الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوغل داخل المرايا (ج 1 : مرآة النهر )

بديع الالوسي

2020 / 11 / 13
الادب والفن


1 : مرآة النهر

مشاغلها العائلية وكذلك العمل ومسؤولياته ، هي التي منعت ( تيريز ) من الالتحاق به . بعد عدة ايام من التردد استجابت لدعوة صديقتها ، عسى ان تنتشل روحها من مواجع تشاؤمية .
كانتا معا ً هذا الصباح ، لكن صوتا ً داخليا كان يقفز ويتردد في ذهن تيريز بين حين وآخر : يا ترى كيف حال أبي الآن ؟
الجميع يعرفها من عشاق النهر ، اذ لطالما رأوها هنالك تتأمل الأشياء والعالم ، من يمر بها يخالها صخرة في ذلك السكون ، تراودها افكار شتى هي مزيج بين الحزن والدهشة .
كانت قسمات وجهها تتغير كلما فكرت بابيها العجوز جوستاف ، الذي يعاني الجاف . ولكونها ابنته الوحيدة ، لذلك قررت ان تترك ابنها وزوجها وتسافر في الايام القادمة ، لتكرس جل وقتها للاعتناء بوالدها ، هذا التصرف الذي يصب في جوهر الحكمة والرحمة ، هو ما تعلمته من ابيها ، الذي نفخ في روحها حب الاشجار .
لكنها اليوم ارادت ان تنعم بصحبة النهر ، املاً في ان يمنحها زمن الرحلة البهيج بعض الراحة والاسترخاء وصفاء الرؤية والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة ، وربما سيساعدها على مراجعة الذات و مواجهة الموقف بعزيمة وصبر .
جلستا على الحصى المحاذي للنهر الوفير المياه .. كانت صديقتها البدينة تغني تحت شمس تموز التي تنير وتعمد روح العالم بالدفء .
اخيرا ، وصلت القوارب الملونة ، التي ستمكنهما من قطع مسافة 20 كم . نقيق الضفادع كالصراخ من كل صوب وحدب ، اصوات السائحين وضحكاتهم تصدح مع مرور قواربهم ، كانت رائحة النهر الجاري تغري تيريز وصاحبتها بخوض هذه المغامرة ، بعد ركوب القاربين الزاهيين ، انطلقتا حال ان نظرت البدينة الى ساعتها المشيرة الى الساعة الحادية عشر ظهرا ً .
تيريز لا تخشى الماء ، قالت لصديقتها  : ان امي تنعتني بالسمكة . لكن صديقتها ارادت تجرب حظها رغم المخاطر ، ما ان جرفها التيار حتى صرخت : اذا انقلب القارب سأغرق ايتها …
اما قارب تيريز فكان يقترب ويبتعد منها ، خلالها خطفت في ذهنها ذكريات عن ابيها الذي علمها السباحة في السنين الاولى من عمرها ، وكيف انه درَبها على انقاذ الغرقى في مرحلة الشباب .
هي لا تعرف لماذا كلمة غرق ، جعلتها تفكير بابيها الذي يعاني عطشا ً منذ اربعة ايام . اخذهن التيار وتركن ورائهن عويل الحشرات ، كانت منشغلة بمسايرة القارب ومحاولة سحبه الى تيارات الماء لتتخلص من اعباء التجذيف . في وحدتها راودتها هواجس تتعلق بصاحبتها واصدقائها الذين لا يعيرون اهتماما ً الى الافكار الجليلة .
في ذا الاثناء ، راودها تساؤل لجوج : اذا ما كان الاعتناء بابي فكرة عظيمة ... فلماذا صديقاتي لا يعرن بالاً لهذا الموضوع ولا يمجدن في حياتهن إلا اللحظة الراهنة !؟ . كل ذلك أشعرها بالحزن ، إذ لطالما ضحكن عليها كلما تحدثت معهن عن جريمة رمي الآباء في مأوى العجزة .
بعد جهد توقف قاربها عند تلك الجزيرة الصغيرة ، هنالك ستلتقط انفاسها وتريح عضلاتها ، في ذا الرخاء وقع بصرها على يعسوب تلتصق شرنقته بورقة قصب ، اخذته بيدها ، وصارت تنفخ عليه ، فجأة ً تحررت اجنحته ، لا تعلم لماذا تلك الولادة ذكرتها بابيها وهو ينحدر الى عوالم غامضة كمن يدخل شرنقة الموت . فكرت بما يتوجب عليها فعله ، صار اللحاق بصديقتها أمرأ ملحا ً ، لذلك قالت لليعسوب وهي تبتسم  : ما رأيك ان نكمل الرحلة معا ً ؟
لتقفز من جديد في زورقها وتدفعه نحو التيار ، بعد نصف ساعة اقترب قاربها من قارب صديقتها التي كانت ترتجف من هول التجربة وتضحك بهستيريا وهي تقول : اهلا ً وسهلا ً بالفرح .
كلمة الفرح كادت تبكي تيريز الحزينة ، التي تجاوزت الخمسون عاما ً لكنها لم تصادف من المواجع والاغتراب مثلما عانته خلال الاشهر الثلاثة الاخيرة .. قريبا ً من نهاية الرحلة ، ارتطم القاربان ببعضهما ، ازدادت ضحكات البدينة ، لكن كل ذلك لم يمنع تيريز من ان تقاطعها بتساؤل طرحته بلا اي ممهدات : هل تؤمنين ؟
اجابت : تعلمين جيدا ً يا عزيزتي إننا لا نؤمن بشيء ؟
كان الجواب قد اثار تيريز ، وجعلها تحاول ان تعيد صياغة السؤال وهي تشير الى الشمس : وهذه هل تؤمنين ب ..
قاطعتها : لست متأكدة ، ان كانت مصدراً للخير ام للشر ؟
صمتت لحظة ، ومن ثم نزلت من قاربها لتبلل جسدها المترهل ، بعد ان رمت الماء على تيريز وهي تقذف بهذه الجملة : انا سعيدة واشعر ان الحياة مجرد ...... وصمتت .
ذلك دفع بتيريز ان لا تنتظر ، وتسالها :
ـ هل هي مجرد نزهة نهرية ؟.
لم تجب صديقتها باي كلمة ، لا بل ارتسمت الحيرة على ملامح وجهها والدهشة على عينيها ، صعدت الى القارب وتكورت على نفسها محاولة ً الثأر ، لم تجد الكلمات المحددة لكن بالرغم من الانين سمعت تيريزا  تلك العبارة :
ـ يا لك من امرأة مسكينة ، قلبك لا يعرف ..... .
لم تهتم تيريز بكلماتها المنفعلة ، فان روحها ما انفكت تردد وبحزن : لا استطيع ان اصدق ، كل هذه الوفرة في المياه وابي يعاني العطش .!!
في نهاية الرحلة .. تم تسليم القاربين وقررت الاعتذار من صديقتها البدينة ..
في طريق عودتها ، كإنها سمعت صوت أبيها يترجاها : لا تتركيني اموت وحيدا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل