحدث بين عشية و ضحاها، و لأن دماغ الطفل غير قادر من الناحية العصبية على استبطان التعليمات النظرية التربوية البحتة ما لم تكن مقترنة بتجارب اجتماعية ترسخها في عقل الطفل، و التي إن لم يتم تقديمها بذلك الشكل فسوف يضطر الطفل راغماً لنسيان التوجيه الأخلاقي الذي تلقاه مسبقاً لعدم قدرته على استيعابه و استشرابه.
و لا بد من الحذر الشديد في تقديم مثل أعلى متهافت أخلاقياً يتمثل في الأكاذيب التي يبررها البالغون بأنها (كذب أبيض)، و الذي يمثل العتبة الأولى إلى استمراء الكذب و تعلم حذلقاته وفقاً لمنهج الازدواجية التلفيقية الذي شاهده عند مربيه حينما يواجه الطفل أي ظرف قد يكون اللجوء إلى مثل هذه الازدواجية أقرب الوسائل حضوراً في ذهنه، و مقدمة لاستبطان شخصية بهلوانية بشكل مبكر يصعب عليها لاحقاً أن تعود عن هذا النمط الذي لا بد أن يتمخض عنه شعور كامن لدى الطفل بعدم الثقة بنفسه لأنّه غير منسجم وغير صادق مع نفسه، فكيف له الخروج للاندماج مع المجتمع وهو مفكك وغير منسجم بنيوياً ووظيفياً من الداخل.
ويجب التشديد في هذا السياق على أنّ محاولة إخضاع الطفل إلى معايير تربوية وأخلاقية صارمة تتناول كل شاردة وواردة وكل صغيرة وكبيرة تتعلق بفعاليات الطفل الحياتية والفكرية تمثل عملية تنطوي على خطر كبير يتمثل بانسحاب الطفل من أي إمكانية لاتخاذ المبادرة الذاتية وبحيث يتحول إلى طفل فاقد لأهم ميزة في حياته المستقبلية ألا وهي القدرة على الإبداع واتخاذ القرار. ويتضح ذلك بشكل أكثر وضوحاً من خلال النماذج المختلفة من حالات القلق التي يعاني منها هؤلاء الأطفال الذي يكابدون مثل هذا النموذج التربوي. ومن ناحية أخرى فإنّ حالة الصرامة المستمرة تفقد الصرامة دورها وقدرتها في التأثير على الطفل إذ أنّنا نعرف وفق منهج التربية السلوكية ومنهج العقاب والثواب، أنّ تكرار المؤثر وبشكل متواتر بعد فترة سيؤدي إلى إضعاف قدرته على الفعالية مما يضطر المربي إلى زيادة شدته للتعويض عن نقص التأثير هذا، وهذا بالتأكيد سيقود إلى حلقة معيبة تكون نهايتها هو انعدام وخبو التأثير لمثل هذا النوع من الصرامة أو العقاب.
ولذلك فإنّ الحل الأفضل في مثل هذه الحالات التي تستدعي تداخلاً تربوياً لتعديل سلوك الطفل هو استخدام سياسة مزدوجة ، القطب الأول لها هو محاولة التعامل مع الطفل وفق سويته الإدراكية بمنهج يعتمد إلى توسيع قدرته على تفهم الخطأ والصواب ولماذا يكون ذلك خطأً ولماذا يكون ذاك صواباً ، والقطب الثاني هو استخدام سياسة الثواب والعقاب ضمن سياق التربية السلوكية المتأنية للطفل من خلال تطبيق مبدأ المكافأة وسحب المكافأة كسياسة أثبتت فعاليتها الجبارة في تعديل وتقويم السلوك عند الطفل، فحينما يكون السلوك مستحباً يمكن تقديم المكافأة ويمكن أن تكون ملموسة أو معنوية والأفضل أن تكون معنوية، و التي لا بد أن تكون بمثابة الرشوة من أجل القيام بالسلوك الجيد وإنّما يجب أن تتلو السلوك الجيد، ودون أن يكون لها تواتر ثابت يعرفه الطفل إذ من الأفضل أن تأتي بشكل عفوي إثر استحسان لفعل ما قام به الطفل ضمن سياق العلاقة الحميمية بين المربي والطفل. ويفضل كذلك أن نبتعد قدر الإمكان عن المكافآت المالية لما لها من أثر سلبي على تطور علاقة الطفل بالمال الذي يمكن أن يتحول إلى هدف راسخ في عمق البنية النفسية لديه، وما يمكن أن ينتج عنه من ظواهر البخل والتقوقع المادي مستقبلاً.
وفي حال كان السلوك الذي أبداه الطفل غير مقبول تربوياً فحينها يمكن اللجوء إلى التهديد بسحب المكافأة وعدم تقديمها مستقبلاً ، وكمثال عليها يمكن التهديد بعدم القيام بنزهة ما أو بعدم الاشتراك معه في اللعبة الجماعية التي يحبها...إلخ. وتعتبر هذه الوسيلة أنجع بكثير من كل وسائل العقاب وخاصة الجسدي الذي أثبت علمياً على أنّه أضعف الوسائل التربوية قدرة على تعديل سلوك الطفل نحو الأفضل.
ونشير أخيراً إلى ضرورة إبقاء حد عقلاني من المرونة والحرية للطفل في التعامل مع شؤون حياته اليومية، واعتماد التوجيه وتعليم فن التفكير والتحليل والنقد لدى الطفل، وإبقاء المراقبة لصيقة للسلوك العام للطفل، ولكن دون أن تكون محددة لنشاط الطفل وحريته، ودون أن تكون ملحوظة من قبله، لكي نتمكن من التداخل السريع عند الضرورة. ويعتبر ذلك بالتأكيد أفضل بكثير من الدخول في دوامة التسيير الشامل للطفل وعواقبها البائسة التي نحن أحوج ما نكون إلى عكسها من أجل ضمان نشوء أجيالنا صحيحة نفسياً وقادرة على الخلق والإبداع والعطاء لخير ذواتها ومجتمعاتها التي سوف تكون مسؤولة عن عيوشيتها وقدرتها على البقاء حينما يتحول أولئك الأطفال إلى بالغين أشداء أصحاء عقلاء في قابل الأيام.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. اعتقال ضابط إسرائيلي بإطار قضية التسريبات الأمنية.. ما التفا
.. هاريس وترامب يحاولان استقطاب الأقليات في ولاية ويسكونسن
.. كلمة الأمين العام للأمم المتحدة خلال فعاليات المنتدى الحضري
.. كلمة المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البش
.. تغطية خاصة | طرابلس تحتضن النازحين إليها من جنوب لبنان والبق