الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعهد المصري في مدريد في ذكرى تأسيسه ودوره في التقارب بين ضفتي المتوسط

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2020 / 11 / 11
الادب والفن


"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."

د.خالد سالم
قد لا يعرف كثيرون أن هناك مؤسسة عربية، مصرية، ذات مجد تليد في عاصمة أوروبية، كانت إلى عهد قريب مشعلاً يضيء درب العلاقات العربية الأوروبية بفضل أفكار رجال ذوي بصيرة، تركوا بصماتهم الثقافية طوال درب حياتهم. أعني هنا المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد الذي يكمل اليوم عقده السابع.
هذا الصرح ذو المعمار المميز وحديقته البسيطة والجميلة ومكتبه الكبيرة يقع في حي راقٍ من أحياء العاصمة الأوروبية التي بناها العرب وعلى أمتار قليلة من مقر أكبر نادٍ رياضي إسباني، ريال مدريد. وقف وراء هذا إنشاء هذا الصرح الثقافي العربي طه حسين ذو الرؤية الاستراتيجية، ليصبح نقطة مضيئة في عالم كانت الصهيونية قد أخذت تنفث سمومها ضد العرب والمسلمين وتشكك في دورهم الرئيس في صنع الحضارة الأندلسية، محاولةً البحث عن موطئ قدم لليهود في صنعها يضاهي دور العرب والمسيحيين.
أنشئ المعهد المصري -اسمه المنتشر بين كل من درسوا في إسبانيا- لهدفين رئيسين، هما إحياء التراث العربي الإسلامي في الأندلس والتعاون مع الباحثين والمستعربين في هذا الحقل على المستويين الإسباني والأوروبي. كان النجاح حليفه في تحقيقهما في عقوده الأولى حتى مطلع التسعينات، إذ ظل طوالها قِبلة المستعربين الإسبان ومد جسور التعاون مع الجامعات الإسبانية ومعهد الدراسات الإسلامية في باريس، في خمسينات القرن العشرين، بينما كان يديره العلامة ليفي بروفنسال الذي كانت له بصماته على هذا الحقل البحثي والمعرفي.
كانت مجلة المعهد جسرًا ومنارة للحضارة الأندلسية، تنشر دراساتها بعدة لغات ويقرؤها المستشرقون في القارات الخمس، وتضاف إليها المكتبة التي أصبحت من أغنى المكتبات العربية في إسبانيا قبل أن تطالها أيادٍ سوداء وتخطف منها الأضواء شبكة المعلوماتية. وإلى هذه المكتبة كان يحج الباحثين العرب والإسباني. وكنت أرى فيها خبيئة فرعونية معاصرة لما فيها من كنوز معرفية بلغات مختلفة، من بينها نسخة أصلية من كتاب "وصف مصر"، الذي أعدته الحملة الفرنسين، يحمل خاتم "معهد فاروق الأول"، الاسم الأساسي للمعهد عند افتتاحه في الحادي عشر من نوفمبر عام ألف وتسعمائة وخمسين بحضور الدكتور طه حسين، صاحب الفكرة ووزير الثقافة سنتئذ. كل مستعربي إسبانيا العظام حجوا إلى هذه المكتبة ونهلوا من مناقلها العامرة بأكثر من أربعين ألف مجلد في اختصاصات متنوعة، وكانت نقطة ينهل منها الباحثين كافة، خاصة طلاب أقسام اللغة العربية وكلية دار العلوم، وكلية الألسن واللغات والترجمة، فتركت أثرًا في دارسي الرعيل الثاني في إسبانيا، خلال السبعينات والثمانينات.
وإذا كان لنا أن نذكر بعض عظماء الإستعراب الإسباني الذي عمُرت بهم قاعة طه حسين في المعهد، فيأتي في مقدمتهم آسين بلاثيوس، القس المشهور الذي اكتشف تأثير الإسلام في الكوميديا الإلهية، وإميليو غارثيا غوميث، مدير مدرسة غرناطة للدراسات العربية ثم المجمع الملكي للتاريخ وصاحب كتاب عمدة في تاريخ العلاقات الثقافية العربية الإسبانية، "قصائد عربية أندلسية، الذي ترك أثره في أهم جيل شعري في القرن العشرين، جيل الـ 27، وعلى رأس من تأثروا بها الشاعر الغرناطي فدريكو غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتي وبيثنتي أليكساندري، حائز جائزة نوبل عام 1977. لا أزال أذكر محاضرات غارثيا غوميث في المعهد المصري إذ كان الجمهور يملأ قاعة طه حسين سلم المعهد المؤدي إلى القاعة ومدخله الواسع. هذا ناهيك عن تغطية وسائل الإعلام للحدث.
قائمة المستعربين الإسبان، الذين أثروا الدراسات العربية والأندلسية من خلال محاضراتهم في المعهد المصري ونشروا بحوثهم في مجلته، طويلة، ولعل أبرز الأحياء منهم وعمدتهم بدرو مارتينيث مونتابيث الذي غير مسار الإستعراب في إسبانيا بفتحه على دراسة الأدب والفكر العربي المعاصرين ويخرجه من دائرة الأندلسيات ليزداد ثراءً وتطول جسور التواصل بين ضفتي بحر الروم. هذا دون نسيان واضع أول وأهم قواميس بين اللغتين والدراسات اللغوية والشعرية فدريكو كورينطي قرطبة الذي رحل عن عالمنا خلال عام جائحة الكورونا.
حري الإشارة هنا إلى نقطة مهمة في إنشاء المعهد المصري في مدريد، أعنى الجهود التي بذلها المستعرب الشاب إميليو غارثيا غوميث خلال سني دراسته في قاهرة عشرينات القرن العشرين حيث حل وفي جعبته منحة لدراسة مخطوطات عربية ومعه توصية من صديقه الفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غاسيت لصديقيه طه حسين وأحمد زكي باشا، صاحب المكتبة الزكية التي نهل منها الباحث الشاب، خاصة المخطوطات الأندلسية التي أخذ منها كتابه الأكثر شهرة وتأثيرًا "قصائد عربية أندلسية" الذي نشره المعهد المصري في طبعته الثانية فور تأسيسه.
وللتاريخ أخط هنا ما حكاه لي شيخ المستعربين الإسبان في زمانه وهو أنه نثر بذور العلاقات الثقافية بين أرض الكنانة وإسبانيا عندما حل باحثًا في القاهرة حيث وُلدت صداقة متينة جمعته بطه حسين وتواصلا عبر لقاءاتهما في دورات مؤتمر "الشرق والغرب" في باريس، خلال السنوات التالية لدراسته في القاهرة، وتحدثا عن فكرة إنشاء معهد لمصر هدفه دراسة الحقبة الأندلسية بشكل علمي، بعيدًا عن شطحات الرومانسيين والحالمين الطيبين. وكان قد أخبرني خلال لقاءاتي العديدة معه، منذ أن وصلت إلى مدريد في مطلع الثمانينات حتى وفاته في منتصف التسعينات، أن الفكرة طال نقاشها إلى أن اختمرت لدى صاحب الرؤية الثاقبة الدكتور طه حسين، ونفذها في منتصف القرن.
وإذا كان قد كُتب للمعهد المصري أن يحمل مشعل إلقاء الضوء على الحقية الأندلسية والعلاقات الثقافية العربية الإسبانية فإن هذا يعود إلى رجال آمنوا برسالته، رغم التفاوت في درجة الوعي برسالة هذه المؤسسة المصرية التي احتضنت الأنشطة المصرية والعربية كلها عقودًا طويلة، وظلت الدول العربية رغم نفطها الوفير دون تأسيس لمراكز ثقافية تتضافر في جهودها مع هذه المؤسسة المصرية، درءًا لروح العداء تجاه كل ما هو عربي وإسلام في السنوات الأخيرة، واكتفت السعودية بإنشاء المركز الإسلامي، لكنه ذو توجه مختلف، وكان للعراق محاولة لم تدم كثيرًا فأنشأ مركزًا ثقافيًا لم يدم طويلاً، إذ أغلق بعد سنوات قليلة ترشيدًا للإنفاق إبان الحرب العراقية الإيرانية.
احتضن المعهد المصري الكثير من المثقفين العرب الذين حلوا ضيوفًا على مدريد جيلاً وراء جيل، من بينهم نزار قباني، عبد الوهاب البياتي، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، محمد سلماوي، نصر حامد أبو زيد وآخرين كثيرين، أو الذين آثروا مواصلة العيش في إسبانيا مثل النحات المصري لويس فلسطين والشاعر الفلسطيني محمود صبح، الأستاذ في جامعة مدريد كومبلوتنسي، وآخرين كثيرين. ويبرز بين رواد المعهد الفنان السكندري سيف وانلي الذي زار المعهد في نهاية الستينات وخطر له أن يرسم لوحة جدارية كبيرة تمثل الأزهر والحضارة الأندلسية حسب ما أسر لي أمين المكتبة وحارسها الأمين حسين بيه لبيب، كما كان يناديه أحد المدراء.
كانت الجامعات المصرية المنجم الرئيس في تزويد المعهد المصري بمدرائه منذ تأسيسه، من بينهم الأساتذة العظام حسين مؤنس، عبد الهادي أبو ريدة، علي سامي النشار، عبد العزيز سالم، أحمد هيكل، صلاح فضل، أحمد مرسي، سليمان العطار، وآخرون تزخر بهم القائمة، ويبرز بين الذين شغلوا منصب نائب المدير العلامة، ولسنوات طويلة في عهد حسين مؤنس، علامة الأندلسيات الراحل محمود علي مكي. ولسوء طالع المعهد المصري أن بعض من تقلدوا إدارته، من الرعيل التالي للعظام، لم يقدموا ما كنا نأمل منهم نحن الذين درسنا في إسبانيا، ولم يدركوا أن الظروف تغيرت وكان عليهم أن يبحثوا عن سبل تطوير المعهد في زمن العولمة وشبكة المعلوماتية.
وفي هذا يحضرني وصف مؤلم لأحد الأشقاء العرب الذين درسوا في مدريد وصف دور المعهد بالتكلس والانزاوء ليصبح مجرد "مكتب تشهيلات ثقافية" يخدم طلاب الدكتوراه المصريين! كان هذا في مؤتمر دولي عقد في عاصمة خليجة منذ ثلاث سنوات. لا يمكن لمؤسسة عظيمة كالمعهد المصري أن يوصف واقعه بهذا الكلام ولا أن يظل منصب مدير شاغرًا خلال العامين الأخيرين حتى شغلته زميلة الصيف المنصرم وكلي أمل في أن تنهض به بهمة الشباب ولأنها أعدت أطروحتها في مدريد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع