الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


توغل داخل المرايا ( ج 3 مرآة البحر )

بديع الالوسي

2020 / 11 / 15
الادب والفن


( 3 ) مرآة البحر
ما زالت تيريز تعتقد ان البحر طوق نجاة لها ، تهرع اليه كلما شعرت بضجر او حاجة ملحة ً للسباحة والترويح عن النفس ، ربما لهذا كانت تشكر الحياة دائماً لأن بيت والدها ليس بعيدا ً عن البحر ، مع ذلك ذهبت بسيارتها للبحر هذه المرة ، وفي الطريق كانت تخشى ما تخشاه ان تراودها افكار شيطانية بسبب الاعياء من السهر ومن عدم تحمل امها التي كانت لا تكف طوال النهار من ترديد : اريد ان اموت معه .
فبعد اسبوع من الاعتناء بوالدها ، وبعد ان تيقنت بان مخالب الموت غرست بلحمه المتبقي ، صارت تعرف بانه ما عاد بالإمكان ان يستعيد عافيته ، ولكي تقاوم كل هذا الجزع وافقت على مقترح جارتها التي ختمته : اذهبي الى البحر انه بانتظارك .
كم كانت تيريز بحاجة الى مثل هذا المقترح الذي ينم عن حس انساني وموقف نبيل جاء في الوقت المناسب .
وما ان همت بالخروج حتى التفتت وقالت لها :
ـ هاتفي المحمول معي ، متى احتجت الي ، ستجديني عندك .
وقبل الظهر بقليل ، انطلقت ، وحال وصولها رمت بحذائها في السيارة ونزلت حافيةً ، كان البحر رهواً والشمس ساطعة ً تبث بدفئها على الساحل الرملي ، مما حدى بتيريز ان تنصرف لهواية طفولتها ، حيث بدأت تنبش الرمل الرطب وتغطي جسدها به ، حاولت ان تتمدد بسلام ، ولا تدري كيف انها افلحت بأخذ اغفاءة استمرت اقل من ساعة بقليل ، لكنها كانت كافية لتزودها بجرعةٍ من الطاقة والامل الكبيرين . نفضت الرمل عن جسدها ، وقضت وقتا ً طيبا ً في البحث عن الاصداف والقواقع ، نزهتها بين الكثبان الرملية ساعدها على ترتيب افكارها والعثور على هدوئها الداخلي ، عادت بها الذكريات لأيام طفولتها حين كانت ترى الاشباح تطاردها وتفز مرعوبة ً ، وكيف ان والدها كان يحضر في الوقت المناسب لينتشلها من براثن الرعب ، ربما لهذا صارت تحب اباها اكثر من امها ، وظلت كذلك طوال سنين طفولتها ، تعتبره كتلة من الحنان ، وجل ما كانت تخشاه ، اذا ما افتقدته ، فسوف لا تجد بديلا يعوضها عنه .
مع ذلك وفي لحظة وجد يشوبها الحزن ، تمنت له ان ينطفئ مثل شمعة ، وان يخطفه الموت على حين غره ، مشاعرها تلك لم تنم عن حقد او كراهية ، بل لتحافظ في ذهنها على صورة ابيها الجميلة والقوية والمبتسمة للحياة ، قبل ان يتحول الجسد الى كتلة لحم اخرس او كومة عظام بلهاء ، وهذا ما عبرت عنه لأمها : انا متأكدة انه يريد ان نصلي لأجله .
لكن الام ردت متسائلة  بهدوء : وما فائدة الصلاة !! هل تعتقدين بانها ستساعد روحه على المغادرة بسلاسة ؟.
في ذا الاثناء ، ووقت زلوف الشمس للمغيب ، ومشاهدتها النوارس تغادر الصخور الى عرض البحر ، شعرت بالعزلة القاتلة وبانها وحيدة في هذا العالم ، مما جعلها تنفجر باكية ، متذكرة اباها الذي شقى عقودا من الزمن وبذل كل ما بوسعه كي تنعم هي بحياة مفعمة بالسعادة .
كانت في تلك اللحظات اكثر يقينا ً برحيل ابيها خلال الايام القادمة ، مع ذلك ظلت تراقب الأفق ، مرددةً في سرها كلاما لا يخلو من الزهو والفخر بابيها  : ستبقى قبلاتك اللطيفة على جبيني كدليلٍ على عظمتك .
المشي على الرمال الساخنة جعل ذهنها يعقد حوارات متخيلة مع والدها ، الذي اكتفى بسؤال واضح : لماذا الحياة قصيرة ؟
امام البحر الذي تعالت امواجه على حين غرة ، قررت ان لا تترك للحزن منفذا ً ليتسلل الى قلبها ، لكنها وضعت نصب عينيها ما يجب ان تقوم به من واجبات حيال والدها حتى نهاية المشوار . كل ذلك ساعدها على طرد التساؤلات المشؤومة التي ارقتها طوال الليلة الماضية .
وهي تتمشى لوحدها في ذلك المكان المقفر ، قفز الى ذهنها بصيص ذلك الحلم ، حيث راودها صراخ ذلك الطفل ، الذي كانت تسمعه من خلف ذلك الباب الموصد الكبير ، والذي ما ان خف نشيجه ، حتى تناها لسمعها تلك الكلمات التي كانت تنادي بصوت واضح  :
النجدة .. النجدة .
اغمضت عينيها قليلا ً وراحت ترقب تلك الغيوم الرمادية التي راحت تتشكل في كتلة تشبه عفريت مرعب ، لكن لألاء الشمس على صفحة البحر جعلها تتخيل هاتفاً لصوت ابيها وهو يتوسل بها ان تشعل شمعة قرب راسه ، ظنا ً منه بان النور سيسهم بطرد الارواح الشريرة .
ولكن اكثر ما اثار العجب لديها هو وصية والدها ، في ان تتذكر كل تفاصيل هذه الجولة لتحكيها له ، يا ترى لماذا ؟ قالت في خلدها : هل لمجرد ان يتسلى بسماع تلك التفاصيل في ساعاته الاخيرة ؟ ام اراد ذلك ليرى العالم من خلالها ؟ ام لغاية اخرى في نفسه ، ان يحمل معه تلك التفاصيل الى العالم الاخر !!.
كل هذه الأسئلة ضاعفت المواجع والمخاوف في نفس تيريز ، وقت الغروب ، خاصة بعد ان خلا الساحل تماما من البشر . لذا همت بالرحيل ، لكنها وهي تلقي اخر نظرة على السماء قالت : يا للهول !! حيث رأت اباها ينتصب واقفا ً وملوحا ً لها وسط البحر ، تحيط به اربع بجعات ، لم يدم ذلك طويلا ، كونه فجأة جلس القرفصاء ، وظلت مأخوذة ً بما ترى في ذلك الافق الدامي والصمت الرهيب ، مذهولة من وجه ابيها الخمسيني العامر بالابتسامة ، وما ان أغمضت عينيها لبعض ثوانٍ و شرعت بالصلاة ، حتى تخيلته بأم عينيها ، يغطس تدريجيا ً في الماء ، ولمحت البجعات الأربع يحلقن بعيدا ً .
وما ان فرغت من مراقبة ذلك المشهد الحلمي الذي لم تجد له من تفسير منطقي ، وفي سورة دهشتها ، راحت تحث الخطى نحو سيارتها ، مشتت الذهن تطاردها الوساوس كغيوم يوم خريفي .
من دون ان يمنعها شرودها من الامساك بالأمر الاكثر اهمية .. والذي دفعها ان تصرخ بصوت مسموع مبحوح  : ارجوك انتظرني ، يا ابي ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس